للترجمة بالبداهة!
فلو أنه حفظه كله لما غابت عنه كلمة في الترجمة من العربية إلى الإفرنجية أو من الإفرنجية إلى العربية، ولاستطاع أن يرطن مع أكبر كبير من الإنجليز أو الفرنسيين بلا توقف ولا تلعثم، وليس هذا بالأمر الصغير الذي يستكبر في جانبه العناء الأليم في حفظ ذلك الكتاب الجسيم.
ومن الحظ الحسن لصغار التلاميذ أن حفظ القاموس - مهما صغر - شيء عسير ومحاولة غير هينة على أي كان من المحاولين، وإلا فلو سهل عليهم ببعض العناء أن يحفظوا القواميس كلها من كلمتها الأولى إلى كلمتها الأخيرة لعلموا بعد قليل من الزمن أنه تعب غير نافع واجتهاد لا يؤدي إلى غناء اجتهاد، كما يقول أبو العلاء.
فأما أولا: فلأن المعول في الكتابة والترجمة إنما هو على استحضار الكلمة في موضعها وعند الحاجة إليها، وليس على حفظ الكلمات الكثيرة بالمئات والألوف. فالذي يحفظ ألفي كلمة من اللغة ويقدر على استحضار كل كلمة منها في موضعها وعند الحاجة إليها، هو ولا مراء أقدر على الكتابة والترجمة ممن يحفظ عشرة أمثالها ولا يقدر على استحضار الكلمات في حينها.
وأما ثانيا: فلأن ملكة الاستحضار لا تغني عن ملكة التعبير، فقد نحضر الكلمات في الذهن عند طلبها، ويظل التعبير بعد ذلك مختلا ضعيفا؛ لأن التصوير مختل ضعيف.
وملكة الاستحضار على لزومها ووجوب العناية بها شيء غير الحفظ، وغير الفهم، وغير التعبير، بل هي قد توجد في المرء على أقوى ما تكون وهو لا يفهم معاني الكلمات التي يخزنها في ذهنه، ويستثيرها من مخازنها عند طلبه، وقد عرفت رجلا كانت فيه هذه الملكة النفسية على قوة خارقة للمألوف في جماعة الحفاظ، وهو قليل العلم بغير ما يحفظ بل قليل العلم بمعاني ما يحفظ، فلا يذكره إلا بحروفه دون معانيه، وهذا أدعى إلى الدهشة في الحقيقة إذ كان المعروف أن فهم معاني الكلمات يعين على حفظها، ويكون كالمناسبة التي تساعد على التعليق والتفكير.
كان هذا الرجل في «أسوان»، وكان صاحب رأي في الدين يعد رأيا جريئا من مثله، لأنه كان ينكر الأئمة الأربعة، وينكر الفقهاء جميعا، ويكتفي بالقرآن على حسب ما يفهم هو بغير حاجة إلى تفسير مفسرين، وكانوا يسمونه الخامسي؛ لأنه يجيء بعد الأئمة الأربعة بمذهب في الدين يتبعه ويدعو إليه ، ولما ظهر في صباه بهذا المذهب قبل ستين سنة أو قرابتها قامت عليه القيامة، وحملوه إلى الوالي يستتيبه فأبى أن يتوب وثبت على رأيه إلى آخر حياته.
والمدهش في أمر هذا الرجل ليس هذا وإن كان فيه من دواعي الدهشة ما فيه، إنما المدهش في أمره حقا تلك القدرة العجيبة على استحضار الكلمات بحروفها وألفاظها دون المعاني التي قد تعين الحافظ على سرعة الإحضار، وكان يحفظ القرآن وكثير من الناس يحفظون القرآن، ولكن الذي يمتاز به هو أنك لا تذكر له كلمة إلا جاءك بما يشبه لفظها من القرآن، ولا عليه من معناها في اللغة ولا في كتب هؤلاء النحاة المذبذبين الذين أدخلوا في الدين ما ليس فيه! وكان لا يقر لك بالعجز أبدا؛ لأنه كان يعتقد أنه ما من شيء في الدنيا إلا وقد ورد في القرآن بحرفه ونصه، فإذا هو عجز عن إخراج كلمة من كتاب الله فقد شك في دينه أو ألقى يد السلم لمجادليه، وكلاهما عنده بلاء عظيم.
كنا نداعبه ونسأله: أفي القرآن يا عم فلان ذكر للمليم؟
فما هو إلا أن نفاجئه بالسؤال حتى يكر علينا بالجواب: أي نعم يا بني! قال الله تعالى:
Halaman tidak diketahui