192

Jam Antara Buku

ساعات بين الكتب

Genre-genre

بعد مائة وخمسين سنة من وفاته هل فشلت الديمقراطية؟

عاش مظلوما طول حياته، وبقي مظلوما بعد مماته، وكانت رسالته في هذه الدنيا أن يرفع الظلم عن المظلومين!

لكل عظيم سخرية من سخريات القدر في تاريخه، وكل تاريخ «روسو » سخرية تتبعها سخرية، ومفارقة تتلوها مفارقة، فهو أستاذ التربية الذي ضاع أبناؤه في ملاجئ اللقطاء، وهو أستاذ الاستقلال الذي لم يعش في حياته مستقلا عن المعونة، وهو أكبر أبناء زمانه أثرا في العالم كله وأقلهم نصيبا من زمانه. عاش مظلوما ولا يزال مظلوما، ولبث طوال أيامه يرفع الظلم عن المظلومين!

أكبر أبناء القرن الثامن عشر أثرا في العالم كله يأكل خبزه مضيفا في بيوت المحسنين، والرجل الذي زعزع رواسي الأرض تحت أقدام النبلاء كان يصيب طعامه أحيانا على موائد النبلاء، فإن ضاق به هذا الرزق فهو خادم في قصر، أو معلم دروس موسيقية، أو ناسخ ينسخ نوطة التوقيع بدراهم معدودة، أو مقتات بأعشاب البرية يجمعها بيديه، أو شريد بين البلاد ينفر من كل إنسان، وينفر منه كل إنسان، ولد منبوذا مهملا، ومات منبوذا مهملا، وبخلت عليه الدنيا بقوت رجل، وجاد هو على الدنيا بدساتير أمم، وغذاء عقول ما له من نفاد.

عاش مظلوما وكانت الطبيعة التي أحبها وفتح محرابها أول ظالميه، وكان هو أكبر الظالمين لنفسه في حياته الفانية وسيرته الباقية، وإلا فما له ولهذه «الاعترافات» التي سجلها على نفسه وخلد بها وصماته، وأقام بها حجة الناس عليه وما هم بخير منه، ولا هو بأولى منهم بالندم والاعتراف؟ لكأنه تعود ازدراء الناس فأحب أن ينغمس فيه إلى قراره، أو كأنه زهد في احترامهم الباطل فقذف بذلك الاحترام في وجوههم وأبرز لهم أخفى خفياته ليقول لهم: ها أنا «روسو» حقير كما تشاءون، ولكني «روسو» بعد ذاك على كل ما ترونه في من عيوب!

ما أضعفه من قوي وما أقواه من ضعيف! شبهه كارليل بالمصروع الذي ينهض بالقابضين عليه حين تأخذه نوبة الصرع، ولكنه لا يتماسك من الضعف حين تفارقه النوبة، وربما أصاب كارليل في وصفه، ولكنه لا يقدح في شأنه ولا في شأن عمله؛ لأن ضعف هذا المصروع مصيبة عليه لا يشاركه أحد فيها، كما يشاركه جميع الناس في قوته، بل هو الضريبة التي يؤديها وحده ليغنم الناس ثمرتها دونه، فشكرا له على ذلك الضعف الذي فرضته عليه الطبيعة فملكته القوة وسيرته حيث سار، ولو ملكها لعرف كيف يستفيد منها لنفسه فلم يظفر منها الناس بكل ما ظفروا به غير شاكرين.

والحق أن للجهاد في الحياة بواعث قاسرة لا سلطان للمجاهد عليها، ولا قدرة له على تبديلها، فهو مخلوق للجهاد أكان خيرا ما يلقاه أم كان ما يلقاه الوبال والجحود، ولو كان الجزاء هو مبعث الجهاد في سبيل من سبل العقيدة لكان روسو أولى الناس أن يكف عنه بما جوزي به في أيامه، ولعله كان أولى بالكف عنه لو اطلع على جزائه بعد مماته، وعرف الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات في محكمة الذكر والإعجاب.

ربما كان القدح في روسو أكثر من الثناء، وربما كان الكلام فيه أكثر من الإعجاب، ولا تنس سوء النية في النقمة عليه، وتسفيه رأيه، وتصغير شأنه، فقد أسخط رجال الدين ورجال الملك، ولم يكن حقيقا به أن ينتظر الشكر من غير الدهماء المظلومين، ورجال الدين - كما يقول هيني - طوال الألسنة، ورجال الملك طوال الأيدي، ورجال الدهماء طوال الآذان، أو هم لا يسمعون!

فلو كان روسو شرا مما كان عقلا وقلبا لما عز عليه أن يظفر بأكبر من قسمته في الذكر والثناء، ولما كان بعيدا أن يقل القادحون فيه ويكثر المادحون له، وأن يزداد الإعجاب به وينقص الحقد عليه، فإن مقياس التقدير الذي تدخل فيه إرادة الناس كثير الاضطراب والتناقض والشذوذ، أو إن شئت فقل: إنه مطرد القياس، ولكن على غير وتيرة نضبطها وندخلها في حساب معلوم، وكيف يزن الناس أعماء العظماء إلا على الجملة أو على وجه التقريب؟ وكيف يزنونهم ولا حاجة بهم إلى وزنهم، وإنما حاجتهم أن يأخذوا ما يعطونه، كما يأخذون ضوء الشمس وأنفاس الهواء؟ فلا الناس مضطرون إلى وزن أعمال العظماء، ولا هم قادرون على تمحيص وزنها إذا اضطروا إليه، وآفة العظمة أنها شيء لا يوزن بالموازين العامة، وأن الناس لا يملكون الموازين العامة، وإن كان القباني أحيانا من الخواص.

وزد على ذلك الرغبة في الحذلقة وهي أشيع جدا من الرغبة في الصدق والإنصاف.

Halaman tidak diketahui