Saad Zaghloul Pemimpin Revolusi
سعد زغلول زعيم الثورة
Genre-genre
مقدمة
1 - سعد في سطور
2 - القارعة
3 - الثورة
4 - سفر الوفد إلى باريس
5 - الوفد في أوروبا
6 - من سفر الوفد إلى لجنة ملنر
7 - المفاوضة في لندن
8 - مسألة السودان
9 - تصريح 28 فبراير
Halaman tidak diketahui
10 - من المنفى إلى الوزارة
11 - في رئاسة الوزارة
12 - من رئاسة الوزارة إلى رئاسة النواب
13 - رئاسة مجلس النواب
14 - زعامة سعد وأثرها
مقدمة
1 - سعد في سطور
2 - القارعة
3 - الثورة
4 - سفر الوفد إلى باريس
Halaman tidak diketahui
5 - الوفد في أوروبا
6 - من سفر الوفد إلى لجنة ملنر
7 - المفاوضة في لندن
8 - مسألة السودان
9 - تصريح 28 فبراير
10 - من المنفى إلى الوزارة
11 - في رئاسة الوزارة
12 - من رئاسة الوزارة إلى رئاسة النواب
13 - رئاسة مجلس النواب
14 - زعامة سعد وأثرها
Halaman tidak diketahui
سعد زغلول زعيم الثورة
سعد زغلول زعيم الثورة
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
تسير الأمم على هدى من غايتها كلما تبينت مواقع خطواتها بين ماضيها وحاضرها، ويعظم رجاؤها في النجاح كلما أحست أنها أدركت نصيبا منه في الماضي وأنها خليقة أن تدرك نصيبا مثله أو يزيد عليه في المستقبل، ومصر لا تكسب شيئا من قول قائل: إن جهادها كله عبث، وإن زعماءها كلهم عجزة أو مقصرون. فإن هذا ظلم للماضي وللمستقبل في وقت واحد: ظلم للماضي؛ لأنه يخالف الواقع الذي تدل عليه المقابلة بين أمسنا ويومنا، وظلم للمستقبل؛ لأنه يثبط عزائم العاملين له، ويدخل اليأس على قلوب الآملين فيه، ومن دواعي التفاؤل أن سجل النهضة المصرية يدل على نجاح أدركناه ونجاح سندركه، إذا صدقت العزائم، واطرد المسير على الطريق المستقيم.
في هذه الصفحات التالية سجل النهضة التي نهضتها مصر على أثر الحرب العالمية الأولى، ويطيب لنا ونحن نقدمها أن نسأل: أين نحن اليوم؟ وأين كنا؟ فإذا بالجواب الواقع الذي تقرره شواهد العيان أننا تقدمنا ونرجو أن نتقدم، وأن التسوية بين مصر اليوم ومصر قبل ستين سنة أمنية لا يتمناها لمصر مصري رشيد؛ فإن الفارق البعيد بين ما كناه وما صرناه هو المقياس الصادق الذي تقاس به خطواتنا من أمس إلى اليوم، ونتمنى أن تستقيم في الغد إلى مدى أوسع جدا مما أدركناه.
كيف كانت مصر في مستهل الجهاد الذي تسجله هذه الصفحات؟
كانت الدولة كلها في قبضة «المندوب السامي»، أو قيصر قصر الدوبارة، يصرفها كيف شاء، ويتولى شئونها الداخلية والخارجية بغير حسيب ... وكان جيشها كله بقيادة «السردار» الإنجليزي الذي يثور ويسوق الأساطيل إذا هم بإصلاحه أمير أو وزير، وكانت كل وزارة في قبضة مستشارها الذي يأمر وينهى ويبرم وينقض بغير إرادة الوزير وبغير علمه في كثير من الأحيان، وكان كل إقليم في قبضة المفتش الإنجليزي الذي يختار الموظفين ويرشحهم للترقية أو للعزل من المدير إلى العمدة إلى الخفير، وكانت كل محكمة عليا لها قاض من قضاة الإنجليز، وكل محافظة في عواصم القطر الكبرى لها حكمدار من ضباط الإنجليز، وكان جيش الاحتلال من ورائهم يكظم منافس القاهرة والإسكندرية، ويقبض مرتباته من ميزانية الدولة المصرية، وكانت السياسة الاستعمارية تدير ميدان الاقتصاد المصري كأنه ديوان من دواوين الحكومة، فلا مصرف ولا شركة ولا مرفق من مرافق الثروة العامة بيد أحد من المصريين، وكل ما بيدهم ديون ثقيلة كأنها الأغلال في أيدي الأسرى والسجناء. وندع الفارق بين التعليم الذي تنفق عليه الدولة والأمة أقل من نصف مليون، والتعليم الذي تنفقان عليه أكثر من خمسين مليونا، فإن الأرقام تغني فيه عن الكلام.
ذلك مدى النجاح الذي أدركته مصر بنهضتها قبل ستين سنة، وإنها لسعيدة إذا تهيأت لها ستون سنة أخرى بمثل هذا الفارق العظيم بين ما نحن عليه اليوم وما نطمح إليه.
Halaman tidak diketahui
واعتقادنا أن النهضة لم توفق هذا التوفيق إلا لأنها امتازت على تقدمها من النهضات بمزيتين ظاهرتين: أولاهما أنها كانت نهضة أمة كاملة وجدت زعيمها، ولم يكن زعيم رهط محدود أو طبقة خاصة، والثانية أنها طلبت الاستقلال حيثما وجدت إليه سبيلا، ولم تقيده بوسيلة من الوسائل أو نظرية من النظريات.
وقد تغيرت ظروف العلم، وفعلت سنة التطور فعلها في تقدم الأمة المصرية، ومع هذا نرجع إلى المشروعات التي كانت مقترحة قبل نيف وثلاثين سنة، فنرى أنها سبقت الزمن بشوط بعيد، فلو نفذ مشروع منها لحقق لنا أمنية الجلاء وإلغاء الامتيازات قبل سنة 1936، وهي سنة المعاهدة التي أبقت على بعض القيود ولم تحطم جميع تلك القيود. ولا ينتهي العجب من غيرة الزعيم الشيخ سعد زغلول حين يعلم المطلع على هذه الصفحات أنه لم يقبل مشروعا ناقصا إلا وهو على مضض وبعد الرجوع إلى مبدأ الاستفتاء والإجماع، حرصا منه على وحدة الوفد ووحدة الأمة من ورائه جهد المستطاع.
هذه الوقائع التي تحملها هذه الصفحات خليقة أن تعزز الثقة بما بلغناه، والأمل فيما سنبلغه بالمثابرة والاستقامة إلى الغاية، وقد اخترناها من كتاب «سعد زغلول» وافية على حدة بتجلية الحوادث التي اشتملت عليها، وتوخينا في اختيارها أن تنتظم صلة الحاضر بالماضي، وأن تستقيم بها الطريق على هدى التاريخ الصحيح.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
سعد في سطور
في أول يونيو سنة 1860 ولد سعد زغلول في قرية «إبيانة»، وكان أبوه الشيخ إبراهيم زغلول عميد القرية، وأمه بنت الشيخ عبده بركات من أسرة عريقة.
ورث سعد من أبويه بنية الفلاح وصلابة الخلق وصدق العزيمة، ولما مات أبوه وهو في سن السادسة عني بتربيته أخوه الأكبر.
ألحق سعد بمكتب القرية حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، ثم أرسل إلى الأزهر حيث ثابر على حضور الدروس بين يدي المجددين من أساتذته، وكان يتردد على مجلس جمال الدين في داره.
حينما استعانت الحكومة بالشيخ محمد عبده في تحرير «الوقائع المصرية» سعى في تعيين سعد لتحرير القسم الأدبي، فمكث محررا بها حتى نشبت الثورة العرابية.
Halaman tidak diketahui
اشترك سعد في الثورة العرابية وناله من أذى الاعتقال بلاء غير يسير، وخسر وظيفته، وبات في قائمة أنصار عرابي باشا.
اضطر إلى احتراف المحاماة، وكانت الدولة البريطانية قابضة على ناصية الأمور، فنمى إلى المسئولين أن سعدا وزميلا له ألفا جماعة سرية باسم «جماعة الانتقام»؛ فاعتقلا وظلا في الاعتقال بعد الحكم ببراءتهما أكثر من ثلاثة أشهر.
وبعد ثماني سنوات عرضت عليه وظيفة «نائب قاض» بمحكمة الاستئناف في سنة 1892، فقبلها، وبقي في القضاء 14 عاما، ثم عين وزيرا للمعارف، ثم وزيرا للحقانية.
اعتزل الوزارة وعزم على ترشيح نفسه للجمعية التشريعية، فنجح في الدائرتين اللتين رشح نفسه فيهما نجاحا فاق كل تقدير، واختير وكيلا للجمعية التشريعية فكان وكيلها المنتخب.
نشبت الحرب العظمى في يوليو 1914، وفي ديسمبر أعلنت الحماية البريطانية، ولم تمض أشهر حتى أطلق الإنجليز أيديهم في دواوين الحكومة، وأمعنوا في التضييق على أعداء الاحتلال.
وبعد انتهاء الحرب تألف «الوفد المصري» للسعي للحرية والاستقلال، واختير سعد رئيسا للوفد؛ فكان قائد النهضة المصرية الباسل، وزعيمها العظيم، وقد كافح وناضل، ونفي في سبيل بلاده.
كان أول رئيس لوزارة شعبية بعد الاستقلال، وأول زعيم مصري ألقى خطبة العرش الأولى حين افتتح الملك فؤاد البرلمان في 15 مارس سنة 1924.
تولى رياسة مجلس النواب حتى توفي في 23 أغسطس سنة 1927 وهو في السابعة والستين من عمره.
الفصل الثاني
القارعة
Halaman tidak diketahui
لا بد لنا من قارعة!
تلك هي الكلمة التي كان يرددها سعد في الأسبوعين الأخيرين قبل نفيه؛ لأنه كان يرى بحق أن السكوت يتبعه سكوت، وأن الحركة تتبعها حركة، ولم يكن جازما بأن الثورة آتية بعد القارعة التي كان يتصدى لها ويستبطئ وقوعها؛ لأن المعسكرات والقلاع والمطارات في مصر كانت تعج بالجيوش، وتزدحم بالمدافع والدبابات والطيارات، والمصريون مجردون من كل سلاح حتى الهراوات والمدى وبنادق الصيد، والخطب ممنوعة والصحف مراقبة، والذهاب والإياب بمرصد من الجواسيس والعيون، فإذا تعذرت الثورة على المصريين، فغير عجيب أن تتعذر، وغير لزام أن تثور أمة في هذه القيود، وهي لا ترجو بالثورة العزلاء أن تغلب الغالبين المزودين بكل سلاح.
لم يكن جازما بأن الثورة آتية، ولكنه كان جازما بأنها إذا أتت فلن يكون مجيئها إلا بقارعة تشعل نيران الغضب في الأمة الوادعة المتحفزة، وفي وسعه هو أن يتصدى للقارعة المرجوة المرهوبة. فليتصد إذن لها، وليعمل ما في وسعه، وعلى المقادير بقية التدبير.
وعندنا أن سعدا لو كان جازما بالثورة جزما لا تردد فيه لكانت بطولته دون هذه البطولة، ونصيبه من الإقدام دون هذا النصيب؛ لأنه يقدم ولا يخشى أن يطول الخطر الذي يقدم عليه، ويجازف ويعلم أن غضب الثورة يحميه. فأما أن يقدم وهو لا يبالي أن يستهدف للنكال دون أن يتبعه أحد، أو يقفو ضربته ضارب، فتلك هي البطولة العليا؛ لأنها بطولة الواجب، وهي أعلى وأقوم من بطولة الحساب والتقدير.
ومضى يوم ولم تأت القارعة فاستبطأها، وكان من عادته أن يخرج من مكتبه ليتمشى في الطرقة لحظة ثم يعود إليه، ففي مساء اليوم التالي لإرساله البرقية إلى رئيس الوزارة لقي عضوا من أعضاء الوفد في تلك الطرقة فقال له: «إن الجماعة لم يأتوا بعد، أتراهم لا يأتون؟» ثم قال: «هذا ليس بنافع، إنهم إما أن يدعونا نسافر أو يقبضوا علينا، وإلا فهم يتركوننا نموت في مواضعنا.»
