اختلفت خبرتي بالآخرين بين مرحلة شبابي، ومرحلة ما بعد ذلك، رأيت في المرحلة الأولى ما كان في ظني صفاء ونقاء برغم ما يجيء ويذهب من قطع السحاب، ووجدت فيما بعد ذلك رجحانا للغدر والوقيعة، ولأنني نشأت على طبع يجبن دون المصارعة والقتال، ويسبق إليه تصديق الآخرين، قبل تكذيبهم، كنت الفريسة في حلبة التعامل مع أولئك الآخرين تسع مرات من كل عشرة لقاءات توهمت فيها صداقة في صدقها وإخلاصها، وكثيرا ما أقدم العزاء لنفسي، بأن أذكرها بموقف للراهب الفيلسوف «توما الأكويني» - وكان أعظم من شهدته أوروبا من فلاسفة في عصورها الوسطى - فقد كان سريع التصديق لما يقوله الآخرون إذ كان يغلب عليه الظن ... بخيرية الإنسان وطيبة عنصره، فحدث يوما أن ضحكت عليه جماعة من زملائه الرهبان، وكانوا قد عرفوا فيه تلك البساطة البريئة، فصاحوا به قائلين: أسرع يا توما لترى تلك الأبقار الطائرة بأجنحة في جو السماء، فأسرع توما إلى حيث وقف زملاؤه عند النافذة، ونظر إلى السماء، فقهقه الزملاء سخرية بسذاجته، وهنا نظر إليهم توما في هدوء ثم قال: علام الضحك؟ فلأن أصدق بأن أبقارا تطير، أهون على نفسي من أن أرى رهبانا يكذبون!
ذلك هو الإنسان الذي خلقه الله ذا نفس ينفتح أمامها طريق الفجور كما ينفتح طريق التقوى، ولها أن تختار، وعليها تقع التبعة فيما اختارت، وإذا استثنيت جان جاك روسو، الذي كتب ليقول إن الإنسان إذا نشأ على فطرة الطبيعة، جاء ذا نفس طيبة بخيرها خيرا لا تمازجه شرور، وإنما الحضارة هي التي أفسدت عليه طبيعته، فكان من خبثه وشره، ما كان، أقول: إنك إذا استثنيت روسو، وجدت الأعلام فيمن تناولوا طبيعة الإنسان بالتحليل، قبل أن يخرج من حياة الغابة، ليدخل في حضارة تتلوها حضارات، وجدت هؤلاء الأعلام يجمعون على أن الفرد من الناس، كل فرد، هو عدو للآخرين عداوة إذا هو أخفاها في تعامله مع هؤلاء الآخرين، فإنما يخفيها حتى يحين له الحين، فينقض على فريسته، وأحسب أن أوضح وأعمق من نقرأ لهم في بيان الطبع الإنساني على حقيقته العارية، هو توماس هوبز في كتابه «التنين الجبار».
ولا علينا من ذلك كله - صدق أو كذب، اقتصد في القول أو أسرف - فالذي همني عندما بدأت هذا الحديث، هو خاطر خطر لي في صورة سؤال، عندما أخذت ذاكرتي - كعادتها - تلف أمامي مواقف حياتي خلال مراحلها، فكان ما عرضته علي هذه المرة، تلك المقارنة بين خبرتي مع أصدقاء الشباب، وخبرتي مع أصدقاء ما بعد ذلك، وهنا خطر لي الخاطر في صورة سؤال يسأل: أهو اختلاف بين المرحلتين في حياتك أنت، أم هو يا ترى اختلاف بين مرحلتين في حياة الشعب كله؟ فبينما كانت ضوابط التعاون في المرحلة السابقة راجحة في ميزان التعامل، انحلت هذه الضوابط في مرحلته الراهنة، فانطلق مع الطائر جناح الفجور وانخفض جناح التقوى، وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد للظاهرة من تعليل؛ لأنه تناقض يلفت النظر بين أن تشتد الدعوة الدينية كما لم تشتد في أي يوم شهدته، فيما مضى، وبين أن يعنف الصراع بين أفراد الشعب، كما لم يعنف في أي وقت مما وقع لي في خبرتي، وربما كان الأمر في هذا قد اتسع حتى شمل العالم كله، ونحن جزء منه، لا فرق بين شعب وشعب، ولا بين دين ودين، فالمسلم يقاتل المسلم حتى الموت، والمسيحي يقاتل المسيحي حتى الفناء.
