اليوم أبدأ حياة أخرى، حياة التقاعد؛ عمر طويل تقضى في خدمة الحكومة أفنى شبابي وكهولتي وأطل بي على الشيخوخة. وأظلني بولاء لملك وأربعة رؤساء فلم يشعر أحدهم لي بوجود، لا يخالجني أسى كبير لأني ما انتقلت إلا من درجة من الضجر إلى أخرى أسوأ وأشد. الذاكرة تعذبني والخيال، فلعله من حسن حظ الحشرة الهائمة في القمامة ألا يكون لها ذاكرة أو خيال، بل الأغلب أن الحشرة تهنأ بالقمامة، بالقياس إلي لا فارق يذكر بين مسكني البالي وبين القمامة. إنه لظلم وأي ظلم ألا أكون اليوم في بيئة جديدة تزهو بالنقاء والنضارة، وألا أكون شجرة تنعم بالأوراق والأزهار والثمار. وأذكر أسرتي فينقبض وجهي من المرارة والسخط، على أن وقت المحاسبة قد مضى وانقضى. لا أريد أن أصدق أنني عايشت هذه الحجرة منذ عهد التلمذة وحتى عهد التقاعد، هيئتها ومحتوياتها لم تكد تتغير إلا قليلا، هذا السرير الخشبي ما أصلبه! سرير معمر لم تنل السنون من صحته وقوة احتماله، لا يحظى أثاث هذا العصر بمثل هذه القوة المتحدية. وصوان متوسط الحجم ذو ضلفة واحدة تشغلها مرآة من أعلاها إلى أسفلها، طراز منقرض تماما، ومكتب صغير قائم بين النافذتين متين القوائم مقشر السطح راجعت فوقه دروسي الابتدائية والثانوية والجامعية، وكنبة تركية طويلة جديرة بالمتاحف، وسجادة فارسية - هدية البكالوريا - هي المتاع الوحيد المحافظ على رونقه. لم تعد هندسة البناء الحديثة حجرات بهذا الاتساع، ولا أسقف بهذا الارتفاع، ولا أرضية مركبة من البلاط المعصراني. العمارة نفسها آن لها أن تحال إلى التقاعد، وشارع أبو خودة لم يعد له من مضمون الشارع إلا اسمه. نفايات الدهر الغليظ تتوارى في أركانها المظلمة أجمل الذكريات، ولا جديد ألبتة إلا السكان الجدد ينفثون الغربة والابتذال والاستفزاز. وحيد في شقة كبيرة، من حجرات أربع وصالة تتكون، يغزوها التراب، وتقطنها معي الصراصير والفئران. أتصدى لكل شيء دون جدوى، للغزاة والوحشة والكآبة، وللذكريات الحلوة أيضا، وألعن الذاكرة والخيال، أقول لنفسي - خاصة وأنا أنظف حجرتي وأرتب فراشي - إنني كنت يوما مناط الأمل وقطب العناية المركزة في تلك الأسرة الغابرة، وكنت أيضا الضوء الذي ترف حوله فراشات جميلة؛ إي والله في غاية الجمال والعذوبة والجنس. وحلمي كان حلما متواضعا في متناول كل شاب؛ أن أتزوج وأستقر في أسرة بين أبناء. لم يناوشني طموح كبير فأشقى به أو له، عرفت الطموح عند أصدقاء وزملاء، منهم من وصل وتألق، ولم يكن حلمي إلا الخطوة الأولى في طريقهم الطويلة فكيف خاب السعي وانقلب الهدف، كيف أجدني اليوم وحيدا بين يدي التقاعد، لا أنيس لي إلا الراديو والتليفزيون والذكريات المعذبة، والحوار الذي يدور مرارا وتكرارا بيني وبين أشباح أسرتي الزائلة، أقول لهم لولاكم لكنت وكنت فيقولون لي ولولا الحظ لكنا وكنا، هل أصر على الغضب؟ هل أسلم للشفقة والرحمة؟ ولا أجد أخيرا ما ألعنه إلا الحظ. ومع العصر وشدة الحر ناداني المقهى؛ أي منطلق فهو خير من سجن هذه الشقة المنفرة. لم يبق لي أحد من أهل الزمان الأول؛ فمن مات مات، والقلة الباقية تغيرت مشاربها ومواقعها في المدينة الكبيرة. أما الطريق بين أبو خودة ومقهى النجاح في ميدان الجيش فقد رسخت هيئته الحديثة بطواره المحطم وتياره البشري المصطخب وأصوانه المرعدة المزمجرة ومركباته المتنوعة المتلاصقة المتدفقة وغباره المنتشر، رسخت هذه الهيئة فجعلت من أناقته القديمة وسماحته الزائلة وهدوئه الشامل حلما من أحلام اليقظة. وأجد حمادة الطرطوشي في مجلسه على رصيف المقهى في انتظاري. سبقني إلى التقاعد بخمس سنوات، وأغرانا بالتعارف تقارب السن والوحدة، وهو ذو شيخوخة متجعدة متفجرة تمادت في احتلال القسمات والصوت حتى ليبدو أكبر من سنه، رأس أبيض كالشمع، وحاجبان ساقطان على جفنيه كالأسلاك، ونظرة منطفئة ذابلة مع ثرثرة ومرح. ووحدته قاصرة على الأصحاب، عدا ذلك فهو رب أسرة وأب لرجال ناجحين ينتشرون في شتى الوزارات، فلم يعد يشاركه بيته بشارع الشرفا إلا زوجته. استقبلني بابتسامة فضحت خواء فمه ونمت عن حرارة المودة التي تجمعنا وتمتم: أهلا، هذا أول أيام التقاعد، ربنا يطول عمرك.
فقلت متصبرا: كآبة عابرة ليس إلا. - بالصراحة كان وقعه علي أشد. - ألا ترى أن هموم الحياة اليومية تغطي على ترف العواطف الرومانتيكية؟
فلوح بيده المدبوغة، وقال: صدقت يا عم حليم، والمعاش على أي حال أقل من المرتب. - والمرتب لم يكن يكفي، وبين أصحاب المعاشات وضحايا المجاعة في إثيوبيا خطوة أو خطوتان!
ضحك ضحكة صامتة، وتساءل بنبرة جديدة: هل أطلب النرد؟
فقلت دون حماس: الوقت أمامنا طويل طويل!
فقال بعطف: مشكلتك الحقيقية هي الوحدة! - أي نعم، كانت الوزارة تشغل نصف العمر. - اسمع نصيحتي، لا تمكث في البيت إلا للضرورة القصوى.
فقلت متفكرا : الوحدة ليست في البيت فقط، إنها هنا أيضا!
وأشرت إلى صدري .. فقال باسما: أنت لا تسلو أبدا عن حلم الزواج القديم!
فتساءلت بأسى: هل فاتت الفرصة؟ - الفرص بيد الله سبحانه، ولكن هل فيك الرمق المطلوب؟
فقلت بحرارة: يجمعون على أن حالتي العامة أصغر من سني بكثير، وأحيانا يخيل إلي أني رددت إلى فترة المراهقة، نجوت حتى اليوم من الأمراض المزمنة المتداولة، لم أخبر من الأمراض إلا نزلات البرد، أسناني كاملة ومتينة رغم حشو أربعة ضروس، ولم أحتج إلى نظارة رؤية أو قراءة علما بأن ولعي بالقراءة هبط إلى حد أدنى في السنين الأخيرة، وما زال السواد له الغلبة في السيطرة على رأسي، ولكنني لا أحب التمويه بذلك كثيرا خوفا من الحسد؛ فالحق أن الثقافة لم تقتلع من باطني بعض الرواسب القديمة، وقال حمادة الطرطوشي: إن وجدت فرصة فأهلا وسهلا، وإن لم تجد فارض بالمقسوم، وإن تكن تحسد المتزوجين أمثالي فهم أيضا قد يحسدونك، والله ما هد حيلنا وقصر عمرنا إلا الحياة الزوجية والثانوية العامة!
Halaman tidak diketahui