بيد أن هذا القلق لم يطل أكثر من يوم آخر؛ لأن «الجماعة» المنتظرين أتوا في مساء اليوم التالي؛ أي في اليوم الثاني من شهر أغسطس. فجاء إلى بيت الأمة - عند الساعة الخامسة - ضابط بريطاني برتبة صاغ، ومعه ضابط آخر برتبة الملازم ومترجم مصري، ووقف على جانبي الباب الخارجي جنديان بريطانيان يحمل كل منهما بندقية في طرفها حربة، وكان طالب من طلاب المدارس العليا قد دخل إلى بيت الأمة قبل مجيئهم مهرولا، فأبلغ الأستاذ فؤاد القصبجي
1
الذي كان يعمل يومئذ في قلم الكتاب والمترجمين الملحق بالوفد المصري أنه رأى ضابطا بريطانيا يستوقف محمد محمود باشا في طريقه إلى بيت الأمة، ويركبه سيارة من سيارات الجيش الإنجليزي. فخرج الأستاذ فؤاد ليخبر سعدا بما أبلغه الطالب، وإذا به أمام الضابط البريطاني على باب الحجرة، فارتد هذا وبادره بالإنجليزية: «إني أريد مقابلة سعد زغلول باشا فأين هو؟» فأجابه الأستاذ فؤاد بالفرنسية: «تفضل فانتظر في حجرة الاستقبال ريثما أخبر الباشا.» وأشار إلى حجرة الاستقبال، فلم يفهم الضابط قوله وظن أن الباشا في الحجرة التي أشار إليها، وعاد يقول: «هل سعد باشا هنا في الحجرة؟» فقال الأستاذ فؤاد: «لا، وإنما أنا ذاهب لإبلاغه.» فنظر إليه الضابط نظرة فاحصة، وقال له: «بل أنا أريد أن أراه بغير وساطتك.» فاعتذر الأستاذ وهتف في شيء من الاستغراب: «إن العرف هنا لا يبيح الزائر أن يقدم نفسه بنفسه!» قال الضابط متهكما: «في هذه الزيارة لا بأس من المقابلة والتقديم في وقت واحد!» والتفت إلى الأستاذ فؤاد فرآه واضعا يده اليمنى في جيبه، فخيل إليه أنه يخرج سلاحا فناداه في لهجة عسكرية: «ارفع يديك.» وأسرع الضابط الثاني إلى مسدسه يستعد لتجريده.
وكان سعد في مكتبه قد شعر بما يجري على حجرة الاستقبال؛ فخرج إلى باب المكتب، ولمحه الأستاذ فؤاد والضابط هناك في وقت واحد، فقال الأستاذ للضابط: «ها هو سعد باشا.» فتركه الضابط واتجه إلى الباشا وهو يحييه التحية العسكرية.
نظر الباشا إلى الضابط مليا ثم دعاه إلى المكتب، فرفع قبعته ودخل معه، ثم خرجا والباشا يتقدمه في ثباته المعهود إلى درج السلم حيث وقف وقال له بالفرنسية: «لست أذهب معك على قدمي، سأرسل في إحضار مركبة.» فلم يفهم الضابط قصد الباشا وردد قوله: «لدي أمر بالقبض على سعادتك.» قال الباشا وهو يبتسم: «فهمت ذلك جيدا، ولكني أريد إحضار مركبة.» ففهم الضابط عند ذلك بشيء من العناء، وأشار إلى حيث تقف السيارة العسكرية بالانتظار. وكانت آخر كلمة قالها سعد قبل مغادرته بيت الأمة «تشجعوا» ... قالها بالفرنسية وكررها مرات.
Halaman tidak diketahui
ولما هم بالنزول التفت الضابط إلى الواقفين الذين تجمعوا في هذه الفترة وسأل: «أين إسماعيل صدقي باشا؟» وكان صدقي باشا مع الواقفين فقال: «أنا هو.» فقال الضابط: «تفضل بالمجيء معي.» فأجابه: «حسنا، ولكن تسمح لي بالرجوع لحظة إلى المكتب.» فوضع الضابط يده على كتفه وقال: «لا، إني أخشى أن تذهب!» قال صدقي باشا: «لو كنت أريد الهرب لما أظهرت نفسي.» ثم أفلت من يده ومضى إلى المكتب، فانتظر الضابط إلى أن عاد ... ثم سأل: «أين منزل حمد الباسل باشا؟» فلم يجبه أحد، وبعد هنيهة أشار أحد الواقفين إلى المنزل ودل الضابط عليه.
ولم يذكر لي الأستاذ فؤاد قصبجي فيم كانت عودة صدقي باشا إلى المكتب تلك اللحظة، ولكني علمت بعد ذلك أنه عاد إليه ليقصي بعض الأوراق الهامة مخافة أن تأخذها القيادة العسكرية أثناء التفتيش.
ولما هم الضابط بالانصراف تقدم إليه عبد العزيز فهمي (بك) والاضطراب باد عليه، وقال بالفرنسية: «إذا أردتم مرة أخرى استدعاء أحد منا فيكفي أن تكتبوا إليه وهو يحضر إليكم.» واضطر إلى أن يكرر عبارته مرة أو مرتين؛ لأن الضابط لم يفهمها لأول مرة، فلما فهمها قال له: «أشكرك.» ومضى.
وبعد نحو ساعة حضر إلى بيت الأمة حمد الباسل باشا، وكان قد علم بما حدث، فخاطب مركز القيادة العليا بفندق سفواي سائلا: «إلى أين تريدونني أن آتيكم؟» فأحالوه إلى ثكنة قصر النيل ليسألها ... وطلبت منه هذه الحضور على الأثر؛ فودع أصحابه وذهب إلى الثكنة.
وقد أدخل سعد وأصحابه في الثكنة، كل واحد منهم إلى حجرة منفردة حتى المساء، ثم سمح لهم بالاجتماع ساعة العشاء، وقضوا الليلة في الثكنة يتساءلون عن مصيرهم، وفي الصباح أبلغهم ضابط كبير أنهم قد سمح لهم باستحضار ثياب من منازلهم تكفيهم لمدة شهر، وبخادم لكل منهم، إذا شاء.
وفي اليوم الثالث سئلوا: «هل أنتم على استعداد للمسير؟» فأجابوا: «على أتم استعداد.» ونزلوا مع الحراس إلى فناء الثكنة، فركبوا سيارتين تتبعهما سيارة بضاعة، تحمل الأتباع والحقائب.
وخرجت السيارات مسرعة إلى محطة العاصمة، فلما نزلوا منها أحاط بهم عشرون ضابطا إنجليزيا، ومعهم محمود صدقي باشا محافظ العاصمة، وساروا بهم إلى الرصيف الذي يقف عليه قطار بورسعيد، وأدخلوهم جميعا إلى ديوان واحد في القطار، ومعهم واحد من الضباط.
لم يكن سعد وأصحابه يعلمون الوجهة التي يتجهون إليها، فكانوا عند خروجهم من ثكنة قصر النيل يحسبون أنهم منقولون إلى معسكر المعادي، فلما اتجهت السيارة يسارا، وبلغوا قطار بورسعيد ظنوا أنهم منقولون إلى رفح أو إلى السويس، ثم وصلوا إلى بورسعيد ووجدوا هناك ضابطا بريطانيا بالانتظار، فأركبهم معه سيارة إلى الميناء وأصعدهم إلى نقالة بريطانية تقل ألفين من الجنود الإنجليز في طريقهم إلى بلادهم، وأخذ البحارة في تدريبهم على وسائل النجاة عند الخطر؛ لأن السفن كانت تصطدم بالألغام كثيرا في بحر الروم.
علموا أنهم منقولون إلى جزيرة مالطة حيث كانت القيادة العسكرية تأسر المعتقلين من المصريين والترك والألمان، ولكنهم لم يعلموا ذلك من ضابط النقالة إلا بعد الخروج من الميناء. فقيل لهم في عرض البحر: إنهم ذاهبون إلى تلك الجزيرة. ووصلوا إليها بعد ثلاثة أيام.
تساءل الكثيرون: على أي قاعدة جرت الحكومة الإنجليزية باختيار أصحاب سعد الثلاثة في هذا الاعتقاد؟ وتعليل ذلك ما نرى أن القيادة العسكرية لاحظت التقاليد الرسمية في اختيار كبراء الوفد الذين يعتقلون مع رئيسه، فإسماعيل صدقي باشا وزير سابق، ومحمد محمود باشا مدير سابق، وحمد الباسل باشا من غير الموظفين هو رئيس قبيلة بدوية كبيرة يعرفه الإنجليز من أيام الحرب الطرابلسية، وجميعهم يحملون لقب الباشوية، فاختيارهم هو الاختيار الوحيد الصحيح من وجهة التقاليد الرسمية.
Halaman tidak diketahui
الفصل الثالث
الثورة
سرى نبأ الاعتقال بطيئا متناقضا في اليوم الأول؛ لأن القيادة العسكرية حظرت على الصحف نشره والتلميح إليه، فعلم به أعضاء الوفد وأصدقاؤه وموظفوه في يومه، وعلم به طلبة المدارس العليا في اليوم التالي؛ لأنهم يجتمعون في أمكنة متقاربة، وينتمي بعضهم إلى أعضاء الوفد وأصدقائه بصلة القرابة أو المعرفة، وتسامعت به أحياء القاهرة شيئا فشيئا، وانتقل منها إلى الأقاليم بمثل ذلك البطء والتناقض، فلم يسر إلى القطر كله إلا بعد يومين أو ثلاثة.
أضرب طلاب المدارس العليا في صباح اليوم العاشر من شهر مارس عن تلقي الدروس، وخرجوا من مدارسهم في مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج على اعتقال الزعماء، وعلى كبت شعور الأمة وحرمانها الحق في إبداء مشيئتها، وهي تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلى بيان حقها وتقرير مصيرها.
وأضرب عمال الترام بعد الظهر، ثم أضرب الحوذية في اليوم الحادي عشر، وأصبحت الدكاكين مغلقة في معظم أنحاء المدينة إلا الدكاكين الأوروبية، وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس وطلاب الأزهر وطوائف شتى من الجمهور، فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير، ولا بين مشترك أو غير مشترك في المظاهرة.
وكانت نقابة المحامين قد أعلنت الإضراب؛ فانقطع المحامون عن المحاكم إلا من كان يوفدهم المجلس إليها لطلب تأجيل القضايا، واستثارت القسوة في قمع المظاهرات غضب الناس وحنقهم؛ فكثرت المظاهرات بدلا من أن تقل، واضطرمت وقدتها بدلا من أن تخمد، وطاش صواب الحراس العسكريين من جراء هذه المفاجأة؛ فأصبحوا لا يميزون بين جمع وجمع، ولا يطيقون النظر إلى حشد من الناس. ففي يوم الجمعة الرابع عشر من شهر مارس أطلقت السيارات المدرعة نيرانها على حشد كبير بجوار المسجد الحسيني؛ فقتلت منهم بضعة عشر وجرحت خلقا كثيرين، ولم يكونوا في مظاهرة ولا قصدوا إلى التظاهر، ولكنهم كانوا خارجين من المسجد بعد أداء الصلاة، وضابط الفرقة يجهل كل شيء إلا أنهم قوم متجمعون، وعنده أمر صريح بإطلاق النار على كل قوم متجمعين!
وتعددت المظاهرات في مدن القطر، فقوبلت بمثل ما قوبلت به في القاهرة، وسرت أخبار القتل وإطلاق الرصاص إلى أنحاء الأقاليم؛ فانفجر كمين السخط الذي طال كظمه في الصدور، وانفجرت الثورة في كل مكان.
من الخطأ أن يقال: إن المظاهرات كانت هي سبب الثورة الوحيد، أو إن الثورة ما كانت لتنفجر في القطر لولا مظاهرات العاصمة. فإنما كانت المظاهرات كالشرر الأول يتطاير من فوهة بركان يغلي وهو يهم بالانفجار، فمن شهد تلك الثورة الجارفة التي اندفعت في حينها اندفاعا يدل على عمق مكامنها وتأجج وقودها، أيقن أنها قوة لا تحبس طويلا، وأنها هي سبب المظاهرات وليست نتيجة المظاهرات.
