رؤية الله تعالى بين العقل والنقل
بحث حول مسألة رؤية الله تعالى بين النافين والمثبتين
تأليف
عبد الله حمود درهم العزي
الطبعة الأولى
1417ه 1996م
حقوق الطبع محفوظة للناشر
تم الصف والإخراج بمركز النور للدراسات والبحوث
اليمن صعدة ص. ب (90238) بسم الله الرحمن الرحيم
Halaman 1
الإهداء
إلى والدي العزيز الذي أشربني حب العلوم الشرعية وشجعني على إخراج هذا البحث المتواضع الذي يعتبر ثمرة من ثمار غرسه.
فإليه أهدي هذا البحث برا به وعرفانا بجميله.
ولدك مستمد دعائك
عبد الله حمود بسم الله الرحمن الرحيم
Halaman 2
مقدمة
الحمد لله الذي {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}(1)، الذي { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(2) ناصر الحق ومظهره، وخاذل الباطل ومبطله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين.
أما بعد
فإن مسألة الرؤية من أهم مسائل أصول الدين التي يجب معرفتها بطريقة القطع والجزم واليقين، لا بطريقة الظن والشك والتخمين، وقد كثر فيها الخلاف بين علماء المسلمين فهم بين:
1 قائل بإمكان الرؤية وثبوتها.
2 وقائل باستحالة الرؤية ونفيها.
Halaman 3
ومن أهم أسباب الخلاف هو عدم فهم البعض لمقاصد الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين، وكذلك الابتعاد والتغافل عن نهج وفكر أهل البيت النبوي الكريم، الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحبهم، والتمسك بهم وعدم مخالفتهم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))(1). كما أنه شبههم بسفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى: (( أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى ))(2).
ومن أهم أسبابه أيضا: التعصب البغيض والتقليد الأعمى الذي هو طريق الغواية والردى، كما أخبر بذلك رسول الهدى: (( من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال ))(3).
Halaman 4
ومما لا شك فيه أن المعيار الصحيح للحق هو الحق ذاته، ولا عبرة بالرجال والأشخاص. يقول الإمام علي عليه السلام: (اعرف الحق تعرف أهله قلوا أو كثروا) فالكثرة ليست مقياسا للحق حيث نجد أن الله قد ذم الكثرة، ومدح القلة في كثير من آيات الكتاب، ومنها قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}(1)، وقوله تعالى: {ولا تجد أكثرهم شاكرين}(2)، وقال جل شأنه: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(3)، وقوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يشكرون}(4)، وقوله تعالى: {أكثرهم لا يعقلون}(5)، وقوله تعالى مادحا القلة: {وقليل من عبادي الشكور}(6)، وقوله تعالى حاكيا عن داود عليه السلام: {وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم}(7) إلى غير ذلك من الآيات الذامة للكثرة والمادحة للقلة.
والحق أحق بالإتباع، وهو حاكم لا محكوم، فهو الذي يحكم على معتقدات وسلوك الأفراد بالخطأ أو الصواب.
فلو تم التسليم به لانزاحت أسباب الفرقة والإختلاف.
وهذه الصفحات التي تصافح أناملك تتناول في طياتها مسألة الرؤية مستعرضة أدلة كل من النافين والمثبتين مناقشة لها على ضوء العقل والنقل، ومن خلالهما نستلهم الحقيقة ونستبين الحق. وقرنت العقل بالنقل لما بينهما من التقاء تام، وارتباط قوي.
دوافع التأليف
والذي دفعني إلى جمعها هو تقريب وجهات النظر في المسألة بين المسلمين، وإخراجها بصورة مبسطة وشاملة للطالبين، إظهارا للحق.
Halaman 5
لقد قرأت في [كتاب شرح العقيدة الواسطية(1) ص102 (بأن من ينكر أحاديث الرؤية ملحد زنديق)]، فكان اندفاعي إلى تحقيق المسألة أكثر ليعلم القائل بأن المنكرين للرؤية متمسكون بأصل صريح من الكتاب والسنة. فلم الإنكار عليهم ووصفهم بالإلحاد والزندقة؟ كما أنهم لا يقصدون من ذلك إلا توحيد الله جل شأنه توحيدا يليق بجلاله.