إنه لمن أغرب النقائض في عصرنا، أن تبلغ الدعوة إلى التآخي بين الشعوب وبين الأفراد ما لم تبلغه خلال التاريخ الماضي كله، وأن تهبط علاقات الإخاء بين الشعوب وبين الأفراد إلى حضيض لم تهبط إلى مثله خلال التاريخ الماضي كله أيضا، فنحن في عصر تعاقدت الأمم فيه على أن تلتقي في جمعية متحدة، وأحسب أن لقاءات تلك الجمعية منذ نشأت في أول لقاء لها سنة 1946 - بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية في صيف 1945، أقول إني أحسب أن لقاءاتها منذ ذلك الحين، ومؤتمراتها، ولجانها ومطبوعاتها ومحاضرها لا تستطيع حصرها إلا الأجهزة الإلكترونية الحاسبة، ومع ذلك تشعبت الأمم أكثر جدا مما اتحدت، فقد انقسم الشعب على نفسه شرائح، تريد كل شريحة منه أن تستقل أمة وحدها، مهما صغر حجمها وقل عدد سكانها، ثم تنافر الأفراد حتى في الشريحة الواحدة من الشعب الواحد، حتى لكان كل فرد بات يتمنى لنفسه أن يكون دولة وحده وانسدت في حياة الناس قاطبة طرق التفاهم، فالمتكلم لا يكلم سامعا، وإذا أنصت له السامع جعل يفكر في دخيلة نفسه وهو يسمع، كيف يرفض وينقض هذا الذي يسمعه قبل أن يسمعه! ولا عجب - إذن - أن ينشأ في عصرنا ويشيع ما أسموه بالأدب اللامعقول، أو أدب العبث، الذي جاء هو - وكثير غيره من الفنون - انعكاسا لعدم التفاهم السائد في عالم اليوم، وفي الأدب العربي المعاصر مشاركة في تلك الموجة شارك بها توفيق الحكيم بمسرحيته «يا طالع الشجرة».
لقد أصابنا نحن من تلك الحمى المجنونة شرر وشر، فتعثر التفاهم وتعسر وتعذر؛ لأن مصالح الأفراد والجماعات تباعدت وتنافرت، ويكتب الكاتبون ويذيع المذيعون، ويعظ الواعظون، ويعلم المعلمون، فلا تتحرك في الأبدان شعرة لأنه إذا تعددت أهداف المواطنين بحيث لا تلتقي، فإنها لا تتحد وتلتقي بكلمات تكتب وتقال، ولكنها تتحد وتلتقي في اقتلاع الجذور التي أنبتت فروع الخلاف، افتح عينيك جيدا ترى في تعالي بعضنا على بعض عجبا، إننا نتصارع على درجات السلم، نتدافع ونتدافع بالأذرع والأرجل، فيصعد منا من هو أقوى وأمهر ، ويسقط منا من هو أضعف بنية، وأضيق حيلة، ولا علاقة قط في ذلك الصعود والهبوط بالمواهب والقدرات، ولكن ماذا تصنع القدرات والمواهب أمام قوة السلطان في أيدي الصاعدين؟ فإذا ما استقر الصاعد والهابط كل على أرضه، رأيت لعبة غريبة يلعبونها في صمت: فالهابط يحاول أن يكتسب شيئا من رائحة النجاح، فيتقرب من الصاعد، والصاعد بدوره يبعده، بالسياسة والكياسة، آنا، وبالمصارحة القاسية الجارحة آنا آخر، حتى لا يقترب منه فيظن الناس أنهما تقاربا مكانا فتقاربا مقاما، الحق أني لم أشهد في أي بلد آخر من الدنيا التي خبرتها، من ينافسنا في لعبة المسافات، وكان من أشد ما رأيته إثارة لدهشتي، أن رأيت ذات يوم في بلد ما وزيرا وساعيا يقفان في طابور واحد، وفي المكان الذي يعملان فيه، وقفا انتظارا لدورهما ساعة الشاي بعد الظهر، وكان الساعي أسبق من الوزير في صف الانتظار، فلا تململ الوزير من موقعه، ولا عرض الساعي أن يترك موقعه، وأذكر أني بنيت على تلك الواقعة مقالة صورتها في صورة أدبية، وقلت عندئذ - وكان ذلك في أواسط الأربعينات - إن مأساتنا الحقيقية فيما يتصل بمعاني الديمقراطية والمساواة ليست في أن الوزير يتعالى على الساعي ومن إليه من جمهور الناس، بقدر ما هي في القلق الذي يصيب الساعي ومن إليه إذا رأى نفسه وقد وضعته المصادفات في مواقف المساواة مع الوزير.
ومرت بعد تلك الواقعة أربعون عاما، وتغيرت مواقع الأفراد، وارتفع من ارتفع وانخفض من انخفض، لكننا مع ذلك احتفظنا بالطابع القومي في لعبة المسافات، ثم أضافت إليها في هذه المرحلة الزمنية التي اضطربت لها الأوضاع في سائر أنحاء العالم - ونحن جزء منه - أن صار أفراد الشعب الواحد وكأن كل فرد منهم قد انفرد وحده في برج مغلق، لا شأن له بسواه، وإن صورة برجية كهذه كان قد تصورها «ليبنتز» (القرن 17) وهو يتصور حقيقة الإنسان، أو على الأصح، وهو يتصور طبيعة الكائنات الحية جميعا، إذ تصور أن كل كائن حي إنما هو في حقيقته كيان منطو على نفسه، ومستقل عمن سواه وعما سواه، فهو يشبه أن يكون في برج مسدود ليس فيه نافذة تنفتح على أي شيء مما حوله، وسيرة حياته تتم بأن ينبسط ما هو منطو في البذرة التي أنشأته، ويظل ذلك المنطوي من حقيقته ينبسط شيئا فشيئا حتى يتم سيرة حياته، ثم يذبل ويموت، فكأن الكائن الحي يعيش وحده في هذه الدنيا، وليس له إلا ما هو مضمر في بذرته، فهو في ذلك أشبه بشريط سجلت عليه قصة، أو مسرحية، وأخذ الشريط يبسط من نفسه ما انطوى، جزءا جزءا، فإذا ما بلغ نهايته، انتهت مع نهايته القصة أو المسرحية المسجلة عليه.