فقد صبر الناس زمنا على مظالم الحرب ومضانكها، ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة، فإذا بهم يعالجون مرارة الخيبة ويوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية، وزاد في نكايتهم أنهم يعانون هذا الكظم كله في الوقت الذي تعلو فيه دعوة الإنصاف وتتجاوب فيه الأصداء بالظفر والرجاء، وأنهم يطلبون أمرا يسيرا هو حق الشكوى والاحتجاج فيجابون بالتهديد والإقصاء عن البلاد، ثم يستنكرون هذا العنت الغاشم فيعاقبون بإطلاق الرصاص، ولا يراد منهم إلا أن يختنقوا وهم صامتون.
فلما شاع خبر إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وشاعت أخبار الموتى والمعتقلين من الطلاب والشبان العزل المسالمين، طغى الغضب بعد أن طم، وظهر بعد أن عم، وكان ظهوره على نمط واحد في جميع البلاد بغير تدبير ولا سبق اتفاق، فبدأ انقطاع السكك الحديدية ما بين طنطا وتلا في اليوم الثالث عشر من الشهر، ثم انقطعت في جهات كثيرة دفعة واحدة، وتناول التحطيم والتخريب أسلاك التلغراف والتليفون وقضبان السكة الحديد حيثما وصلت إليها أيدي الثائرين.
Halaman tidak diketahui
ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود، وهو تعويق القاطرات المسلحة والفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى لجمع السلاح، وتفتيش المنازل العسكرية في جمع السلاح من بداءة الحرب، حتى جمعت المدى الكبيرة والعصي الغليظة وكل ما يصلح للتسلح به في عراك أو مشاجرة، ثم لمحت بوادر الثورة بعد اعتقال الزعماء، فعادت إلى حملة أخرى من حملات التفتيش، وأوجس الناس من عواقب هذه الحملة شرا، فخطر لبعضهم أن يعوقوها بقطع المواصلات.
إلا أن الباعث الأكبر إلى التحطيم والتخريب كان اندفاعا جامحا بغير قصد مرسوم: اندفاع الساخط يحار فيما يصنع وهو ساخط، كأنما هو في هذه الفورة الجامحة صريع مكموم محبوس في بيت مغلق، يريد أن تسمعه الدنيا ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره. فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان؛ لأن هذه العوارض هي كل ما يستطاع في تلك الحالة. ولو كان باعث التحطيم العدوان على الملك والنفس، ولم يكن مجرد الاحتجاج وإبلاغ الصوت إلى العالم لاتجه الثائرون إلى نهب خزائن الحكومة وأموال الأغنياء والمصارف، وهو ما لم يحدث قط في بلد من البلدان.
وظل الإنجليز مضللين عن فهم شعور هذه الأمة، يفسرون أعمالها بأسباب المصالح، ولا ينظرون إلى بواعثها النفسية، كأنما البواعث النفسية عامل لا يحسب له حساب في حركات الجماهير. فظنوا أن أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية. وربما طاب لرؤسائهم أن يفهموا ذلك؛ لأنهم أبلغوا حكومتهم في لندن أن الأمة هادئة فاترة، وأنها ضعيفة لا يخاف منها انتفاض.
وأن أناسا كثيرين - ومنهم بعض المصريين - ليعجبون إذا عرفوا الآن أن هذه الثورة المفاجئة لم يقع فيها تنظيم ولم تكن فيها رئاسة مدبرة على الإطلاق، وأن مظاهرة الطلبة الأولى وقعت على غير علم سابق من الوفد، بل على خلاف النصيحة التي سمعها الطلبة من بعض أعضائه الذين بقوا في القاهرة بعد اعتقال سعد وأصحابه الثلاثة.
لكنها هي الحقيقة التي نؤكدها بعد استقرائها من مصادر عديدة. فإن الطلبة أصبحوا مضربين في مدارسهم يوم المظاهرة، وهم مختلفون في الخروج أو البقاء، ثم خطر لفريق منهم أن الخروج ربما خالف مشيئة الوفد، وأفسد عليه رأيا يفكر فيه أو خطة يتوخاها، فبعثوا إلى «بيت الأمة» أفرادا منهم يستفسرون، ويعودون إليهم بما يقر عليه رأي الأعضاء، وهناك التقوا بالأستاذ «عبد العزيز فهمي بك»، فأفضوا إليه بقصدهم، وأبلغوه هياج الطلبة وتحفزهم للخروج والتظاهر في أحياء العاصمة؛ فثار بهم الأستاذ وانتهرهم انتهارا شديدا وهو يقول لهم ما معناه: «إن المسألة ليست لعب أطفال ... دعونا نعمل في هدوء، ولا تزيدوا نار الغضب اشتعالا عند القوم.»
فتركوه وهموا بالانصراف متذمرين مغتمين، وإذا بالأستاذين محمود أبي النصر وعبد اللطيف المكباتي يلحقان بهم ليخففا عنهم أثر الكدر الذي خامرهم من تأنيب عبد العزيز بك، فتلطفا في التسرية عنهم والنصح لهم بالتزام السكون واجتناب المظاهرات، وانصرف رسل الطلبة على أن يبلغوا زملاءهم ما سمعوه وهم مترددون بين الإغضاء عنه أو الإصغاء إليه، ولكن زملاءهم كانوا قد استبطئوهم، وتهايجوا بما سمعوا من كلام خطبائهم واستثارة دعاتهم، فخرجوا قبل أن يعود إليهم رسلهم بنتيجة سؤالهم، وتمت المظاهرة الأولى على هذا المنوال.
أما حوادث الأقاليم، فقد تمت بغير إيحاء ولا تدبير؛ إذ لم يكن للوفد في ذلك الحين لجان يجوز أن يقال إنها اتفقت على تنفيذ خطة مرسومة في جميع الأقاليم، ولم يكن خبر السكة التي قطعت بين طنطا وتلا قد شاع في القطر حتى يقال إنه جاء في طليعة الحوادث بمثابة الإيحاء والقدرة على عمد أو على غير عمد. وإنما نجمت الثورة من بديهة الأمة كلها؛ لأنها كانت كلها على اتفاق في الغضب المكظوم والتأفف الذي بلغ مداه.
ولقد أخطأت السلطة العسكرية في كل تدبير؛ فكانت تستفز الناس بكل عمل تقصد به إلى البطش والإرهاب ، وتدفعهم إلى نقيض ما تريد من الخوف والطاعة، وتثير النفوس إلى التحدي والمعاندة بدلا من الإذعان والسكينة.
بالغت في قمع المظاهرات فزادت المظاهرات، وأنذرت كل من يقطع المواصلات «بالإعدام رميا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية»، فكان جواب هذا الإنذار إضراب عمال السكة الحديدية في اليوم التالي وخروجهم من مصانعهم متظاهرين، ثم اندفع الناس إلى قطع القضبان وأسلاك التلغراف والتليفون غير مكترثين للعاقبة، فانعزلت القاهرة والمدن الكبرى من جميع الجوانب، واضطرت السلطة إلى استخدام الجنود الإنجليز لتسيير القطر وتنظيم المواصلات. وبعد أن كانت تتوعد القرى التي تنقطع السكة على مقربة منها بالغرامة عادت إلى نشر إنذار تقول فيه: إن كل حادث جديد من حوادث التدمير «يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من سواها من مكان التدمير» ... واستدعى القائد العام بعض الوزراء والسروات في اليوم العشرين، وحذرهم من دفع السلطة إلى «تدمير العمائر وتخريب القصور»، وطلب إليهم أن يبذلوا جهدهم في النصح للشعب بالهدوء والإقلاع عن «المشاغبات».
كل ذلك والثورة تتفاقم، والجماهير تقدم وتقدم، ومنهم من أغاروا في بعض البلدان على مراكز الشرطة، فانتزعوا ما فيها من السلاح؛ فاستخدمت السلطة الطيارات والبواخر النيلية لإيصال المدد إلى الجهات المعزولة، وحدثت أثناء ذلك مناوشات قتل فيها خلق كثير.
Halaman tidak diketahui
على أن الثورة لم تكن فورة غضب بغير معنى، كما أراد أعداؤها والناقمون منها أن يتخيلوها، فلو كانت كذلك لما ظهر فيها ما قد ظهر من نفحات النخوة القومية والأريحية الإنسانية التي ترتفع إليها الشعوب كما يرتفع إليها الأفراد في ساعات السمو والإشراق والفداء. فإن هذه النفحات لا تظهر في سورات الغضب الحيواني حين ينطلق على غير هدى وفي غير مطلب، ولكنها تظهر حين تكون الثورة إعرابا عن شعور مكتوم ونزعة مشبوبة إلى الكمال، وقد كانت الثورة المصرية كذلك، فغلب فيها الروح القومي على كل عصبية وكل علاقة وكل فارق، مشى فيها علماء الأزهر يحملون بساط الرحمة في تشييع جنازات الشهداء، ويرفعون الأعلام وعليها شارة الهلال والصليب، وقام القساوسة في المساجد يخطبون المسلمين، ويؤدون ما يؤدى لها من الشعائر الدينية، وخرج العقائل والأوانس من الخدور يسابقن الرجال والشبان إلى المهالك والأخطار ويستهدفن لجند مسلحين متأهبين كأنهم في ميدان قتال، وغلبت فرائض الحمية الوطنية على كل فريضة وكل تقليد؛ فكان الضباط يسيرون إلى جانب القضاة والمحامين، وطلاب المدرسة الحربية يسيرون إلى جانب الطلاب في كل مدرسة، وكانوا جميعا ينادون باسم مصر، ولا يذكرون إلا أنهم مصريون.
وتجلت بسالة التضحية على مثال رائع نبيل كأنبل ما سطرت تواريخ الجهاد والفداء في وثبات الأمم. فمات أناس يحملون العلم أنفا من الفرار أمام نيران المدافع وهم عزل من السلاح، ويرى إخوانهم مصرعهم، فيبادرون إلى رفع العلم ليستقبلوا مصرعا كمصرعهم طائعين متنافسين، في لحظة يطيقون فيها رؤية الجثث المطروحة لقى ولا يطيقون رؤية العلم ملقى على التراب.
وقد أحاطت بالمصريين في تلك الأيام موغرات كثيرة من فتك وإرهاب وخشونة واستفزاز، وفي بعضها ما يشفع للناس لو طغت بهم مرارة النقمة وجمحت بهم لواعج الضغينة، لكنهم مع هذا لم يقترفوا سقطة واحدة تشين صاحبها في غضبه أو رضاه، ولم ينسوا أدب المروءة في أشد أوقات الهياج والاضطراب؛ فلم يعتد أحد قط على طفل أو على شيخ عاجز أو على امرأة، وشهد اللورد اللنبي للثورة المصرية بهذا الأدب في الكتاب الأبيض حيث قال بعد ثلاث سنوات: «كانت سيدة إنجليزية مستقلة مركبة مفتوحة، فهاجمها الرعاع وقذفوها بالحجارة يوم الجمعة في حي بولاق، وقد نجت من الأذى البليغ بأن اتخذت من مظلتها مخبأ فمزقت الأحجار المظلة، وهي أول مرة اعتدي فيها على امرأة في كل السنوات الثلاثة الماضية.» ولو ثبتت هذه الحادثة كل الثبوت لما كانت شيئا يذكر؛ لأنها لن تكون إلا الندرة التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها، ولكن التحقيق لم يثبت بوجه من الوجوه أن السيدة كانت مقصودة بالاعتداء والإساءة ... وإلا فما الذي كان يحمي سيدة منفردة لا تحمل معها إلا المظلة من عدوان العشرات والمئات الذين يقصدونها بالإيذاء؟! إن انفراد هذا الحادث في جميع سنوات الثورة لحقيق وحده بالجزم بنفيه لا بمجرد التشكيك فيه، وقد سبقته الحوادث الكثيرة المشهورة في أعنف أيام الهياج، فكان الثائرون يتورعون فيها جميعا عن المساس بالسيدات والأطفال، ومنها حادثة «بهيج» المشهورة على الحدود الغربية، التي شهدت فيها صحف الاستعمار بترفع الثوار المصريين على هذه السقطات ثائرة على المستعمرين، وفي وسعها أن تلفق عليها التهم وتزور عليها العيوب.