وقسمت هذه الصفحات إلى ثلاثة أقسام:
أالقسم الأول: ويعتبر كتمهيد، أو مدخل ويشمل الآتي:
1 عرض سريع لأهمية العقل.
2 عرض سريع للمحكم والمتشابه.
3 مدلول الرؤية لغة.
4 توضيح الخلاف.
ب القسم الثاني: ويشمل أدلة القائلين بالرؤية إمكانا وثبوتا.
ج القسم الثالث: ويشتمل على أدلة القائلين باستحالة الرؤية ونفيها.
ولا ندعي بأننا قد أتينا بما لا يستطيعه غيرنا، بل عملنا هو من باب تحصيل الحاصل. ونعترف مسبقا بقلة البضاعة وقصور الباع في هذه الصناعة ومن تيقن خطأ، أو وقف على سهو أو زلة قلم فليصلح وله من الله الأجر.
وإن تجد عيبا فسد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا
وأخيرا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد صفوف الأمة الإسلامية ويلهمها رشدها، وأن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم والله من وراء القصد.
عبدالله حمود درهم العزي صعدة ...
11/9/1415 ه . الموافق 10/2/1995 م .
تنبيهات لا بد منها
التنبيه الأول: جل ما في هذا البحث من ذكر الآل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من صنيعنا تجنبا للصلاة البتراء المنهي عنها في الحديث الصحيح.
Halaman 6
التنبيه الثاني: عندما أنقل من مصدر من المصادر أنقل الموضوع كما هو بدون زيادة أو نقصان، فإذا وردت ترضية أو ترحم، على من لا يستحق، فإنما هي حسب أمانة النقل.
أما إذا كان الموضوع مطولا فإني أختصره وأرمز له في الحاشية وأقول: انتهى عن كذا صفحة كذا. بتصرف.
وقد أثبت في آخر الكتاب أهم تلك المصادر والمراجع التي اعتمدتها، ورجعت إليها.
التنبيه الثالث: أنصح القارئ الكريم أن لا يحكم على هذا البحث المتواضع إلا بعد انتهاء قراءته، وخلع ثوب التعصب المذهبي، والتقليد الجاهلي من عقيدته والنظر إليه بعين الحق والإنصاف.
Halaman 7
القسم الأول
1 عرض سريع للعقل وأهميته.
2 عرض سريع للمحكم والمتشابه.
3 مدلول الرؤية.
4 توضيح الخلاف.
Halaman 8
عرض سريع للعقل وأهميته
مما لا شك فيه أن العقل نور يميز الإنسان به بين الحق والباطل، وبين الشر والخير، وبين الممكن والمستحيل.
ويعتبر مناط التكليف وأداة النظر والتدبر {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}(1). فنجد أن الله سبحانه وتعالى نص في محكم كتابه العزيز على شرف العقل وأهميته في آيات كثيرة .
وفي الكلام التالي المأثور عن الإمام موسى بن جعفر(2) عليه السلام دراسة وافية للهدف والوسيلة اللذين مارسهما القرآن في إثارة العقل العملي، ودعوة الإنسان إليه.
Halaman 9
فقال عليه السلام مخاطبا أحد أصحابه: إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}(1).
ثم قال: إن الله عز وجل أكمل للناس الحجج بالعقول وأفضى إليهم بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال: {وإلهكم إله واحد لا اله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ومآ أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لأيات لقوم يعقلون}(2).
ثم قال له: قد جعل الله عز وجل ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا فقال: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}(3)، وقال: {حم* والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}(4)، وقال: {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}(5).
Halaman 10
ثم قال له: ثم وعظ أهل العقل، ورغبهم في الآخرة، فقال: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}(1).
وقال: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون}(2).
ثم قال له: ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عز وجل: {ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون}(3).
ثم قال له: ثم بين أن العقل مع العلم، فقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}(4).
ثم قال له: ثم ذم الذين لا يعقلون، فقال: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}(5)، وقال: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}(6)، ثم ذم الكثرة، فقال: {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون}(7)، وقال: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}(8)، وقال: {ولكن أكثرهم لا يعلمون}(9).
