اقرأ
أول ما نزل به الوحي بالقرآن الكريم على نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام؟ ماذا تكون الدلالة في تلك الأسبقية، إذا لم تكن حثا على أن يكون «العلم» هو الركيزة الصلبة التي تقام عليها أركان الإسلام؟ فإذا كان سؤالنا الذي بدأنا به هو: ما الذي حدث للعالم الإسلامي، حتى بلغ من الضعف ما بلغ؟ وجدنا أول كلمة في الإجابة الصحيحة، كلمة «العلم»، فمع العلم تدور القوة وجودا وعدما، ولربما كان ذلك العلم - لو ترك غير ملجم - سبيلا يؤدي بالإنسانية إلى الدمار، ولكن قوته الذاتية كفيلة للإنسان بالسمو إلى التقدم، إذا هو ألجم العلم - في التطبيق - بالقيم الضابطة، والتي مصدرها الأول هو الدين بمعناه العام أولا، وبمعناه الإسلامي بصفة خاصة.
إن أداة الإدراك في مجال العلوم، إيجادا وتطبيقا - هي «العقل» بأجهزته القادرة على التحليل وعلى الاستدلال، وهذا «العقل» إنما هو بطبيعته يهدي ويهتدي في آن واحد، فهو يهدي إلى النتائج الصحيحة التي تستدل من الشواهد والمقدمات - ثم هو يعود فيهتدي في جانب التطبيق على عالم الأشياء، ومن الخير للإنسان أن يدور بعقله هذه الدورة كاملة؛ لأنه إذا وقف عند «المقدمات» و«الشواهد» في صيغها اللفظية، دون أن ينتقل منها إلى عمليات التحليل والاستدلال والتطبيق، وجد نفسه «حافظا» لنصوص، مع عجزه عن نقل تلك النصوص نفسها إلى دنيا العمل، وتلك هي حالنا - بصفة عامة - فترانا وقد أحاط علماؤنا بأصول ديننا «حفظا» وشرحا لذلك المحفوظ، تركوا العملية «العلمية» لسواهم، ثم ترتبت على تلك العملية العلمية حضارة، فلم نجد بدا من أن نقف من ذلك كله موقف المتسول، وكان في وسعنا أن نقلب الوضع، لو أننا أدركنا إدراكا واضحا، أن واجب المسلم هو أن يستمد من روح إسلامه قدرة على المشاركة الإيجابية في الكشوف العلمية، ثم في تحويل تلك الكشوف العلمية إلى شتى ضروب النشاط البشري في حياة الإنسان العملية.
والعلاقة وثيقة العرى، بين «علمية» الإنسان في موقفه من عالمه الذي يعيش فيه، وبين نصيب ذلك الإنسان من «الحرية»، فالخلط شائع فينا بين معنى «التحرر» من القيود على اختلاف أنواعها، وبين معنى «الحرية» التي لا تكون شيئا إذا هي لم تكن قدرة الإنسان الحر على أن يملك زمام الموقف الذي يجد نفسه فيه، على أن امتلاك الإنسان لزمام الأمر حيال أي موقف من مواقف الحياة، إنما يتفاوت قوة وضعفا بمقدار ما لدى ذلك الإنسان من «علم» بدقائق الموقف المذكور؛ حتى يستطيع التصرف فيه وهو على هدى، ومن هنا وجدنا شعوبا كثيرة فيما يسمونه بالعالم الثالث، قد «تحررت» من قيود مستعمريها، لكنها مع ذلك بقيت مفقودة «الحرية »؛ لأنها معتمدة في معظم شئون حياتها على أولئك المستعمرين السابقين أنفسهم، سواء أكان ذلك في نتائج العلوم التي تدرس في المعاهد والجامعات، أم كان أجهزة ومصنوعات، مما ينتج عند أصحاب تلك «العلوم».
