ولكن ما هذه الساعات بين الكتب، وماذا عسى أن يكون محصولها الذي نخرج به منها على الإجمال؟ أهي ساعات منقطعة للطروس والمحابر، ننقلب فيها من الدنيا الحية النابضة إلى دنيا أخرى من الحروف والأوراق؟ أهي ساعات بين الكتب؛ لأنها ليست ساعات بين الأحياء كما قد يتوهم الذين يقسمون الزمن إلى قسمين: ساعة للقلب وساعة للرب وبينهما برزخ لا تختلط عليه البروج، ولا يعبره هؤلاء إلى هؤلاء؟ أود أن أقول في إيجاز وتوكيد: كلا! ليس للأوراق في «علم صناعتي» مادة غير مادة اللحم والدم، وليست المكتبة عندي - أيا كانت ودائعها - بمعزل عن هذه الحياة التي يشهدها عابر الطريق، ويحسها كل من يحس في نفسه بخالجة تضرب وقلب يجيش وذاكرة ترن فيها أصداء الوجود، وإنما الكتاب الخليق باسم الكتاب في رأيي هو ما كان بضعة من صاحبه في أيقظ أوقاته، وأتم صوره، وأجمل أساليبه، وهو الحياة منظورة من خلال مرآة إنسانية تصبغها بأصباغها، وتظللها بظلالها، وتبدو لك جميلة أو شائهة، عظيمة أو ضئيلة، محبوبة أو مكروهة، فتأخذ لنفسك زبدتها الخالصة، وتعود بها وأنت حي واحد في أعمار عدة أو عدة أحياء في عمر واحد. ذلك هو الكتاب كما أستحبه وأطلبه، وعلى هذا لا تكون ساعاتنا مع القارئ بين الكتب إلا ساعات نقضيها في غمار هذه الدنيا بين الأحياء العائشين، أو بين الأموات الذين هم أحيا من الأحياء.
ولست أدري كيف نشأ في أوهام الناس أن دنيا الكتب غير دنيا الحياة، وأن العالم أو الكاتب طراز من الخلق غير طراز هؤلاء الآدميين الذين يعيشون ويحسون ويأخذون من عالمهم بنصيب كثير أو قليل، ولكني أحسبها بقية من بقايا الامتزاج بين الدين والعلم أيام كان رجال الأديان هم رجال العلوم، وكان سمت الدين هو سمت الزهد والتبتل والعكوف على الصوامع والمحاريب، فكان العالم المتفقه عندهم لا يفتح عليه بالعلم، ولا يمد له من أسبابه إلا بمقدار إعراضه عن العيش المباح منه والحرام، واعتزاله الناس الأخيار منهم والأشرار، وكانت عندهم علوم للشيطان كما كانت عندهم علوم لله، فمن طلب هذه أو تلك فعليه بالتجرد عن الدنيا ورياضة النفس على الشظف والحرمان إلى أن يرزق نعمة الوصول، ويحظى بالاجتباء من إله النور أو من إله الظلام، فقد كان العلم يومئذ إما نسكا أو سحرا، ولا ينسك الناسك ويسحر الساحر وهو يروح ويغدو بين هذه الأحياء، ويشتغل من شئونهم بما هم به مشغلون وإلا فما أغرب ناسكا يحدثك بجمال هذه الدنيا التي يزهد فيها أو يحس معك بمثل ما تحسه من مسراتها وآلامها! وما أعجب ساحرا يتغلب على الطبيعة وهو مسخر للطبيعة تدعوه فيجيب وتستهويه فيلبي بواعث الأهواء! إن هذا لا يكون ولا يدخل في حيز المعقول، فإذا سمعت بكاتب في غير عالم الموميات المتحركة، أو بمكتبة في غير الطريق بين الصومعة والمقبرة فقل ذلك بهتان لا يجوز، ومحال في القياس لا يسلم به العارفون!
كذلك كانوا يفهمون العلم والدين والقدرة على النفس والطبيعة، فهم على حق إذا فهموا أن الساعات التي تقضى بين الكتب إن هي إلا ساعات مقطوعة من الحياة معزولة عن الإحساس، وهم على صواب إذا اعتقدوا أن الورق مادة تصنع من حيث يصنعونه لا من دماء الرءوس والقلوب! لقد كان للعلم في زمانهم مورد واحد في عالم الغيب، أو عالم الموت يستوحونه منه ويثوبون به إليه، فلا يعلم العالم ولا يهبط الوحي على طالبه إلا بثمن من الحياة يؤديه للموت، وقسط من الدنيا ينقله إلى الضريح، ونحن اليوم لا نوحد بين رجال الدين ورجال العلم، ولا نرى إلا أن حياتنا الخالدة هي كل شيء وهي مصدر كل معرفة ومهبط كل وحي وإلهام، وهي المرجع الذي يؤدي له العالم ثمن علمه، والكاتب ثمن وحيه، فلا يعطى من العلم والوحي إلا بمقدار ما يعطي هو للحياة، غير أن العقيدة القديمة ما تزال لها بقية عالقة بالأوهام، والرأي في الكتب والأوراق ما يزال على نمط من ذلك الرأي المتهافت المهجور، فليس بالفضول إذن أن نعرض هنا لذلك الوهم لنقول: إن ساعاتنا بين الكتب على خلاف ذلك؛ هي ساعات بين كل شيء، وإنها قد تجمع في نسقها كل ما ترددنا في اختياره من الموضوعات، فتكون في آن واحد هي الرسائل المتفرقة وهي القصص، وهي الذكريات، وهي كذلك التحليل للأشخاص والوصف للحوادث والأطوار.