لقد حدث أن أفرادا من الأرمن أطلقوا الرصاص على المتظاهرين من نوافذ المنازل فلم يكن جزاء الثائرين لهم إلا بمقدار ما يقتضيه دفع العدوان ومنع تكراره، وحدث أن الغوغاء في أثناء المظاهرات قذفوا زجاج الدكاكين بالحجارة، فحسب بعض الأجانب أنهم مقصودون بالسخط والعداوة، والحقيقة أن إلقاء الحجارة على تلك الدكاكين لم يكن عن شعور العصبية أو العداوة للأمم الأجنبية، وإنما كان استنكارا لفتحها في أيام الإضراب، وإحساسا من الغوغاء بأن أصحابها يجبهون شعور الأمة ويستخفون بمطالبها ويترفعون عن مجاملتها. فأصابوا دكاكين المصريين التي اتفق فتحها في تلك الآونة كما أصابوا دكاكين الأجانب، ورجحت كفة الأجانب في الخسارة؛ لأن متاجرهم أكثر عددا في الأحياء الإفرنجية التي تطوف فيها المظاهرات، ومع هذا لم ينس الطلبة أن يعتذروا إلى «الضيوف» من عمل الغوغاء في بيان نشروه في الصحف العربية والإفرنجية، وعلقوه على وجهات الدكاكين ووعدوا باتقاء تكراره في المستقبل.
ولم يجد المستعمرون في الواقع حادثا يستغلونه للتشهير والتشويه غير حادث ديروط أو ديرمواس الذي قتل فيه ثلاثة من الضباط وخمسة من صف الضباط الإنجليز، وهو حادث على جسامته لا يذكر إلى جانب الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء حملات التأديب والتفتيش ... ومنها فظائع العزيزية والبدرشين والشبانات التي نترك تفصيلها إلى غير هذا المقام، وسنضرب عنها صفحا في هذا الكتاب، ولا نذكر من فظائع قمع الثورة إلا مثلا صغيرا يغني بالدلالة عن الشرح والإسهاب، وهذه خلاصته بعد التجاوز والتلطيف.
في أول سبتمبر سنة 1934 نقلت إلينا الأنباء البرقية من لندن أن جنديا إنجليزيا سيق إلى المحكمة لاتهامه بمقتل عشيقته، فكان من المحاسن التي تشفع بها إلى المحكمة واعتقد أنه يستحق بها العفو والرحمة أن قال بغير سؤال ولا مناسبة إنه كان صولا بالجيش البريطاني بمصر سنة الثورة فقتل ثلاثة من المصريين، وإنه بعد بضعة أسابيع كاد صديق له أن يقتل فقتل هو مصريا آخر، ثم عمل في شركة للسيارات رئيسا للمهندسين، وعمل في خدمة أمير مصري أربع سنوات، وقد لخص القاضي الدعوى فقال: «إنه مهما يكن ما فعل تافني - اسم الرجل - فإن رؤساءه يومئذ لم يعدوا ما فعله جريمة.»
فهذا جندي من قامعي الثورة يفاخر بما جنى بعد الثورة بخمس عشرة سنة! وبعد أن أكل خبزه من خير أمير مصري أربع سنوات! وهو واحد من عشرات الألوف لا يسألون عمن قتلوا، ولا يحتاجون إذا سئلوا إلى عذر أكثر من ادعاء الخطر والدفاع عن الحياة، وكل من لديه ذرة من التصور وذرة من الإنصاف ليعلم بعد ذلك أن الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء ثورتهم أكبر وأهول بما لا يقاس من فظيعة الاعتداء على فئة من الضباط والجنود كلهم مسلحون، ولا يتكاثر عليهم الجمهور الأعزل من السلاح.
وندع فظائع الثورة جانبا ونسأل: لم كل هذا؟ أكانت هذه الزوبعة الدامية ضرورة لا محيد عنها؟ أكانت حادثا لا يمكن اتقاؤه؟ كلا! لم تكن ضرورة ولا مصلحة. وكان ميسورا أن تجتنب اجتنابا وأن يحقن كل ما سال فيها من دماء، ويصان كل ما خرب فيها من عمار وضاع فيها من أموال، لولا الأخطاء المتلاحقة التي ارتطمت فيها السياسة الاستعمارية لقلة اكتراثها للعواقب، وإلقاء اعتمادها كله على العدد الحربية، وأنها تضمن لها قمع الأمم الضعاف إذا ضاقت الصدور عن الاحتمال.
فهي أخطأت في البداءة بإعلان الحماية واغتصاب أرزاق المصريين وأدوات معيشتهم في إبان الحرب العظمى. وكان في مقدورها أن تتقي كل ذلك بأن ترد إلى المصريين استقلالهم، وتكل إليهم أن يدبروا بأنفسهم ما يعنيهم من أمر المعاونة في الحرب بما يطيقون. فإن لم يوافقها ذلك فماذا كان يمنعها أن تعلن الاستقلال، وترجئ النظر في تفصيل قواعده إلى ما بعد الفراغ من القتال؟!
ثم أخطأت بحرمان زعماء المصريين إبداء مطالبهم والبحث في مستقبلهم، مع أنهم لم يقصروا في المجاملة ولم يبدر منهم - وهم يخاطبون رجالها هنا أو في إنجلترا - أثر من التحدي والإعنات.
Halaman tidak diketahui
ثم وقعت الأزمة الوزارية التي لا بد من وقوعها، فألقت على الزعماء تبعتها، وألقى الزعماء التبعة عليها، ولم يكن رد الزعماء من قبيل التراشق بالتهم والمجاوبة على الادعاء بمثله، ولكنه كان هو الحقيقة بعينها في نظر المنصفين الواقفين على الحيدة لا في نظر الوفد المصري وحده؛ فالمسئول عن الأزمة الوزارية وعن صعوبة تأليف الوزارة المصرية هو السياسة الاستعمارية، أو هو كما قال الوفد: «أولئك الذين وضعوا من هم أهل للوزارة في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمام مواطنيهم.»
وإلا فماذا يقول الوزير المصري لأبناء وطنه، إذا فرضنا أنه أراد فعلا أن يخدم السياسة الاستعمارية ولا يحفل بمصير وطنه؟ أيقول لهم: إني خائن لا أبالي بغير الوصول إلى المنصب؟! أم يقول لهم: إنني أتولى المنصب لأحول بينكم وبين المطالبة بالاستقلال أو السفر إلى حيث تشتركون في تقرير مصيركم؟! وهل يستطيع أن يقول لهم ذلك في الوقت الذي ينادي فيه ساسة الإنجليز أنهم لا يمنعون أمة متقدمة أو متخلفة أن تشترك في تقرير مصيرها؟!
فإحجام الساسة المصريين عن قبول الوزارة حتى لا حيلة لأحد فيه؛ إذ ليس يوجد في مصر ولا في غير مصر مرشح للوزارة يشتري المنصب بهذه الخيانة الصريحة ولو كان مدخول الضمير؛ لأنها خيانة سمجة مبتذلة لا تستر فيها ولا مغالطة ولا عذر لمن يشاء أن ينتحل الأعذار، ما دامت الأمة تطلب حقها والوزارة التي أذعنت للحماية قد تحركت للبحث فيها، والعالم كله ينادي بحقوق الشعوب وتقرير المصير ... ففي هذا العمل لو أقدم عليه المرشح للوزارة قضاء حياته السياسية إن لم يكن فيه قضاء على الحياة.
لكن القيادة العسكرية شاءت مع هذا أن تلقي التبعة على الوفد في هذا الموقف الذي لا حيلة فيه للوفد ولا لأحد من المصريين؛ فأخطأت خطأها الغاشم، واعتقلت رؤساءه جزاء على السيئة التي أساءتها هي ولم يسيئوها. ثم أخطأت بعد هذه السلسلة من الأخطاء في بطشها الدموي بمن غضبوا لذلك العسف المبين عزلا من السلاح، ومن نادوا بما كان ينادي به أقطاب الحلفاء في مؤتمر السلام، ولعلها لو فسحت لهم جو بلادهم ينادون فيه بما يشاءون، لما خرجت الثورة من طور الدعوة إلى طور التخريب والتحطيم.
وأكبر أخطاء السياسة الاستعمارية جميعا، بل هو الخطأ الذي يطوي فيه جميع الأخطاء؛ أنها أساءت تقدير الشعور الذي كان يسور ويثور في نفوس المصريين قاطبة على تفاوت الطبقات والمشارب، فليس في وسع إنسان سياسي أو غير سياسي أن يجهل هذه الأمور كلها كما يجهلها نائب المندوب البريطاني - السير ميلن شيتهام - قبل الثورة بأقل من ثلاثة أسابيع؛ فإنه كتب إلى حكومته في الرابع والعشرين من فبراير يقول: «إن الوزيرين رشدي وعدلي فقدا الشهرة الموقوتة التي عادت عليهما من الاستقالة، وإن زغلولا لا يثق به أحد، وإن هناك قلقا يسيرا بين أفراد الطبقة العليا الذين يطمعون في تعظيم مكانتهم ببلوغ مرتبة من مراتب الحكومة الذاتية، ولكن الحالة لا تختلف في لبابها عن الحالة التي طرأت في سنة 1914 عندما رفض الأمير حسين وكبار الوزراء طويلا أن يقبلوا الحماية ما لم تكن مشفوعة ببعض المنح التي لم نكن على استعداد لإعطائها، وإن الحركة الحاضرة على كل حال ليست بالتي تضارع حركة مصطفى كامل، أو بالتي يصح أن تؤثر في قرارات الحكومة البريطانية فيما يتعلق بالمسائل الدستورية والوضع الذي توضع فيه الحماية.»
ولما بدت طلائع الثورة لم يجد هذا السياسي النادر ما يداري به غفلته وعجزه عن سبر غور الحرية الوطنية إلا أن يعزوها إلى أسباب أجنبية غير وطنية؛ فأبرق في التاسع من مارس يقول: «إن الحركة معادية لبريطانيا معادية للعرش معادية للأجانب، وفيها نزعات بلشفية نتيجة إلى تخريب الأسلاك والمواصلات، وهي منظمة مدبرة ولا بد أن تكون مأجورة.»
وأذاعت الحكومة البريطانية مذكرتها عن الثورة بعد ذلك بشهر فجاء فيها: «إن هناك شواهد تثبت أن الخطة مدبرة منظمة بإحكام ... ومما يستحق الملاحظة أن الخطة التي نفذت تشابه البرنامج الذي رسمه الألمان والترك للغارة على مصر في خريف سنة 1914، وهو البرنامج الذي أفضى به إلى السلطات المصرية الجاسوس الألماني مورس المقبوض عليه في الإسكندرية، وإذا حسبنا كل حساب للحالة العقلية أو لدواعي التذمر الناشئة بين الفلاحين المشار إليها آنفا، فكل هذا لا يكفي لتعليل هذا الانفجار الخطير المنظم الذي تلوح فيه إصبع تركيا الفتاة، كما قد تلوح فيه إصبع الألمان.»
إي والله! ثورة تشمل أربعة عشر مليونا يدبرها الترك والألمان في الخارج أو في الداخل، ولا تعثر فيها السلطات الإنجليزية بدليل واحد على هذا التدبير غير التنجيم والتخمين! وإن الإنسان لا يدري أيضحك أم يحزن من هذا التفكير العجيب الذي يعلل ثورة مصرية تنفجر في شهر مارس بأنها دسيسة أجنبية دبرتها حكومات منهارة مضى على هزيمة رؤسائها وتفرقهم في البلاد وانقطاع الصلة بينهم وبين أتباعهم عدة شهور ... وأدعى من هذا إلى الحيرة بين الحزن والسخر أن تكون الثورة من صنع الطبقات العليا ومن صنع البلشفية في وقت واحد!
ولا نظن أن الغفلة وحدها هي سر هذه التعديلات المضحكة المبكية التي تعلقت بها السياسة الاستعمارية في تلك الفترة، ولكنها رأت وكلاءها قد وقعوا في الجهل الذي لا رجعة فيه فاستغلت جهلهم أحسن استغلال في استطاعتها؛ لأنها وجدت لها فائدة من تشويه الحركة المصرية بنسبتها إلى جواسيس الترك والألمان، ووجدت أنها قد تحول بهذا التشويه بين الدعاة المصريين ومسامع الحلفاء والأمة الإنجليزية. فمزجت بين الغفلة والذكاء هذا المزيج الجدير بأساليب الاستعمار!
