256

Jam Antara Buku

ساعات بين الكتب

Genre-genre

على هذه السنة نشأت في تقدير كل كلام، فليس عندي أشد خطأ من القائلين: «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال» ولا أستطيع أن أفهم كلاما حق فهمه إلا إذا عرفت صاحبه، ووقفت على شيء من تاريخه وصفاته، وفي مذكرات جمعتها وطبعتها في سنة 1912 باسم «خلاصة اليومية» أقول: «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال» قاعدة لا يصلح إطلاقها في كل حال، فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري مثلا:

تعب كلها الحياة فما أع

جب إلا من راغب في ازدياد

يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من التذمر من الحياة وتمني الخلاص منها، فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو مرة، ونكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة.

وكل ما رأيته بعد ذلك يؤيد هذا الرأي ويعزز هذه التجربة، فالكلمة الواحدة تختلف معانيها باختلاف قائليها، فيؤبه لها من قائل ولا يلتفت إليه من قائل غيره؛ لأن الكلام جزء من الإنسان وليس بحركات تتموج في الهواء وتقع في الآذان، فإذا أردت أن تعرف الجزء فلا محيص لك من الرجوع به إلى كله الذي تجزأ منه، وإذا أحببت أن تفهم الكلمة فافهم المتكلم؛ لأنها من معدنه أخذت وبميزانه تعتبر وتوزن.

أقول هذا وأكثر ما أقرؤه في العهد الأخير من كتب التراجم والسير، وما كتب التراجم والسير؟ هي ولا ريب الكتب التي تعلمنا أن ننظر إلى من قال لا إلى ما قيل وأن نحكم على ما فعل لا على من فعل، فنحن لولا أننا نفهم الكلام والعمل بالرجوع إلى متكلمه وعامله لما عنينا بالاطلاع على سيرة واحدة ولا وجدنا فرقا بين أن يكون هذا القول منسوبا إلى زيد أو إلى عمرو، ومنجما على حسب هذه الحوادث أو منجما على حسب الحوادث الأخرى في زمان آخر.

والتراجم تكثر بعد الحروب والثورات؛ لأن الحروب والثورات تبرز للعالم أفرادا يتحدث الناس بأخبارهم، ويتوقون إلى العلم بأسرارهم وأقدارهم، فيتجه اهتمام الكتاب والرواة إلى الكتابة عنهم والإفاضة في أحاديثهم، فتنشأ الترجمة ويكثر افتتان المترجمين في صناعتهم، وهذا الذي حدث بعد الحرب العظمى وزاد في انتشاره والإقبال عليه أننا في عصر التحليل والدراسات النفسية، والقصص التي تدار على حياة الأفراد وتخلق فيها الأبطال من الواقع أو من التصور، فامتدت الترجمة إلى الأقدمين واتخذ المترجمون من رجال التاريخ أبطالا للقصص والسير لهم شطر من الحقيقة، وشطر من الخيال.

بين أشهر المترجمين في العصر الحاضر ثلاثة هم «إميل لدفج» الألماني و«أندريه موروا» الفرنسي و«ليتون ستراشي» الإنجليزي. قلت في نفسي: ماذا جرى لو أننا حاسبنا هؤلاء السادة بحسابهم وطبقنا فن الترجمة على جماعة المترجمين؟ لقد قضى هؤلاء الثلاثة زمانا في الكشف عن الناس وراء الستار، فماذا يجري لو كشفنا الستار عنهم ونظرنا إلى واقع أقوالهم من حياتهم كما نظروا هم مرارا إلى مواقع الأقوال والأفعال من حياة الأبطال والعظماء؟ أليس هذا عدلا؟ أليس فيه فائدة؟

بلى، وقد كان!

أخذت في المقابلة بين كتابتهم وحياتهم، فظهر لي أنه ما من واحد منهم إلا وله آراء وأحكام تتغير جدا لو تغير القائل وتغيرت نشأته وهواه، وتغيرت الأسباب التي لا دخل له فيها ولا دخل فيها لإرادة مريد.

Halaman tidak diketahui