Halaman 11
ثم قال له: ثم مدح القلة، فقال: {وقليل من عبادي الشكور}(1)، وقال: {وقليل ماهم}(2) وقال: {وما ءآمن معه إلا قليل}(3).
ثم قال له: ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية، فقال: {يؤتي الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب}(4).
ثم قال له: إن الله يقول: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}(5) يعني العقل، وقال: {ولقد آتينا لقمان الحكمة}(6)، قال: الفهم والعقل.
ثم قال له: إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس.
يابني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل، وقيمها العقل، ودليلها العلم، وسكانها الصبر.
ثم قال له: لكل شيء دليل، ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شيء مطية، ومطية العاقل التواضع، وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه. إلى أن قال: إن على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، والباطنة العقول (7). انتهى كلام الإمام الكاظم موسى بن جعفر.
Halaman 12
قلت: وكذلك نجد أن القرآن استخدم العقل في إثبات أصول الدين في مثل قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (1) ، وقوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} (2)، وقوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}(3). ومن هنا ندرك أهمية العقل، ومكانته عند الله سبحانه وتعالى وأن الأخذ به أخذ بالقرآن.
والمذهب الزيدي انتهج النهج القرآني في استخدام الدليل العقلي في إثبات أصول الدين، وجمع في الاستدلال على صحة معتقداته، بين صحيح النقل وصريح العقل، لذلك لم تأسره ظواهر الألفاظ المتشابهات كما أسرت بعض المذاهب التي عطلت العقل، وحصرت دوره، وقصرت فهمه، وإدراكه على فهم من قلدوه من السابقين تقليدا أعمى.
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءآباءنا أو لو كان ءآباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}(4).
Halaman 13
قال الإمام القاسم الرسي(5) عليه السلام: فأول ما نذكره من ذلك معرفة الله عز وجل وهي عقلية منقسمة على وجهين: إثبات ونفي. أما الإثبات فهو اليقين بالله والإقرار به، وأما النفي فهو نفي التشبيه عنه تعالى وهو التوحيد، وهو ينقسم على ثلاثة أوجه:
أولها: التفرقة بين ذات الخالق، وذات الخلق حتى ينفى عنه جميع ما يتعلق بالمخلوقين من معان صغيرة أو كبيرة جليلة أو دقيقة حتى لا يخطر في القلب تشبيه؛ لأن التشبيه يخرج صاحبه من اليقين إلى الشك، ومن التوحيد إلى الشرك، ولا منزلة ثالثة بينهما.
ثانيها: التفرقة بين صفات القديم وصفات المحدثين حتى لا تصفه بصفة من صفاتهم.
ثالثها: التفرقة بين فعله عز وجل وبين أفعال المخلوقين، ومن شبه صفاته بصفاتهم أو فعله بأفعالهم فهو بدوره قد خرج من اليقين إلى الشك، ومن التوحيد إلى الشرك. اه.
المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
حمل القرآن الكريم في طياته القواعد الأساسية، والأصول العامة لكل ما يحتاجه الإنسان من عقائد وقوانين وأحكام وأنظمة وآداب وأخلاق.
وهكذا تمر السنون وهو بين أيدينا معجزة خالدة كلما مر عليه زمن كشف عن وجه جديد من إعجازه.
قال الإمام علي عليه السلام: (ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره)(1)، اه.
وقال أيضا: (وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه) (2). اه.
وبالنسبة للوضوح والخفاء ينقسم إلى قسمين: محكم، ومتشابه.
Halaman 14
فالآية الواضحة البينة المفهومة هي من قسم (المحكم) مثل
قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين }(1)، وقوله تعالى: {قل هو الله أحد } (2)، وقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(3) إلى غير ذلك من الآيات البينات الواضحات اللاتي لا تختلف فيهن المقالات ولا تدخلهن التأويلات.
أما الآية التي تختلف الأنظار في فهمها فهي من قسم (المتشابه)، مثل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى}(4)، وقوله تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا}(5)، وقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}(6).