ولقد ظل القوم يتخبطون في فهم الحركة وسبر أغوارها حتى بعد عمومها وانتشارها، وطفقت الحوادث تتلقاهم مرة بعد مرة بتكذيب ظنونهم وتقديراتهم، فلا تنجاب الغشاوة عن أبصارهم. ومن ذاك اعتقادهم بعد شبوب الثورة في البلاد أنها ضرب من الشغب الذي يفرقون فيه بين طائفة من الأمة وطائفة أخرى، كما كانوا يصنعون في العهد السابق تارة بين الباشوات ولابسي الجلاليب الزرقاء، وتارة بين طلاب الوظائف وأصحاب المصالح الحقيقية، وتارة بين المسلمين والمسيحيين ... فألقى اللورد كرزون بعد انفجار الثورة بنحو أسبوعين بيانا يثني فيه على الموظفين المصريين؛ لأنهم ثابروا على أعمالهم في إبان الهياج الذي غمر البلاد، ويقول فيه: إنهم صفوة المتعلمين من المصريين «فمسلكهم هذا يدل على أن عقلاء الأمة لم يشتركوا في الحركة الأخيرة». فكان جواب هذا الثناء المزري أن أجمع الموظفون في الدواوين كلها على الإضراب ثلاثة أيام إعلانا للتآزر بينهم وبين طبقات الأمة في المطالب الوطنية، وكتبوا عرائضهم بهذا المعنى إلى صاحب العظمة السلطان، وأبلغوها الحكومة الإنجليزية.
Halaman tidak diketahui
لم تنقطع هذه الأخطاء ولا جرائرها، أيام الثورة ولا بعدها، ولم يقع منها الضرر على أحد غير المظلومين فيها، ومن ذا الذي يحاسب الأقوياء حين يخطئون مع الضعفاء؟!
وهكذا يليق الخطأ ويليق التمادي فيه بالأقوياء؛ لأنهم في غنى عن حسبان العواقب، ويستأثر الضعفاء بسوء العاقبة وإن جهدوا في اجتناب الأخطاء؛ لأنهم ضعفاء!
الفصل الرابع
سفر الوفد إلى باريس
جلس سعد وأصحابه الثلاثة في طريقهم إلى المنفى يتساءلون، وأول سؤال طبيعي يخطر لهم وهم مفارقون البلاد هو السؤال عما عسى أن يجري فيها بعد إقصائهم عنها: هل تسمع بالخبر؟ وهل تملك أسباب الثورة؟ وهل تقوى القيادة العسكرية كظم النفوس طويلا بعد هذه الضربة؟ فأما سعد فكان رأيه أن الثورة عمل شاق على بلد أعزل مرهق بالأعباء مشحون بالجند والسلاح والأرصاد. ولكنها إذا كانت واقعة فشعور الناس بالاختناق والتماسهم المنفس للجهر بآلامهم المكبوتة كاف لانفجارها والاستيئاس فيها.
وقريب من هذا رأي إسماعيل صدقي إلى نزعة من شكوك الرجل الحديث.
أما حمد الباسل ومحمد محمود فقد كان رأيهما الرأي الطبيعي لزعيم قبيلة بدوية وصاحب عصبية في الصعيد؛ فآخر شيء يطيب لزعيم القبيلة أن يفكر فيه أن قبيلته لا تثور لأجله ولا تأخذ بثأره، وكذلك صاحب العصبية في الصعيد، فاتفقا على ترجيح الثورة وإن لم يتفقا على النتيجة.
ويظهر أنهم - سواء منهم من رجح الثورة العاجلة ومن لم يجزم بوقوعها العاجل - قد وطنوا النفس على البقاء زمنا ليس بالقصير في جزيرة مالطة، ولم يخطر لهم أن الإفراج عنهم قريب. فبحث سعد عن منزل يستأجره وفكر في استدعاء السيدة الجليلة قرينته إلى الجزيرة ؛ لحاجته إلى العناية الصحية التي لا يجدها هناك في غير المنزل برعاية الزوجة الرءوم، ولم يفكر صحبه الآخرون في ذلك؛ لأنهم شبان أصحاء بالقياس إليه.
وصلوا إلى مالطة بعد أن قضوا في النقالة ثلاثة أيام. وقد كان سعد متعبا من مشقة الانتقال والدوار. وكان بين الشاطئ ومعتقل «بلفورستا» الذي اختاره حاكم الجزيرة لهم مسيرة نصف ساعة على القدم، فبحثوا عن مركبات في جوار الميناء فلم يجدوا إلا مركبة صغيرة يجرها حصان واحد. ركبها سعد وسار رفاقه وراءه على الأقدام، ووصلوا إلى المعتقل، فوجدوا أن السلطة العسكرية قد أعدت لكل منهم حجرة للنوم وأخرى للاستقبال، وثالثة للمائدة ومكانا للحمام.
وأراد سعد أن يكون أول عمل له في منفاه استئنافا لعمله في القاهرة، وتحديا للنفي والإرهاب، واستمرارا في المطالبة بالاستقلال وإنكار الحماية. فلم يكد يستريح من عناء سفره حتى كتب الرسالة البرقية الآتية إلى رئيس الوزارة الإنجليزية، يكرر فيها المطالب التي جاء من أجلها إلى هذه الجزيرة:
Halaman tidak diketahui
إن شرف الممالك يقدر بمقدار احترام ساستها ورجالها للمعاهدات السياسية التي يبرمونها والتصريحات الرسمية التي يفوه بها رجال تلك الحكومة الرسميون. ولما كانت إنجلترا في معاهدة لندن عام 1840 قد ضمنت استقلال مصر، كما أقسمت الملكة فكتوريا والبرلمان بالتاج والشرف عام 1882 أن الاحتلال لن يكون إلا وقتيا وأعلن جلادستون عام 1887 أن أوان الجلاء عن مصر قد آن، ولما كنتم جنابكم الرئيس الممثل لحكومة جلالة ملك بريطانيا والمدافع عن كرامة بلاده وشرف الأمة الإنجليزية الحرة؛ فإني أطالب جناب الرئيس المبجل برفع الحماية التي أعلنتها حكومتكم على بلادنا قسرا لمقتضيات الحرب وجلاء الجنود البريطانية عن وادي النيل احتراما للمعاهدات والتصريحات التي ذكرناها وصيانة لشرف أمة أنت على رأس حكومتها، وليأذن جناب الرئيس بأن أذكر أن سياسة العنف والإرهاق التي اتبعت معنا لا تزيدنا - نحن المصريين كافة - إلا تمسكا بمطالبنا، وثباتا في موقفنا، وأنه خير لإنجلترا أن تكون لمصر صديقة، وهناك نستطيع أن نقطع على أنفسنا عهدا بأن نصون مصالحكم، ونروج تجارتكم في بلادنا.
ولا شك أن آخر ما انتظرته الحكومة البريطانية - وهي تنفي زعيم مصر إلى جزيرة مالطة عقابا له على طلب استقلالها - أن لا تفيد من ذلك إلا أن تصبح الجزيرة ميدانا آخر من ميادين المطالبة بذلك الاستقلال!
نزلوا في المعتقل معزولين عن بقية الأسرى على خلاف السنة التي كانت متبعة فيه قبل وصولهم، ولم يؤذن لهم بالخروج للرياضة في الخلاء إلا مرتين كل أسبوع بعد التوقيع على حلف كتابي يقسمون فيه بالشرف أن لا يهربوا، ولا يساعدوا أحدا على الهرب، ولا يعطوا أحدا نقودا، ولا يعملوا شيئا فيه إيذاء لجنود جلالة الملك ... وبعد كل هذا لم تكن السلطة الإنجليزية تسلمهم من مالهم إلا بمقدار ما يلزمهم أول فأول لضرورة المعيشة، وكانوا قد برحوا مصر وليس معهم من النقد إلا قليل، فأرسلوا - بوساطة السلطة - يطلبون مالا من ذويهم في مصر، فجاءهم خمسمائة جنيه لكل من سعد وحمد الباسل ومحمد محمود، ومائة جنيه لإسماعيل صدقي، فأودعتها السلطة مصرف الجزيرة، وأباحت لهم أن يشتروا ما يشاءون بتحويلات يقبضها البائع من المصرف، ورخصت لهم في استخدام طاه ألماني وإبقاء النور الكهربائي إلى ما قبل منتصف الليل بنصف ساعة، فكانوا يقضون الوقت في التعاون على تعلم اللغات التي يحسنها بعضهم ولا يحسنها الآخرون.
ولم يسمعوا شيئا عن مصر ولا عن ثورتها إلا حين زارهم اللورد مثوين حاكم الجزيرة، وهو يقول لهم عرضا: «أشعلتم النار في مصر وجئتم إلى هنا!» فعلموا أن في مصر أحداثا خطيرة، وأدركوا أنها الثورة حين استطاع طاهيهم الألماني أن يدس إليهم بعض القصاصات عن صحيفة التيمس، وعرفوا منا قبسا من مظاهرات الطلبة وثورة البدو في الفيوم، ولكنهم لم يسمعوا بما يدلهم على مداها وتفصيلات وقائعها.
وبعد شهر من مالطة جاءهم النبأ بالإفراج عنهم والسماح لزملائهم في القاهرة بالسفر إلى حيث يشاءون، وأنهم مأذون لهم في السفر على الباخرة «كاليدونيا» التي تقل أولئك الزملاء، وستصل إلى الجزيرة صباح يوم الثلاثاء الموافق لنصف أبريل.
فكان لذلك النبأ في نفوسهم وقع عظيم؛ لأنه بشرهم بالحرية التي طالما تمنوها للسعي في قضية بلادهم، وأثبت لهم أنهم يسعون في قضية تستحق عناءها، ولا تخيب رجاء الساعين فيها.
فتفاءلوا بالإفراج عنهم خيرا، وفرحوا بما أولاهم من الثقة وتأكيد العزيمة أضعاف فرحهم بالطلاقة من الاعتقال، وباتوا على شوق إلى صباح يوم الثلاثاء؛ لينعموا بلقاء أولئك الزملاء الذين فارقوهم، ولا يعلم منهم أحد متى يكون اللقاء، وليسمعوا منهم تفصيل الحوادث التي لمحوا بصيصا منها في شذرات الصحف الإنجليزية، وهي لا تصل إليهم إلا بعد لأي في خلسة من الرقباء.
ثم أذنت السلطة لهم بزيارة الأسرى من أبناء وطنهم ومن الترك والألمان، فلبوا دعوة المصريين المعتقلين بالمعسكرات الأخرى، فاستقبلهم الأسرى الأجانب معجبين، واستقبلهم الأسرى المصريون فخورين، وكان بعض القادة الترك يقولون لأصدقائهم المصريين: «اعتبرونا منكم فقد أحببنا بلادكم وأحببنا زعماءكم.» ورحب بهم الأمير هوهنزلرن ابن عم غليوم، ورفع لهم بعض الألمان راية بيضاء مكتوبا عليها بالمداد الأحمر تاريخ (14 سبتمبر سنة 1807)، وهو تاريخ جلاء الجنود الإنجليز عن مصر عندما طمعوا في احتلالها للمرة الأولى، وكان الأسرى الألمان قد أقاموا معرضا فنيا لمصنوعاتهم التي استطاعوا أن يصنعوها بما لديهم من الأدوات القليلة تزجية لأوقات الفراغ، فقدم أحدهم إلى سعد تمثالا عسكريا بالعدة الحربية الكاملة للإمبراطور غليوم، مصنوعا من الورق المقصدر الذي تغلف به صناديق التبغ الصغيرة، فحياه سعد وقال له: «إنه لتمثال عظيم يمثل عظيما.» ثم قال: «ولكننا لا نملك عدة الحروب، وإنما نحن أمة سلام.»
وقد رست الباخرة «كاليدونيا» في ميناء مالطة ضحى يوم الثلاثاء، وعليها أعضاء الوفد القادمون من القاهرة وهم حسب ترتيب الحروف الهجائية: أحمد لطفي السيد بك، وجورج خياط بك، والدكتور حافظ عفيفي، وحسين واصف باشا، وسينوت حنا بك، وعبد العزيز فهمي بك، وعبد اللطيف المكباتي أفندي، وعلي شعراوي باشا، ومحمد علي بك، ومحمود أبو النصر بك، ومصطفى النحاس بك، ومعهم مكتب الوفد وفيه كتابه ومترجموه، ومنهم الأستاذ ويصا واصف الذي انتخب عضوا في الوفد بعد وصولهم إلى باريس.