لقد أوهمنا أنفسنا وهما «عجيبا»، قيد خطواتنا على طريق التقدم، وهو أننا توهمنا أن ثمة تناقضا بين أن يكون الإنسان مسلما بعقيدته الدينية، وأن يكون في الوقت نفسه ساعيا إلى ما يسعى إليه أهل الغرب، من إيجاد لعلم جديد، ثم إقامة حضارة جديدة على أساس ذلك العلم الجديد، وقد كاد الأمر يكون كذلك، لو أن إسلامنا لم يجعل «العلم» وتطبيقه ركنا أساسيا في بنائه، وإني لأتصور أن الأمة الإسلامية، لو كانت اليوم على مثل قوتها الأولى، لكانت هي التي ملكت زمام عصرنا هذا بكل ما فيه من علوم، ومن «تقنيات»، فالذي انتهى بنا إلى موقف المتسول المحروم في دنيا العلم والصناعات، ليس هو إسلامنا، بل هو أننا قد أخطأنا منزلة العلم بأسرار الكون، والانتفاع بذلك العلم في الحياة العملية، أقول إننا قد أخطأنا منزلة ذلك كله في العقيدة الإسلامية، تلك المنزلة التي من أجل رفعتها، كانت
اقرأ
أول ما نزل به القرآن الكريم.
تلك - إذن - هي النبرة التي يسمعها قارئ القسم الأول من هذا الكتاب، حتى إذا ما انتقل إلى القسم الثاني، سمع تنويعا آخر من النبرة نفسها، فالمحور واحد، والهدف واحد، والخط الفكري واحد، إلا أن مقالات القسم الثاني تتلمس مواضع القوة في حياتنا الفكرية كما هي واقعة الآن، لولا أنها مواضع تحتاج إلى تقوية وتنمية.
فنحن بغير شك نحس في بواطن نفوسنا، شعورا قويا باستمرارية الحياة بين ماضينا وحاضرنا، أو على الأقل نحس بوجوب مثل هذه الاستمرارية، ففي «يموت الإنسان ليحيا» عرض لما يؤيد ويؤكد ذلك المنحى، على ألا يتم هذا بأن نحيي الماضي كما كان حرفا بحرف وموقفا بموقف، على حساب المعاصرين، فهؤلاء المعاصرون لا بد لهم أن يبرروا وجودهم التاريخي بإثبات شخصياتهم وما يميزها، بحيث يكونون مع أسلافهم كقصيدتين من الشعر في ديوان شاعر واحد، وإنه لخطأ خطير أن نستمع إلى دعاة العودة إلى الماضي، عودة تنسخ وجودنا الحاضر، إذ إن ذلك يجعلنا كالقنافذ التي تتكور على نفسها في انتظار ما يأتيها من عوامل خارجية تؤثر فيها، وهي في حالة من السلبية التي لا حول لها ولا إرادة، في حين أن إيجابية الإرادة لها في العقيدة الإسلامية أولوية منطقية، حتى على الحياة العقلية نفسها؛ لأن لحظة «الإيمان» إنما هي لحظة تندرج أساسا تحت الحياة الإرادية للشخص الذي آمن، ثم تأتي الحياة العقلية بعد ذلك، لتصب تحليلاتها واستدلالاتها على ذلك الذي آمن به المؤمن، ولك أن تنظر في تعاقب المراحل الفكرية عند أسلافنا الأولين، فبينما القرن الهجري الأول لم يكد يشهد شيئا إلا دخولا في دين الله، ثم جهادا في سبيل ذلك الدين (ولنلحظ هنا أن دفعة الإيمان وعملية الجهاد كلتيهما تقعان في مجال الحياة الإرادية)، ثم بدأت حياة عقلية من القرن الهجري الثاني وما بعده، لتنصرف بجهدها إلى دراسات علمية تنفع المؤمن في فهمه للكتاب الكريم حق الفهم، كعلوم اللغة، والفقه، وعلم الكلام، وعلى هذا الأساس نقول إننا لو صغنا الوقفة الإسلامية في صيغة ديكارتية، قلنا: أنا أريد - إذن - أنا إنسان.
وبين مقالات هذا القسم الثاني، مقالتان توضحان من حياة الفلاح المصري على براءته وبساطته، ومن حياة الشجرة التي في فطرة بذرتها تعرف كيف تنمو وتزدهر؛ لنبين بهما أن أولوية الإرادة في حياة الإنسان، إنما هي أمر تحتمه طبيعة الحياة نفسها، فحينما قويت الإرادة في شعب، أو في فرد من أفراده، كان الأرجح له أن يوفق إلى تحقيق أهدافه، وذلك كما قال أبو القاسم الشابي في قصيدة مشهورة من شعره:
Halaman tidak diketahui