وينقسم المتشابه إلى أنواع منها:
1 ما يدل لفظه على شيء يستوقف العقل ويستدعي إرجاعه إلى الآيات المحكمات، مثل قوله تعالى: {ثم استوى على العرش}(7)، و{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}(8) وفي هذه الحالة يتعين التأويل وهو من اختصاص أهل العلم إذ لا بد للتأويل من دليل صحيح يصرف اللفظ إلى معنى صحيح.
2 ما يعرف معناه على سبيل الإجمال لا التفصيل، مثل قوله تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا}(9) فمعرفتنا تقتصر على فهم الروح بأنها سر إلهي، ولا نستطيع أن نعرف هذا السر بكنهه وحقيقته فهو من أمر الله.
ولعلك تسأل: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى بعض آيات القرآن محكمة يفهمها الجميع وبعضها متشابهة لا يفهمها إلا الراسخون في العلم، ولم يجعلها واضحة بكاملها يستوي فيها العالم والجاهل؟.
Halaman 15
والجواب: قد أجيب على هذا السؤال بأجوبة عدة، منها: أن هذا القرآن الذي يتحدى فصحاء العرب والعجم، وبلغاء الأمم بأنه معجز لا يبارى لا بد وأن يستكثر في آياته المجازات والاستعارات والكنايات والمحاسن البديعية صيانة لروعة إيجازه وإعجازه فتنقلب إلى المتشابهات. كما أنه كتاب أممي ومعلم عالمي له تلاميذ من كل جيل، وله قرآء من كل مكان وزمان، فهو مربي عقول متنوعة، ومغذي أذواق مختلفة وساقي حقول متفرقة، فلا بد له أن يعد لكل صنف طعاما، ولكل صنف كلاما، ولكل عقل علوما.
فالمتشابه إذا أتى لمصلحة كبيرة يعلمها الله تعالى.
أما العلامة محمد جواد مغنية (1) فقال ما نصه: أجيب على هذا السؤال بأجوبة عديدة أرجحها: أن دعوة القرآن موجهة إلى العالم والجاهل، والذكي والبليد، وإن من المعاني ما هو معروف ومألوف للجميع، ولا تحتاج معرفته إلى علم ودراسة ، فيكشف عنه بعبارة واضحة يفهمها كل مخاطب، ومنها عميق ودقيق لا يفهم إلا بعد الدرس والعلم، ولا يمكن فهمها من غير المؤهلات لذلك مهما كان التعبير.
فالواقع إذن هو الذي يحتم أن تكون بعض الآيات ظاهرة المعنى، دون البعض بالإضافة إلى أن الحكمة تستدعي أحيانا الإيهام كقوله تعالى على لسان نبيه: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}(2).
وهنا يبرز سؤال آخر: إن الله سبحانه وتعالى قد وصف كتابه بأن آياته كلها محكمة {كتاب أحكمت آياته}(3) كما وصفه بأنه متشابه {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} (4)، ووصفه في آية أخرى بأن بعضه محكم وبعضه متشابه {منه ءآيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}(5).
فكيف يمكن الجمع بين الآيات الثلاث؟
Halaman 16
والجواب: هو أن المراد بقوله تعالى: {أحكمت آياته} أي أحكمت في النظم والإتقان والإعجاز. والمراد بقوله تعالى{ كتابا متشابها} أي يشبه بعضه بعضا في البلاغة والهداية. والمراد بقوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} أي أن بعضه واضح المعنى وهو محكم، من جهة أنه لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يرتاب فيه مرتاب، وبعضه غامض متشابه يحتمل وجوها كثيره ويحتاج فهمه إلى رسوخ في العلم وبحث واستقصاء واجتهاد.
ومن هنا يمكن القول بأن المتشابه بالنسبة لأهل العلم من ذوي الاختصاص يكون واضحا، وليس كل العلماء، وإنما الذين لديهم رسوخ تام في العلم.
إذ ليس من المعقول أن ينزل الله سبحانه وتعالى كلاما في القرآن لا معنى له ولا يقدر على فهمه أحد. كيف وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة بتدبره ولا يمكن التدبر والتعقل إلا للمعقول.