ولما رست الباخرة على الميناء انتظر الأعضاء فيها قدوم إخوانهم المعتقلين فطال الانتظار، واستحسن بعضهم النزول إلى الجزيرة للقائهم، فوجدوا الخدم قد سبقوا سعدا وأصحابه إلى الشاطئ بالحقائب ومؤنة السفر، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل سعد وأصحابه الثلاثة يمشي معهم ضابط إنجليزي وضابط من أهل الجزيرة لم يفارقهم إلا عند صعودهم إلى السفينة، فكان للقاء الزعيم وأصحابه مشهد رائع لا ينساه من رآه، وامتزجت في لقائهم معان شتى من الشوق والإيناس، وشعور الظفر والثقة والأمل في النجاح.
Halaman tidak diketahui
أما كيف تحولت السلطة البريطانية في مصر من الحجر الشديد إلى السماح للوفد بالسفر حيث شاء، فخلاصة القول فيه أنه تحول ضروري قضت به الثورة، فلم يسع السلطة إلا أن تنقاد لحكمه في النهاية؛ لأنها عجزت عن تيسير الأمور بأيديها، وعجزت عن تأليف وزارة وطنية تقبل الحكم والوفد محبوس عن السفر، فلم تجد بدا من إطلاق سبيل الوفد عسى أن تفرج شيئا من حرج الموقف، وتمحو شيئا من الحفيظة التي أفعمت قلوب المصريين وزادتها الفظائع في إبان الثورة ألما على ألم.
وقد أدركت القيادة العسكرية من اللحظة الأولى أنها أخطأت التقدير، وانتهت باعتقال الزعماء إلى عكس ما تريد؛ لأن اعتقالهم لم يردع السيل المتجمع وراء السدود، وإنما جاءه بمدد جارف أطلقه ودفع به شوطا وراء شوط، ورسم للمصريين طريق المقاومة، فمن شاء منهم أن يرجع فلا حيلة له في الرجوع، ومن خطر له أن يتردد فليس أمامه موضع للتردد ... وأن أول من دعا إلى الثبات والمثابرة لهم أول من أصيب باعتقال الزعماء ومن هدد بهذا الاعتقال، وأول من ظن بهم أنهم يتقهقرون ويوجلون: قرينة سعد وخلفاؤه المتروكون في القاهرة!
فالسيدة الجليلة قرينته لم تضيع لحظة واحدة في الحزن والجزع الذي لا يفيد ... عادت من زيارة إحدى شقيقاتها حيث كانت ساعة الاعتقال، فما هو إلا أن علمت بما حدث أثناء غيابها حتى كان أول ما خطر لها أن أرسلت إلى شعراوي باشا تبلغه أن مكتب سعد مفتوح له ولزملائه في غياب سعد كما كان في حضوره وترجوه وزملاءه أن يقبلوا دعوتها إلى العشاء في ذلك المساء، وأن يعقدوا جلستهم الأولى في مكان انعقادها المألوف؛ لكيلا يطرأ على سير الدعوة أقل تغيير بعد ذلك الحادث الذي أريد به القضاء عليها. فقرر الأعضاء أن يلبوا رجاءها وأن يشكروها عليه، واعتذروا من حضور العشاء لاشتغالهم بإعداد الاحتجاج الذي يقابلون به اعتقال الزعيم، واتخاذ الخطة التي تلائم الموقف الجديد.
ولم يكن شعور الأعضاء بعد الاعتقال شعور فزع وارتداع كما قدرت السلطة البريطانية، بل كان شعور استياء لاعتبارهم دون من اعتقلتهم السلطة في الخطر والأثر، وشعور رغبة في إفهام السلطة البريطانية خطأها وتحديها واستفزازها بإتيان العمل نفسه الذي من أجله اعتقلت سعدا وأصحابه. فكتب شعراوي باشا احتجاجا إلى رئيس الحكومة البريطانية على اعتقالهم، وأبلغه فيه أن الوفد مثابر على خطتهم، ووجه مع زملائه في اليوم التالي خطابا إلى صاحب العظمة السلطان، يلقي فيه تبعة إعراض الكبراء عن تأليف الوزارة على السلطة العسكرية:
فإنما هو النتيجة الطبيعية للخصلة التي اتخذت في مسألة سفر الوفد، فإن كل مصري ذي كرامة لا يمكنه - حقيقة - أن يقبل الوزارة في هذا الظرف من غير أن يستهين بمشيئة بلاده.
وختم الخطاب بقوله:
إليكم يا صاحب العظمة - وأنتم تتبوءون أكبر مقام في مصر، وعليكم أكبر مسئولية فيها - نرفع باسم الأمة أمر هذا التصرف القاسي، فإن شعبكم الآن يحق له أن يعتبر هذه الطريقة بادرة تخيفه على مستقبله، كما يحق له أن يكرر الضراعة لسدتكم العلية أن تقفوا في صفه مدافعين عن قضيته العادلة.
أما الحكومة البريطانية فقد أحبت أن تيئس المصريين من كل أمل في اللين والهوادة، فعينت الماريشال اللنبي مندوبا ساميا بعد نشوب الثورة بنحو أسبوع، بدلا من السير ريجنالد ونجت الذي كان من رأيه السماح بسفر الوزيرين المصريين، وقد تعمدت بتعيينه غرضا آخر هو إرهاب المصريين باسم القائد المنتصر في أقرب الميادين إليهم وهو ميدان فلسطين. وأذاعت في الوقائع المصرية أنه «منح السلطة العليا في جميع الأمور المدنية والعسكرية، وفي اتخاذ ما يراه من الإجراءات صالحا لإعادة النظام واحترام القوانين ... مع تثبيت حماية جلالة الملك في مصر على أساس متين».
وقد بدأ الماريشال اللنبي عمله بعد قدومه إلى القاهرة باستدعاء الكبراء والسراة قائلا لهم: إنه جاء إلى مصر لينهي الاضطرابات، ويتحرى أسباب الشكاية، ويزيل منها ما يقضي العدل بإزالته. وطلب إليهم أن ينصحوا الناس بالهدوء والسكينة.
فتكررت هذه النصائح التي يوعز بها الإنجليز في غير جدوى، ولم يزل متعذرا على «المستوزرين» أن يجترئوا على قبول الوزارة، ولم يزل تسيير الإدارة الحكومية في البلاد من أصعب الأمور.
Halaman tidak diketahui
ولجأ الماريشال اللنبي إلى أعضاء الوفد المصري، فاستدعاهم إليه في السادس والعشرين من مارس، وطلب إليهم أن يبسطوا أسباب الشكاية في تقرير يكتبونه، فقدموا له التقرير بعد أربعة أيام وفيه تلخيص للمظلمة السياسية من بداءة إعلان الحماية. وقالوا في ختامه:
غير أن السلطة العسكرية مع ذلك قد استدعتنا مرة أخرى في يوم 16 الجاري، وأعلنت إلينا أننا مسئولون عن هذا الاضطراب، وأننا مسئولون عن إزالته، ولكنها سمحت لنا هذه الدفعة أن نناقش أمر المسئولية، فأجبناها بأن هذا الاضطراب ليس نتيجة متوقعة لعملنا، ولا يصوغه برنامجنا بحال من الأحوال، بل نحن نأسف له. وأما تسكين هذا الاضطراب فليس في يدنا وسيلة فاعلة فيه، ونصحنا بأن أنجع الوسائل في تهدئة الخواطر بالطرق السلمية، إنما هو تأليف وزارة تعطي من الترضيات ما يرضي الشعب، حتى تستطيع أن تقوم بأعباء الظرف الحاضر.
هذا رأي أعضاء الوفد الباقين بمصر في الثورة، وهذا رأيهم في تفريج الأزمة، وهو رأي اتفقوا عليه مع كبار مصر الرسميين، ومنهم علماء الأزهر وبطريرك القبط الأرثوذكس وبعض الوزراء والنواب والسروات. وكتب به هؤلاء جميعا خطابا إلى القائد العام في الرابع والعشرين من شهر مارس؛ أي قبل استدعاء أعضاء الوفد إلى اللورد اللنبي بيومين، وكان تقديرهم أن الوزارة التي تؤلف تعمل لتهدئة الحال، دون أن يشترطوا سلفا لهذه التهدئة إفراجا على معتقلين أو سماحا لأحد بالسفر.
ثم قال أعضاء الوفد: «وفي اليوم التالي - وهو يوم 17 مارس - قابلنا الوزراء الثلاثة رشدي باشا وعدلي باشا وثروت باشا، وأقنعناهم بأن يظهروا استعدادهم للمفاوضة في تأليف وزارة تستطيع أن تقضي على هذه الحركة المخيفة التي تخشى عواقبها المجهولة، فأظهروا هذا الاستعداد لرجال دار الحماية ولكن الأمر لم يتم، والاضطراب يأخذ نسبا وأشكالا ليس الحكم على نتائجها في نفوس الناس بالشيء الميسور.»
وبعد أيام حان موعد صدور الميزانية وليس في البلاد وزارة ولا نواب يناقشونها، فلم ير المارشال اللنبي مخرجا من هذه الورطة إلا أن يعتمد الميزانية باسم السلطة العسكرية، فأصدر بلاغا بذلك في أول أبريل، ولكنه حل مشكلة وأثار مشاكل؛ فإن هذا التحدي ألهب في النفوس جذوة الغضب وشحذ فيها عزيمة المناجزة؛ فعاد التجار إلى إغلاق حوانيتهم، وأضرب بعض الموظفين ممن لم يكونوا مضربين، وتمرد طلاب المدرسة الحربية ومدرسة الشرطة، فخرجوا متظاهرين أمام قصر السلطان ودور السفارات، وكانوا قبل ذلك يحتجزون عن المظاهرات، واشتدت ثورة الأزهر وكثرت اجتماعاته، حتى لجأت السلطة العسكرية إلى مخاطبة شيخ الأزهر في إغلاقه دفعة واحدة أو الاكتفاء بإغلاقه في غير أوقات الصلاة، فأبى واعتذر بأن الله ينهى المسلم عن إقفال مساجد الله.
وفي السادس من الشهر وزع على الناس منشور من عظمة السلطان يقول فيه:
إني أنشر بين قومي هذه الكلمات التي كانت تختلج بصدري في الوقت الذي أخذت تتوارد إلي فيه ملتمسات الأماني القومية نحو مستقبل البلاد، وإني بالطبع لا أعني بالبلاد إلى بلادنا المباركة، لا أعني بالبلاد إلا وطننا العزيز: هذا الوطن الذي اقتضت حكمة الله أن يكون جدي الأكبر محمد علي الكبير أكرم الله مثواه صاحب عرشه.
وفي ختامه طالب عظمة السلطان أبناءه المصريين بما له من حق الأبوة عليهم أن يتناصحوا بعدم الاستمرار على المظاهرات التي كانت عواقبها غير محمودة في بعض الجهات.
وبعد أن جربت السلطة العسكرية كل وسيلة، وفشلت في كل تجربة، لم يسعها إلا أن تجرب الوسيلة الوحيدة الباقية التي اقترحها المصريون من اللحظة الأولى، وهي إطلاق الحرية للوفد المصري ليسافر حيث شاء، فإن الحجر عليه هو سبب استقالة الوزارة، وهو سبب الإحجام عن تأليف وزارة أخرى، وهو سبب غليان النفوس وانفجارها ونشوب الثورة وانتشارها، فأذاع المارشال اللنبي في السابع من الشهر بلاغا يعلن فيه أنه بالاتفاق مع حضرة صاحب العظمة السلطان «لم يبق حجر على السفر، وأن جميع المصريين الذين يريدون مبارحة البلاد يكون لهم مطلق الحرية»، وأن «كلا من سعد زغلول باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وحمد الباسل باشا، ومحمد محمود باشا يطلقون من الاعتقال، ويكون لهم كذلك حق السفر».
فسرت نشوة الظفر والرجاء في نفوس الأمة قاطبة، وقامت مظاهرات الابتهاج في مكان مظاهرات الغضب والهياج، واستولى على الناس شعور مقدس غسل حوبة النفوس فنسي المجرم إجرامه والموصوم وصمته، وشوهدت جموع النسوة الشقيات المتبذلات على مركبات النقل يحيين وطنهن، ولا ينظر إليهن ناظر بعين المهانة أو الريبة أو المجون الذي تثيره أمثال هذه الجموع في غير تلك المظاهرات.