ولا يسألني القارئ أي كتب؛ فإنني لا أقصر الكلام على الكتب النابهة، ولا أحجم عن تناول الكتب الكاسدة، سواء في سوق الأدب أو في سوق البيع والشراء، فإنما حد الكتاب الذي يتناول بالنقد في هذه الصفحة هو الورق يقضى في تصفحه ساعة، ويقال فيه شيء بعد ذلك للشرح والثناء، أو للرد والانتقاد، أو لغير هذين الغرضين من أغراض القول والتفكير، وكأني بالقارئ يحسبني ناهجا في هذه الصفحة منهج الطائفة الإحساسية
Impressionist
التي ترسم لك ما تسميه أثر الكتاب في نفسها، ووقعه في ذوقها، ثم لا تبالي مع هذا بمقياس معلوم يمكن القياس عليه، والاحتكام في المسائل المتشابهة إليه.
فإن كان هذا ما سبق إلى روع القارئ من طريقتي التي ألممت بها، فإني أبادر إلى تصحيح هذا الظن وأقول: إن النقد الذي لا مقياس له غير ذوق صاحبه، ولا غاية له إلا أن يخرج بك من الكتاب بأثر يدعيه ولا يقبل المحاسبة فيه، إنما هو ثرثرة لا خير فيها، وهذا لا يساوي الإصغاء إليه؛ لأن الإفضاء به والسكوت عنه سواء. وكثيرا ما ذكرتني طريقة هذه الطائفة الناقدة بحكاية «جحا» المشهورة حين قيل له: كم عدد نجوم السماء؟ فقال لهم: عدد شعر رأسي، فقالوا له: هذا غير صحيح وعليك بالبرهان، قال: لا، بل صحيح وعليكم أنتم بالبرهان، عدوا النجوم وعدوا شعر رأسي وبينوا لي الفرق بين العددين إن كنتم صادقين، فأنا لا أريد أن يكون «شعر رأس الناقد» هو القياس الذي يعجز به السائلين والمستفهمين، فإما أن يصدقوا ما يدعيه من آثار الكتاب في ذوقه، وإما أن يأتوه بالبرهان على نقيض ما يدعيه! كلا. لن يكون عدد نجوم السماء في حسابي إلا - كذا - بالأرقام والأصفار التي تنتظم في كل حساب، أما الإحالة إلى «شعر رأس الناقد» فلا تسفر عن بيان صحيح في النظر إلا حين يكون الرأس أصلع لا شعر فيه وتكون السماء محجوبة ليس بها نجوم! ولكنها فيما عدا ذلك أحجية لا تبين لك عن عدد ما في الرأس ولا عن عدد ما في السماء.
إعجاز القرآن1
كلمة في المعجزة - وكلمة أخرى في الكتاب
ما هي المعجزة؟ هي حادث خارق لنواميس الكون التي يعرفها الإنسان مقصود به إقناع المنكرين بأن صاحبها مرسل من قبل الله، إذ كان يأتي للناس بعمل لا يقدر عليه غير الله، وإنما الأساس فيها والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة، وتشذ عن السنن المطردة في حوادث الكون، وعلى هذا الوجه يجب أن يفهمها المؤمنون بها والمنكرون لها على السواء، فيخطئ المؤمن الذي يحاول أن يفسر المعجزة تفسيرا يطابق المعهود من السنن الطبيعية؛ لأنه بهذا التفسير يبطل حكمتها، ويلحقها بالحوادث الشائعة التي لا دلالة لها في هذا المعنى، أو بأعمال الشعوذة والتمويه التي تظهر للناس على خلاف حقيقتها، ويخطئ المنكر الذي يفهم المعجزة على غير هذا الوجه، ثم ينكر إمكان وقوعها؛ لأنها إذا دخلت في نظام النواميس المعهودة لم يجز له إنكارها، ولم تخرج عن كونها شيئا من هذه الأشياء التي يتوالى ورودها على الحس في أوقاتها.
Halaman tidak diketahui