قال الإمام علي عليه السلام: (ذاك القرآن الصامت، وأنا القرآن الناطق). وقال ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم أنا ممن يعلم تأويله.
ولا شك في ذلك فقد دعى له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: في دعائه له: (( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ))(1)، وهذا بين لا إشكال فيه.
Halaman 17
وكان في الأمة الإسلامية ولم يزل فريق يريدون أن يستغلوا الدين لمصالحهم الشخصية، أو يسخروه لإثبات أهوائهم المضلة، وقد أراد الإسلام تطويق هذا الفريق، فجاء في الكتاب: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}(1).
هكذا وضح القرآن الكريم نوايا هذا الفريق الفاسدة، وإنهم سيتبعون ما تشابه منه قاصدين الفتنة والإغواء.
وهنا لا بد من الإشارة إلى قضية هامة وهي ضرورة رد المتشابه إلى أصل الكتاب وهو المحكم وحمله عليه في حال عدم ظهوره، وضرورة تأويله مع ما يتناسب مع القرائن العقلية والصرائح النقلية القطعية القاضية بعظمة الله وعدم مشابهته لمخلوقاته، وقد علمنا الله ذلك في كثير من آياته، منها قوله تعالى:{يوم يكشف عن ساق}(2) أي عن شدة، وهذا مألوف في لغة العرب. والقرآن نزل بلغتهم فهم يقولون عند اشتداد الحرب:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
وكما في قوله تعالى: {وجاء ربك} أي جاء ثوابه مثلما في قوله تعالى: {واسأل القرية} أي أهل القرية.
Halaman 18
وكذلك في قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم}(1)، وقوله تعالى: {إنا نسيناكم}(2)، وقوله: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا}(3)، فهذه وما شابهها متشابه يجب إرجاعها إلى المحكم وهو قوله تعالى: {وما كان ربك نسيا}(4)، ويكون تأويلها هو: إنهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا وصاروا منسيين من الخير، متروكين غير مثابين كأولئك الذين كانوا في دار الدنيا ذاكرين، أي حين آمنوا به وبرسوله وخافوه.
فلا يجوز لنا أن نقول إن لله نسيانا ولكنه ليس كنسياننا لأن الله تعالى قال: {وما كان ربك نسيا} أي ليس بالذي ينسى ولايغفل وهو الحفيظ العليم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}(5).
فأنصح المرضى بالتجسيم أن يتفهموا هذه الأمور الهامة ويتدبروا كلام الله تعالى، ويتعاملوا مع المتشابه من آياته تعاملا سليما خاليا من كل ما يوحي بالتجسيم والتشبيه.
ومن المناسب أن أذكر قصة الرجل الشاك في القرآن الذي أتى أمير المؤمنين عليه السلام يسأله عن ما أشكل عليه في كتاب الله، التي رواها السيد العلامة عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الشرفي، عن محمد بن إسحاق الكوفي الأنصاري، وهذا رواها من طريقين إحداهما عن أبي معشر السعدي وقد كان أدرك عليا (ع)، والأخرى عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي (ع) قال: أتى رجل عليا (ع) فقال: يا أمير المؤمنين إني شككت في كتاب الله المنزل. فقال له علي (ع): ثكلتك أمك، وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟!
فقال الرجل: إني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا ولايصدق بعضه بعضا وكيف لا أشك فيما تسمع يا أمير المؤمنين؟
Halaman 19
فقال له علي (ع): إن كتاب الله يصدق بعضه بعضا، ولاينقض بعضه بعضا، ولايكذب بعضه بعضا، ولكنك لم تستعمل عقلا تنتفع به فهات الذي شككت فيه.
فتلى الرجل آيات كثيرة حتى وصل إلى قوله: وأجد الله يقول: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} (1)، ويقول: {لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}(2)، ويقول: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى}(3)، وساق بعدها آيات في مواضيع أخرى.
فبفصاحة وبلباقة وضح أمير المؤمنين (ع) جميع ما أشكل على الشاك حتى وصل هذه الآيات فقال:
Halaman 20