Halaman tidak diketahui
وامتنعت حوادث السرقة على سهولتها بين ذلك اللجب اللاجب؛ فخلت محاضر الأقسام من حوادث الطرارين واللصوص، التي لم تكن تمتنع ساعة من أيام الشح والضيق ووفرة المال في جانب وندرته في جانب آخر، ومشى أعظم الناس وأصغرهم على السواء في مظاهرات واحدة لا يتوقر عنها العالم الهرم، ولا ينسى فيها الصغير دواعي الوقار، ولم ينغص هذه المظاهرات إلا اعتداء بعض الأرمن عليها، وشكاسة بعض الضباط والجنود البريطانيين الذين أطلقوا الرصاص على المتظاهرين المتهللين في غير عداء ولا تنكر، فقتلوا منهم أربعة وجرحوا كثيرين، ولعل هذه الحادثة وحدها كافية لبيان ما وصلت إليه فوضى القمع والإرهاب، فإن هؤلاء الضباط والجنود تطوعوا لفعلتهم دون أن يدعوهم رؤساؤهم إليها، بل لقد كانت القيادة العليا تستبشر بمظاهرات الفرح التي أعقبت الإفراج عن الزعماء؛ لأنها قد تلطف سورة الحنق والعداء وتهيئ جو السياسة للوفاق والمسالمة، وتتيح للوزراء المصريين أن يقبلوا مناصب الحكومة، ولكن الفوضى أخرجت أولئك الضباط عن طورهم فأفسدوا هذه الدلائل، وعكسوا الأمر على القيادة العليا حتى كادت أن تفشل في تأليف الوزارة التي كان يجري الكلام في تأليفها حينذاك؛ مما اضطر المارشال اللنبي إلى الاعتراف بخطأ الجنود ونشر بيانا يقول فيه:
لقد تغيرت الحالة فجأة وأطلقت الحكومة البريطانية الزعماء المعتقلين في مالطة، وأذنت للمصريين أن يرسلوا مندوبيهم إلى إنجلترا ليعرضوا شكواهم. وقد سر المصريون لذلك بالبداهة وسمح لهم أن يقيموا الاحتفالات، كما يسمح لأبناء إنجلترا بالاحتفال بأي نصر سياسي، ومن سوء الحظ أن الجنود لا يفهمون هذا على ما يظهر؛ لذلك حدث مرة أو مرتين أن نفرا من الجنود قاموا بمظاهرات ضد المصريين الذين كانوا قد أقاموا احتفالا غير موجه ضد سلطتنا بتة. وقد أدى عمل هؤلاء الجنود إلى اضطرابات خطيرة، وإلى خسارة في الأنفس من الجانبين. على أنه المأمول الآن أن يلوذ الجنود بالهدوء، ويلزموا السكينة، ويتركوا القانون والنظام للقائد العام. ومما يجب أن يفهم أن كل عمل مستقل يقوم به الجنود يضاعف صعوبة مركزنا عشر مرات.
بقي سفر الوفد فعلا بعد السماح بالسفر قولا.
والظاهر أن السلطات الإنجليزية سمحت بسفره من جهة لتعرقله من جهة أخرى؛ لأنها تعللت بقلة البواخر، وزعمت أن الأماكن فيها محجوزة سلفا، وأن الأماكن المطلوبة لا تتيسر قبل ثلاثة أشهر! وعلم الوفد أن الانتظار إلى ذلك الموعد مضيع لفرصة الحضور أمام مؤتمر الصلح أو الوصول إلى باريس في إبان انعقاده؛ فالتمس الإذن بالسفر على «يخت» صاحب العظمة السلطان المسمى بالمحروسة، واتصل نبأ هذا الخبر بالإنجليز فخشوا أن يجاب بعد قيام الوزارة الرشدية التي يعلمون من سياستها الأولى أنها تشايع الوفد في طلب السفر إلى أوروبا، ورأوا أن وصول الوفد المصري إلى أوروبا على اليخت السلطاني يخوله «مظهرا رسميا» يتقونه ولا يحبون دلالته الواضحة عند أمم العالم؛ فدبروا أمر الأماكن المطلوبة على عجل، وسرعان ما استطاعوا أن يحجزوا الأماكن كلها في الباخرة «كاليدونيا»، ومعها ستة أماكن أخرى لمن يشاء السفر من خصوم الوفد إلى باريس!
برح أعضاء الوفد العاصمة في الساعة الثامنة من صباح يوم «11 أبريل» فكان توديعهم الرائع بمثابة توكيل جديد من الأمة قاطبة، فازدحمت الطرقات والميادين بعشرات الألوف من جميع الطوائف والطبقات، ووزعت محافظة العاصمة أكثر من ألف تذكرة لعلية القوم ورؤساء الدين والسروات الذين رغبوا في توديع الوفد على المحطة، فلم تكف هذه التذاكر لتلبية جميع الرغبات، وبلغ عدد المودعين أضعاف العدد المقدور، وأوشك الناس ما بين العاصمة وبورسعيد أن ينظموا موكبا واحدا للحفاوة بالوفد وتأييده وإظهار الابتهاج بسفره، وما كانوا يعلمون بالسفر في يومها لصعوبة المواصلات وانقطاع أسلاك البرق في بعض الجهات، ولكنهم كانوا يرون القطار المزين بالرايات والأزهار وعليه التحيات التي كتبها المودعون في محطة العاصمة، فيعلمون الخبر ويتسامعون به في لحظات معدودات، ويهرولون إلى لقائه داعين هاتفين.
ولما وصل القطار إلى بورسعيد، خرجت المدينة تستقبله وترحب به وتصحبه إلى الباخرة التي بات فيها ليلته، وأضاءت بورسعيد كلها في المساء، وحفت بالباخرة عشرات الزوارق المضاءة الصادحة بالموسيقات والهتافات الوطنية طول الليل، وانثالت الرسائل البرقية من المدينة ومن أنحاء كثيرة في القطر تشيع الأعضاء بالرجاء والتأييد.
وفي اليوم الذي أقلعت فيه الباخرة - وهو اليوم التالي - تألفت في القاهرة لجنة مركزية كبرى تنوب عن الوفد في غيابه، وتتولى إنشاء اللجان التي تنوب عنه في الأقاليم. •••
ويلي هذا الفصل فصل انتقادي عن العيوب التي لوحظت في تأليف الوفد، ثم فصل عن خطة الوفد في مسألة الامتيازات الأجنبية التي أراد بها التفرقة بين بريطانيا العظمى والدول صواحب الامتيازات، ثم ينتقل الكلام إلى عمل الوفد في أوروبا كما يلي.
الفصل الخامس
الوفد في أوروبا
Halaman tidak diketahui
عندما طلع الرئيس ويلسون على العالم ببشارة السلام ومبادئ الحرية والإنصاف صدقه كثيرون ورحب به كثيرون؛ لأنهم استبعدوا أن يخرج بنو الإنسان من تلك الأهوال والمآثم بغير عبرة، وأن يقدموا على تكرار المأساة الجهنمية، وهم لا يزالون يكتوون بنارها ويتلوون من آلامها.
ولم يهزأ بدعوة ويلسون من أساسها إلا طائفة من ثلاث طوائف، وهم المستعمرون الرجعيون؛ لأن الدعوة لا توافق سياستهم، ولا تحقق لهم مطامع القهر والاستغلال.
واليائسون من أخلاق بني الإنسان؛ لأنهم يهزءون بجميع المبادئ ولا يحسبون الإنسان صادقا في شيء غير المصالح القريبة والشهوات الحيوانية.
والاشتراكيون؛ لأنهم يرون أن العوامل الاقتصادية هي علة الدعوات الاجتماعية والمذاهب الأخلاقية؛ فلا فائدة من أحاديث المروءة والرحمة وتقرير المصير ما دام نظام رأس المال هو النظام القائم في المعاملات، وهو الحافز إلى الغارات والحروب والمنافسة بين المستغلين والمستعمرين.
ولم يكن سعد مستعمرا رجعيا ولا يائسا من بني الإنسان ولا اشتراكيا ولا قارئا متبعا لآراء الاشتراكيين، ولكنه كان رجلا مطبوعا على نجدة الضعيف وإغاثة المظلوم، فلا غرابة عنده في هذه العاطفة، وكان قانونيا يقدس القوانين والشرائع فلا غرابة لديه في التوسل بالتشريع وحقوق المعاهدات لفض المشاكل وإصلاح الآفات.
لذلك رحب بالدعوة الولسنية ولم يستبعد تحقيقها كما قال في خطابه بمنزل حمد الباسل باشا:
من الناس من يرون هذا المذهب السياسي الجديد أجمل من أن يتبع في هذه الحياة الدنيا: حياة المزاحمة على البقاء والمغالبة على المنافع ... نعم، مذهب جميل! ولكن تطبيقه ممكن متى جد الدكتور ويلسون في تطبيقه بحزمه المعروف. وإنه لجاد، بل أرتقي إلى أن أقول إن تطبيقه سهل متى صحت نيات أكثرية الدول التي أقرته بالإجماع؛ ذلك لأن هذا المذهب غير مخالف لما ألف الإنسان في الوصايا الدينية وقواعد الفلسفة الأخلاقية، ثم هو متفق مع الأفق الذي وصلت إليه الإنسانية في تطورها الجديد ...
وعلى هذه العقيدة كان يرجو الخير الكثير من الدعوة الولسنية، وأقل ما يحق له أن يرجوه أن لا تنقلب هذه الدعوة في إبان الصلح عونا للأقوياء على الضعفاء وعقبة في وجه المطالبين بالحقوق، فكان أول ما فكر فيه ساعة وصول الباخرة «كاليدونيا» إلى مارسيليا أن أرسل إلى الرئيس ويلسون يطلب منه الإذن في مقابلة خاصة للوفد المصري المطالب بحقوق الأمة المصرية، فلم يجئه الرد المنتظر من رسول السلام، وإنما جاءه رد لم يكن يخطر على بال متفائل ولا متشائم؛ فإن الولايات المتحدة اعترفت بالحماية البريطانية على مصر في اليوم التاسع عشر من شهر أبريل؛ أي بعد وصول الوفد المصري إلى مرسيليا بيوم واحد!
يحار الإنسان ولا يدري كيف استطاعت السياسة البريطانية أن تحمل ذلك الرسول المبشر بحقوق الضعفاء على نقض مبادئه رأسا على عقب، واستباحة الفصل في قضية لم تعرض عليه من جوانبها المختلفة، ولكن ساسة الإنجليز - على ما نظن - قد أدخلوا في روعه أن المصريين أساءوا فهم دعوته وتشجعوا بها على الثورة وتهديد الحضارة والمصالح الأجنبية، وأن كلمة منه تحقن الدماء وتعيد الأمن إلى قراره، وتصون أرواح الأوروبيين ومرافق العمران، وأن ترك مصر عرضة للتنازع عليها بين الدول قد يجر العالم إلى حرب كالحروب التي كان يتقيها ويبشر باجتنابها؛ فبقاؤها في ظل الحماية أصون للسلام وأنفى للحروب، وربما وعدوه أن ينصفوا المصريين متى ثابوا إلى السكينة واستعدوا للإصغاء إلى صوت الحكمة والنظام.
وقد اهتمت الحكومة البريطانية بنشر اعتراف الرئيس ويلسون في مصر من دار الوكالة الأمريكية، فأذاعت دار المندوب البريطاني بلاغا جاءها من همسون جاري وكيل الولايات المتحدة يقول فيه:
Halaman tidak diketahui
أتشرف بأن أقول: إن حكومتي أمرتني أن أبلغكم أن رئيس الجمهورية يعترف بالحماية البريطانية على القطر المصري، وهي الحماية التي بسطتها حكومة جلالة الملك في 18 ديسمبر سنة 1914. هذا وإن الرئيس باعترافه هذا يحفظ بالضرورة لنفسه حق البحث فيما بعد في تفاصيل هذا الاعتراف، مع مسألة تعديل حقوق الولايات المتحدة التعديل الذي يقتضيه هذا الأمر. وقد كلفت بهذا الصدد أن أقول: إن رئيس الجمهورية والشعب الأمريكي يعطفان كل العطف على أماني الشعب المصري المشروعة؛ للحصول على قسط آخر من الحكم الذاتي، ولكنهما ينظران بعين الأسف إلى كل مسعى لتحقيق هذه الأماني بالتجاء إلى العنف.
