279

Jam Antara Buku

ساعات بين الكتب

Genre-genre

وهي ممتعة لأنها تنقل الشخوص والأسماء من عالم التاريخ والخبر، إلى عالم الحياة والشعور، فالشخوص فيها آباء وأمهات وأزواج وأحباب، وليسوا بعناوين مسطورة كعناوين المعالم المدثورة في الصحائف المهجورة، والعلاقة بينهم علاقة حب ورحمة، أو بغض ونقمة، أو إخلاص وغيرة، أو طمع وخديعة، وليست علاقة كلام بكلام أو أشياء بأشياء.

وتزيدنا البساطة فيها شغفا بها، وعطفا عليها، فهي قد نقلت إلينا الحياة الجاهلية والحياة في أوائل ظهور الإسلام، كما كان يألفها أصحابها لا كما نألفها نحن، أو كما فهموها بالبداهة والفطرة لا كما نفهمها نحن بالتحليل والتعليل. فأسباب انتشار اليهودية في اليمن - مثلا - هي أسباب المعجزة والكهانة والأسرار الغيبية، وليست هي الأسباب التي نعقلها نحن بعد أن نعرضها على الفكر، ونقابل بينها وبين النظائر والأشباه، وإنكار الكاهن اليوناني لأساطير الوثنية هو إنكار الإلهام والرؤيا، وليس بإنكار التمحيص والتنفيذ، وكذلك كل ما في القصة من أسباب ومن إيمان ومن إنكار، قال قائل من اللاغطين بالنقد على غير بصيرة: ما أحسب إلا أن الدكتور طه حسين قد شبع من إغضاب الجامدين فهو يتصدى هنا لإغضاب المحدثين، وما أحسب إلا أنه يكتب ليثير ويستثير! فمرة تقع النوبة على أهل الجمود، ومرة أخرى تقع النوبة على أهل التجديد!

قلت: بل أنا أحسب غير ذلك ولا أرى في الأمر شيئا من قصد الإثارة والإغضاب. أحسب أن الدكتور طه قد ملئ إعجابا بالنسق الهومري في تمثيل وقائع الأبطال وأنباء العصور، فأراد أن يخرج لنا إلياذة نثرية عربية، يشترك فيها عالم الشعر البليغ، وعالم التاريخ الصادق، وتجري حوادثها في آفاق الزمان الغابر الذي لا حدود فيه بين الغيب والشهادة وأسرار الخيال والحقيقة، فنحن نفهم الإلياذة ولا نجهلها أو ننكرها لأنها قد أفرغت في ذلك القالب وانتظمت على ذلك الأسلوب، ثم نحن نفهم «هامش السيرة» ولا نجهله أو ننكره؛ لأنه نقل إلينا الجاهليين كما كانوا في حياتهم، وعقائدهم، وأفكارهم، ولم ينقلهم إلينا كما نكون نحن لو أننا انتقلنا بزماننا إلى زمانهم، فهل أصاب الدكتور أو أخطأ؟ وهل أحسن من ناحية القصص أو لم يحسن؟ أما أنا فأرى أن أسلوب التعليل والتحليل لا يزداد شيئا كثيرا لو أننا جعلنا الجاهليين عصريين يعيشون في القرن العشرين، ولكن أسلوب القصص يخسر كثيرا من البساطة والتخيل، لو أننا سردنا القصة معللين محللين.

وأقل ما يقال في هذا المعرض أن شفاعة الدكتور فيما اختار من أسلوب ليست بالشفاعة الضعيفة ولا المردودة، وأن حجة الناقدين عليه ليست بأقوى من حجته عليهم. بل لا حجة عليه للناقدين ولا وجه هنا للقوة والضعف في الاحتجاج. إنما كانوا يزنون كتاب الدكتور بميزان العلم العصري لو أنه كان يقصد إلى العلم العصري فيما كتب ثم أخطأ في التطبيق أو أساء في التفسير، فأما وهو لم يقصد إلى ذلك ولم يحاوله ولم يرنا قط أنه حاوله فأي معنى للاعتراض عليه غير حب الاعتراض؟ ذاك كمن يحمل إليك الآنية الأثرية فتقول له: إن آنيتك ليست من طراز الأواني التي نراها اليوم على الموائد. نعم، ومن قال لك إنها كذاك. إنما جمالها في وضعها الأثري ومعانيها الأثرية، فإن قبلتها فقد فهمتها، وإن لم تفهمها فليس الذنب على الأثريين!

لكننا لا نريد بما تقدم أن قارئ «الهامش» لن يفهم الوقائع الجاهلية، ولا البيئة التي ظهر فيها النبي - عليه السلام - على الوجه الصحيح والوضع المعقول المستقيم.

كلا! بل هو يفهمها صحيحة مستقيمة من موضعين اثنين بدلا من موضع واحد.

يفهمها كما كانت في أعين الجاهليين، ثم يفهمها إذا شاء واستطاع كما تبدو في أعين المحدثين، فيجمع بين زمانين، ويرى الصورة المرسومة في نورين مختلفين.

ولا تظن أن قارئا مستنيرا يطلع على «هامش السيرة» حق الاطلاع إلا وهو مستطيع أن يعرف المقدمات والبشائر التي هيأت البيئة لظهور النبي وظهور الإسلام.

فهاهنا قبيلة نبيلة قد استأثرت بمناسك البيت الحرام، واستقلت بأعباء السدانة.

وها هنا رجل من تلك القبيلة يعرف الهواتف الغيبية، ويبلغ من تقواه أن يعرض عن كنوز الذهب والسلاح وهو فقير أعزل، وأن ينذر ابنا من أبنائه للآلهة فلا يعدل عن التضحية به إلا أن تحله الآلهة أو يحله الكهان.

Halaman tidak diketahui