أهل حارتنا لا فرق فيهم بين غني وفقير وهم يعترفون بفضل الله عليهم ولا يتنكرون لأصلهم، ودعك من آل سعادة فهم مجانين من ذرية مجانين!
محمد الصغير كان قريني في اللعب في الميدان وفي قطف ذقن الباشا من أشجار البلخ. ودخلنا الكتاب معا فمكث فيه عامين أكثر مني لينقطع بعد ذلك عن التعليم ويمارس العمل في الطاحونة والمحل تحت رعاية أبيه، بدأ العمل في العاشرة، وقرر علي بك أن يشعره بالرجولة قبل مجيئها فألبسه الجبة والعمامة وعامله بجدية تفوق ما يحتمل عمره. وأذهب إلى مرجوش كلما سنحت فرصة لأشاهد صديقي من بعيد وهو يعمل، فنتبادل البسمات الخفية بعيدا عن أنظار أبيه. وعند فراغه من عمله يرتدي جلبابه ويهرع إلي في الميدان لنلهو بألعاب الصبيان. ولما قامت ثورة 1919 شارك علي بك فيها بماله وقلبه ولسانه، واعتقل في يوم واحد مع حسين بك العمري، ولكنه واصل نشاطه السياسي بعد ذلك حتى انتخب عضوا في أول مجلس نواب بعد الثورة، وحافظ على عضويته في جميع البرلمانات الوفدية حتى آخر برلمان قبل ثورة يوليو. وعقب الثورة انتقلت الأسرة إلى سراي جديدة بالعباسية الشرقية، وزوج الرجل ابنه محمد وهو ابن خمسة عشر عاما، وأحيا فرحه صالح عبد الحي وبمبة كشر.
ولم ينقطع ما بيننا وبين آل البنان بالسرعة التي انقطع بها ما بيننا وبين الآخرين، ولكنه انقطع على أي حال. والظاهر أن روح الألفة والتضامن المنبثة في الحارة تتلاشى في الأحياء المترامية. إلا تراث أم أحمد من الخدمات والأساطير فهو باق لا يقتلع من صدور الناس على اختلاف طبقاتهم. ويكتسب أهميته المتجددة من ينابيع الحب والجنس والأحلام الخالدة. وهي أم أحمد التي أخبرتنا على المدى بزيجات بنات البنان؛ واحدة من محام، والثانية من مهندس ري، والثالثة من وكيل وزارة، وأن الأولى شهد زفافها سعد زغلول كما شهد زفاف الأخريين خليفته مصطفى النحاس، ولكن المجتمع تغير في علاقاته وتياراته وأفكاره، واحتدم الجدل والخصام بين أجياله، حتى قامت ثورة يوليو لتواجه التناقضات الجديدة قبل أن تجتاحها ثورة شعبية جائحة. ووجد علي بك البنان نفسه في مرمى مدافع التغيير الثوري، وحمل من سراياه إلى أعماق السجون وهو لا يدري لذلك سببا، ثم وضع تحت الحراسة، فران على الأسرة ستار أسود من الحزن والغم، وانفجر شريان في رأس الرجل فرحل عن الدنيا مستعيذا بالله من الناس وشر الناس، على حين انزوى ابنه محمد في ذعر مقيم. وتصورت أم أحمد أن تلك الأحداث يدبرها رجال عبد الناصر من وراء ظهره وتمتمت متنهدة: عيني عليك يا علي بك يا أمير وعلى أيامك الحلوة.
ولحقت فردوس هانم بزوجها بعد رحيله بعام، ولكن محمد البنان استرد نشاطه في عهد الرئيس السادات، وعاونه الانفتاح فعوض خسائره وضاعف ثروته، بل وتردد اسمه في صحف المعارضة باعتباره من وحوش الانفتاح، فأي حياة وأي سخرية من عجائبها؟! •••
آل المرداني يشكلون الأسرة الرابعة من أعيان الحارة، وتقع سراياهم عند طرف الحارة الآخر المتصل بين القصرين. وتقسم أم أحمد أنها رأت أباه المرداني الكبير يتجول في الحارة حافيا. - ولكنه الحظ والشطارة والحرب!
على أي حال نشأ عباس بك المرداني من كبار تجار الجملة في العطارة، وهو الذي شيد السراي التي تعتبرها أم أحمد أجمل وأفخم سرايات قرمز! - أما زوجته فرحة هانم فهي من أصل مملوكي، جميلة، وما جميل إلا سيدنا محمد.
فتقول أمي: جميلة نعم، ولكنها لا تخلو من عنطزة! - المال كثير يا حبيبتي. - أهم أغنى من البنان؟ - عباس بك المرداني أغنى رجل في الحارة.
وتسكت مليا ثم تواصل: لم ينجب إلا ولدين وانقطعت الهانم عن الحبل لداء احتار الأطباء فيه! - وماذا فعلت أنت يا أم أحمد؟ - فعلت الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة!
وكان عباس بك ضخم الرأس والوجه، غليظ القسمات، بدينا لحد الإفراط، ولكنه كان كريما محسنا وابن نكتة، وكان سلاملك سراياه صالونا للظرفاء وذوي الحناجر الطيبة من الهواة وصغار المحترفين. ولما قامت ثورة 1919 أيدها بماله، ولكنه لم يكن ذا استعداد للاشتراك في الشئون العامة مثل حسين بك العمري وعلي بك البنان. واقتحمت الثورة سراياه وهو لا يدري فانتزعت منه بكريه محمود الطالب بالزراعة العليا، حيث قتل في إحدى المظاهرات. وقالت أم أحمد: لم يبق له إلا شاكر، وكثيرون ينصحونه بالزواج من أخرى. - مسكينة فرحة هانم! - وحزنها فاق كل حد، ربنا يصبرها!
وانتقل عباس بك المرداني إلى العباسية الشرقية كآخر الأعيان المهاجرين، ولوعه الشديد بالهانم زوجته نبذ فكرة الزواج من أخرى، وكان أول من اقتنى سيارة .. «فيات» من الأعيان، وكانت تثير الخواطر إذا مرقت في شارع العباسية في ذلك الزمان بسحرها الخاص وأزيزها الذي يكدر الهدوء الشامل. وانتهت حياة عباس بك نهاية درامية مأساوية في الثلاثينيات وهو في غاية الصحة والعافية والحيوية. وكان يهم بدخول شيكوريل فأصابته رصاصة طائشة في معركة نشبت بين يونانيين فجرت مأساته على أوسع نطاق. وكان شاكر بك ابنه قد أصبح محاميا فصفى تجارة والده، وأخبرتنا أم أحمد أنه تزوج من فتاة بارعة الجمال تمت بصلة القربى للسلطان عبد الحميد.
Halaman tidak diketahui