وإن صيغة هذا التبليغ لتشف عن الغرض منه وعن المسعى الذي سعته الحكومة البريطانية عند الرئيس ويلسون لإقناعه بوجوبه ... فباسم الأمن وكراهة العنف، وبعد الوعد بمنح المصريين قسطا آخر من الاستقلال الداخلي، ظفرت الحكومة البريطانية بذلك الاعتراف وبادرت إلى إذاعته في مصر وأوروبا، وتعمدت أن تصدم به الوفد ساعة وصوله إلى أوروبا ليفت الخبر في عضده، ويزعزع ما عنده من ثقة وأمل، ويريه خيبة المسعى في معارضة القوة البريطانية حيث ذهب ... فكان تدبيرها في الإفراج عن الوفد ولقائه بتلك الصدمة كتدبير السجان الذي يطلق أسيره ويرصد له على أبواب السجن من يدهمه ويغتاله؛ ليحيق به الكيد في ساعة الفرح والاستبشار.
ولم تبالغ السياسة البريطانية كثيرا في وقع الصدمة المفاجئة على الوفد ساعة نزوله بالأرض الفرنسية واقترابه من محكمة العدل والحرية؛ فقد بدا لسعد أول وهلة أن العمل في أوروبا لا يجدي، وأن تركيز العمل في مصر أجدى وألزم. ولم يكن هذا ضعفا ولا نكوصا عن الكفاح؛ لأن مقاومة الإنجليز في مصر تحت الأحكام العسكرية بعد الاعتراف بالحماية البريطانية أخطر وأعضل من مقاومتهم في أوروبا على العاملين الجادين في المقاومة ... ولكنه كان رأيا رآه فيما هو أصلح للقضية المصرية على حسب ما تبين من خطواته الأولى بالبلاد الأوروبية.
وقد لمس وقع الصدمة في نفوس فريق من زملائه فإذا هو أفدح وأقدح؛ فمنهم من كان قد دخل الوفد على تردد وريب في سلامة العاقبة، ومنهم من كان يؤثر اللجوء إلى الحكومة الإنجليزية ويؤمن في قرارة نفسه باستحالة الغلبة عليها، وقصارى ما طمعوا فيه من هوادتها أن تخشى بعض المعارضة أو بعض المنافسة من الدول الأخرى في مؤتمر الصلح، فتغلق هذا الباب باستجابة بعض المطالب المصرية. فإذا بمؤتمر الصلح في قبضة يديها وعلى رأسه أكبر الدعاة إلى الحرية وأكبر القائلين بمشاورة الأمم المغصوبة في تقرير مصيرها ... فمن البين إذن في رأيهم أن «مهمة الوفد» انتهت لم يبق له ما يرجوه من المؤتمر ولا من الحكومات المشتركة فيه. وقد صرحوا برأيهم هذا وهموا بالعودة وأشاروا بها على زملائهم الآخرين.
وقد أرادت الحكومة البريطانية أن تتبع هذه الضربة بضربة أخرى، تعجل بعمل التفكك والانخذال في صفوف الوفد والأمة المصرية؛ فنشرت التيمس «إشاعة» تشير فيها إلى إرسال لجنة مستقلة إلى القطر المصري للبحث عن أسباب الهياج، واقتراح الإصلاحات الدستورية التي يتسع بها نطاق الحكومة الذاتية، وتوقعت أن يصيب الخبر الوفد في سمعته وعزيمته إن لم يصبه في تكوينه ووحدة رأيه، فإذا عاد بعض رجاله إلى مصر وبقي بعضهم في أوروبا فقد وقع الخلاف، وهو بدء الانحلال. وإذا عاد الوفد جميعه فقد ملكته الحكومة البريطانية ورجعت به إلى قبضة يديها وعرضته لسخرية أبناء وطنه، وإذا بقي الوفد كله في أوروبا فعندهم فسحة من الوقت لإرسال اللجنة إلى مصر وسؤال المصريين عن مطالبهم وشكاياتهم بمعزل عن وفدهم الذي يدعي الوكالة عنهم ... فتلغي وكالته وتلقي درسها الصادع على الوكيل ومن أوكلوه، وأي درس تشتهيه السياسة الاستعمارية وتلقيه على الدعاة الوطنيين أنجع وأوجع من أن تضرب الوفد المصري وتعاقبه هذه العقوبة القاصمة بيد الأمة المصرية؟!
ومهما يكن من حساب الحكومة البريطانية، فالشيء الذي لم تحسب حسابه - كما ينبغي - هو أثر السخرية في الطبيعة المصرية؛ فإن المصري ليتقي السخرية أشد من اتقائه الضرر والخسارة، وقد يستسلم للفجيعة، ولكنه لا يستسلم للغفلة؛ ولهذا كانت ضربتها للوفد المصري باعتراف ويلسون ضربة قوية بارعة، ولكنها كانت خليقة أن تفشل بعد الصدمة الأولى؛ لأنها سخرية تعرضه لسخرية أخرى. ولو أنها أبطأت برهة، ولم يكن فيها معنى الكمين المدبر والهزء المرتب في لحظة الانتصار والتفاؤل، لكان رجاء الحكومة البريطانية في نجاحها أصدق وأسرع، ولكنها كانت بمثابة الاستدراج إلى كمين مضحك أو «مقلب» مهين ... فجمعت لها الطبيعة المصرية كل ما عندها من الكراهة للسخرية ومقاومة الشماتة المضحكة؛ وهما في الطبيعة المصرية قوة تعتصم بها في أحرج الأوقات.
ولم يلبث سعد وأصحابه بعد الخاطر الأول أن أعادوا النظر في الأمر كله، فوجدوا أن العمل في مصر قد يكون أولى وأصوب، ولكن العودة إلى مصر بعد كل هذه القيامة التي أقامتها الأمة لتمكين الوفد من السفر، وهي خيبة أليمة لا تؤمن عقباها، وقد تيئس الأمة من رجالها وتشككها في دعاتها، وتعجل بالتفرقة بين صفوفها.
ووجدوا كذلك أن البقاء في أوروبا لا يمنع تركيز العمل في مصر والاعتماد عليه في الدعاية الأوروبية، وقد تنفع الدعاية الأوروبية في تنبيه عزيمة الأمة كلما احتاجت إلى تنبيه.
ومن مبدأ الأمر لم يكن رجاء سعد كله معقودا على الحكومات والوسائل الحكومية: إذا جاء الرجاء من هذا الباب فذاك خير وأقرب سبيلا، وإن لم يجئ فالشعوب من وراء الحكومات، والطريق إلى الشعوب مفتوح لمن يحسن ولوجه ويقوى على صعابه، وهو القائل: إن الشعب فوق الحكومة، وهو الذي أبى أن يسلم المطالب المصرية إلى المندوب البريطاني والوزراء البريطانيين احتفاظا بالجانب الأهم منها «لاستنارة» الرأي العام البريطاني الذي يخضع له المندوب والوزارة. وهو الذي عرف أن النائب في «الجمعية التشريعية» - التي لا حقوق لها ولا نفوذ لأحكامها - يملك من سلاح الحجة والبيان ما يكافح به الوزارة ويكافح به جبار قصر الدوبارة. فماذا حدث الآن؟ هل حبط الرجاء في مؤتمر الصلح وفي ويلسون وفي لويد جورج؟ حسن! إن وراء هذه الأسماع أسماعا، ووراء هذا المرجع مراجع: هناك الشعوب الأوروبية، وهناك شعب ويلسون وشعب لويد جورج ... ومن يدري؟! فلعل شعب ويلسون وشعب ما قال وسامع غير ما سمع، وبالغ في إحراج السياسة البريطانية ما لم يبلغه رئيسه المخدوع بتلك السياسة.
يقول نيتشه:
Halaman tidak diketahui
كل ما لم يقتلني يزيدني قوة.
وهذه قولة تصدق على كل رجل كبير الهمة مطبوع على الكفاح. فضربة الاعتراف بالحماية كانت ضربة نافذة، ولكنها لم تكن مميتة؛ ومن ثم كانت ضربة حافزة للعناد، مثيرة للنخوة، نافعة في توطيد النفس على بعد الشقة.
قال جورج لويد في كتابه عن مصر منذ كرومر:
لم تنفع الصدمة إلا في إقناع زغلول إقناعا جليا بأن العراك خليق أن يجري إلى مداه في الحومة المصرية. فوجه همه على الفور إلى تلك الحومة، وطفق يدير المعركة من مقامه بباريس، ويبعث إلى أتباعه بمشجعات مموهة، ولكنها أخاذة باهرة بما تحدثهم عن الأنصار الذي يستميلهم للقضية الوطنية، والنجاح الذي يصيبه رجاله.
وقد أدار سعد المعركة في باريس على أتم وجه يستطيعه وفد من الوفود الشعبية؛ فإن الوفد المصري - على اعتباره غريبا عن الأجناس الأوروبية - قد استطاع غاية ما يستطاع من نشر الدعوة إلى جانب مؤتمر الصلح. فكتب إلى المؤتمر يطلب استدعاءه لسماع أقواله؛ لأن «إلغاء السيادة التركية يقتضي حتما تغييرا في حالة مصر السياسية التي قررتها معاهدة سنة 1840، ولا يصح إجراء هذا التغيير في غيبة المصريين». واتصل الوفد بكل من تيسرت لهم مقابلته من رجال المؤتمر وأعضاء وفوده وكبار موظفيه، وأقام المآدب للساسة والكتاب والصحفيين الأوروبيين والأمريكيين ليشرح لهم الحوادث التي كانت تهملها الصحف، ويريهم صور المظاهرات التي اشترك فيها السيدات ورجال الجيش، وظهرت فيها الأعلام وعليها الصليب إلى جانب الهلال، ويذكر لهم ما استفاده الحلفاء من أموال مصر ورجالها مما كانوا يجهلونه ولا يعرفون خبرا عنه.
وأقنع الوفد بعض مشاهير الكتاب بكتابة رأيهم في قضية مصر وحقوق أبنائها، ومنهم فكتور مرجريت، وأناتول فرانس؛ فأصدر الأول رسالة في موضوع القضية المصرية، وقدمها الثاني بكلمات وجيزة على سبيل التزكية.
واجتهد الوفد في اجتناب كل عمل يتيح للمستعمرين البريطانيين أن يتهموه - كما فعلوا من قبل - بمشايعة دول الوسط، أو النزوع إلى المذاهب الفوضوية والاشتراكية، فلم يتصل بالمغفور له محمد بك فريد حين تلقى خطابه من سويسرا، لما كان معروفا من مقام فريد بك في ألمانيا وتركيا أثناء الحرب وبعدها. ولكنه اتصل بجميع المصريين المقيمين بفرنسا، ولا سيما أعضاء الجمعية المصرية في باريس، وكان لفريق من هؤلاء أثر نافع في بث الدعوة، وتعريف الفرنسيين من جميع المذاهب بالوفد ومطالبه وصعوباته.
ولا نسهب في تفصيل المقابلات والخطب والولائم واحدة واحدة؛ لأن التفصيل لا يزيد القارئ شيئا على ما هو مفهوم بالإجمال، وحسبنا أن نقول: إن الوفد لم يدع في باريس ولا في مراكز الدعوة السياسية أحدا يؤبه له إلا أبلغه مظلمة مصر، وأوجز له الحالة التي مرت بالقارئ في صفحات هذا الكتاب.
وقد كان المصريون في لندن - ومعظمهم من الطلاب - يعاونون الوفد كما عاونه زملاؤهم في العاصمة الفرنسية؛ فطبعوا الألوف من الرسائل، وقابلوا النواب، واستعانوا بالكتاب حتى ضاقت بهم الحكومة الإنجليزية ذرعا، فدمر الشرطة مكان اجتماعهم وصادروا الأوراق التي فيه، وظنوا أنهم قضوا عليها، وكانوا سيقضون عليها فعلا لولا أن الطلاب أخذوا بالحيطة، فأعادوا طبع الأوراق مما كان مدخرا عندهم من المحفوظات في مكان أمين.
وقد تجاهل الساسة الإنجليز في باريس شأن الوفد المصري ما وسعهم أن يتجاهلوه، ولكنهم لم يحسنوا كتمان حنقهم في بعض الأمور التي تقضي بها اللياقة، فلم يأت منهم من يرد الزيارة لسعد باشا حين ترك بطاقته للمستر لويد جورج كما ردها بعض وزراء الدول الأخرى، وتجاوزوا ذلك إلى عمل فيه من الصبيانية ما ليس يليق بكبار الرجال؛ فقد روى أحد أعضاء الوفد المصري أنهم أرسلوا مرة «مذكرة» إلى الوفد البريطاني في مؤتمر السلام، فردت إليهم ممزقة داخل غلاف وعليها عبارة قصيرة معناها: «مثل هذه الأقوال لا تستحق الرد».
Halaman tidak diketahui