لكن هذا التصوير الذي قدمه «ليبنتز» لطبيعة الكائنات الحية، بما في ذلك أفراد الإنسان، يختلف اختلافا بعيدا عن أبراج اليوم التي يسكنها الأفراد لينعزل كل منهم في برجه عن الآخرين، وموضع الاختلاف بين الحالتين هو أن ليبنتز أكمل صورته بأن أضاف إليها أن رعاية الله وعنايته، أرادت للأفراد أن تتناسق الحياة بينهم، برغم انفراد كل فرد عن بقية الأفراد، فيتحقق بذلك اتحاد خطوات السير، وكأنهم يتجاوبون بعضهم مع بعض عن وعي منهم وإرادة، ثم أخذ ليبنتز يسوق تشبيهات جميلة يبين بها ما يعنيه، فقال في تشبيه منها، إن الأمر في حياة الأفراد وتناسقها برغم انعزالهم، كل في برجه المغلق، يشبه فرقة موسيقية لكل فرد منها آلته الموسيقية الخاصة، وقد وضع كل منهم في غرفة وحده، ثم ضبط لهم التوقيت، فبدءوا العزف، كل على آلته الخاصة، فنشأ عن مجموعهم سيمفونية موحدة، دون أن يكون أي مهم على علم إلا بالدور الذي أداه والرابطة التي ضمنت هذا التناسق بينهم، هي اشتراكهم في مدونة «نوتة» موسيقية واحدة، وتلك المدونة المشتركة هي التي تقابل عناية الله ورعايته.
وأما الأبراج البشرية التي تتحرك على مسرح حياتنا اليوم، والتي انعزل في كل برج منها فرد عن بقية مواطنيه، ليطلق لنفسه العنان فيما يفعله وما لا يفعله، بلا رقيب عليه ولا حسيب، فهي أبراج لا تعزف على مدونة موسيقية واحدة، ولا عليها أن يصدر عنها خليط صوتي نشاز.
وتشبيه جميل آخر ساقه ليبنتز لتوضيح رؤيته لحقيقة الإنسان، كيف كانت لكل فرد من الناس فرديته الكاملة؟ وكأنه يقيم في برج مغلق لا نافذة في جدرانه تنفذ إلى العالم الخارجي من حوله، ومع ذلك فهنالك تناسق كامل بين مجموعة الأفراد، وهي مشكلة يستند في حلها إلى تناسق منذ الأزل، دبرته عناية الله ورعايته، وذلك يشبه ألوف الألوف من «الساعات» الدالة على الزمن، يحملها أفراد الناس، وكل ساعة منها مستقلة وحدها عن سائر آلات الزمن، فكيف أمكن لهذه الآلات المتفرقة المتباعدة أن تتفق كلها على قياس الزمن على صورة واحدة؟ الجواب هو أنها استطاعت ذلك؛ لأن صانع الساعات صنعها على تكوين إرادة لها، في تروسها وسائر أجهزتها بحيث تتحرك كلها في موازاة لا خلل فيها، وهكذا أيضا تكون رعاية الله وعنايته لأفراد الناس.
وقياسا على هذا التشبيه، أقول: إنه إذا كان المثل الأعلى في حياة المجتمع الإنساني وأعضائه، هو أن يكون للفرد حريته الكاملة في تطوير حياته بما يتفق مع استعداداته الطبيعية، شريطة أن يجيء نموه متناغما مع سائر الأعضاء ونموهم، إذن فالظاهر في مجتمعنا اليوم، أن الأفراد قد حملوا ساعات مختلفة في سرعاتها وفي اتجاهات سيرها، فبعض الأفراد قد حملوا ساعات تشير إلى الزمن بما يسمونه التوقيت العربي، وبعضهم يحملها أفرنجية التوقيت، وبعض ثالث جعلوا ساعاتهم على توقيت صيفي، وبعض رابع اختاروا التوقيت الشتوي، وهكذا، فإذا سألت جمعا منهم: كم الساعة الآن؟ جاءتك إجابات تتراوح بين الواحدة والثانية عشرة، وهكذا انسلخ كل فرد منا ليعيش في سبيله، سائرا به نحو هدفه، وليس السبيل متفقا عليه مع سواه، ولا الهدف نفسه هو ما يستهدفه سائر أفراد المجتمع.
Halaman tidak diketahui