وحديثي الآن، إنما هو عن الخوف الذي أراه قد ملأ صدورنا، فسدت أمامنا أبواب الفكر الحر والنشاط المغامر الجريء، ولست أقصر قولي على الخوف في حياتنا السياسية، بمعنى ألا يكون بين الحكومة والشعب إلا تلك العلاقة التي أشار إليها سعد زغلول في زمانه، ووصفها بأنه نظرة الطير للصائد، لا نظرة الجند للقائد، لا، بل إني في حديثي عن الخوف أنظر نظرة أشمل، ومن العجب أنها هي النظرة التي لا تزال ترى الصدق في عبارة سعد زغلول، مع جعل العلاقة التي تكون موضع الحديث، علاقة الرأي العام عندنا اليوم مع أفراد الشعب، فقد عبئ هذا الرأي العام تعبئة مالت به إلى نوع غريب من الخوف، وأعني الخوف من كل فكرة تثار، ويكون من شأنها أن تجيء مخالفة في كثير أو في قليل للمادة التي عبئ بها حتى انسدت بها أوعيته الدموية جميعا، موضع العجب هنا هو أن الخائف قد بلغ به الخوف حدا جعل منه طاغية على من يجرؤ على فتح باب أو نافذ في جدران البرج الأصم الذي بناه بيديه ليضع نفسه فيه ...
وانتهى الأمر بالرأي العام عندنا اليوم إلى سطحية ساذجة، ومعذرة إذا قلت إنه قل أن يكون لها نظير حتى في مجموعة العالم الثالث، الذي كنا نستكبر في أول الأمر أن تكون مصر جزءا منه، من الناحية الحضارية والثقافية، وقد سرنا في هذا التدهور على خطوتين: كانت أولاهما أن نفخنا في أبواق الفزع من شيء أسموه بالغزو الثقافي، ثم لم يريدوا أن يفهموه بما كان يجب أن يفهم به، فإذا قصد بمقاومة الغزو الثقافي أن نحصن أنفسنا ضد العوامل التي تمحو هويتنا الذاتية، فأين هو الفرد الواحد الذي لا يوافق على مقاومة الغزو الثقافي مأخوذا بهذا المعنى؟ أما أن تتسع الدائرة ليصبح المعنى شاملا لتيارات الفكر والفن والأدب ونظم التعليم ونظم السياسة، ونظم التجارة ... إلخ ... إلخ، فذلك هو الانتحار الحضاري بعينه، وسره هو «الخوف»، وسر الخوف فينا هو ما قد أصابنا من هزيمة وضعف وخيبة رجاء، وقد أضيف أنه لا بد أن يكون بيننا صاحب مصلحة في إثارة ذلك الخوف في نفوسنا، كأن تكون قوته وارتفاع قدره وكثرة ماله مستمدة من أن تدوم فينا حالة الفزع من الهواء والنور.
وأروي للقارئ هذا النبأ، لنرى معا ماذا ينطوي عليه من مغزى، وهو أنني بينما كنت في رحلتي العلاجية إلى إنجلترا في صيف عام 1984، تصادف أن جاء عيد الأضحى أثناء إقامتي، وفي ليلة الوقفة، سمعت حديثين في الإذاعة البريطانية، كما شهدت في التليفزيون برنامجا، بمناسبة وقفة عرفات ... أما الحديثان المذاعان بالراديو، فكان أحدهما لرجل من كبار رجال الدين في تلك البلاد، وأما الحديث الثاني، فكان لباكستاني مسلم، وكان المتحدث في البرنامج التليفزيوني مصريا، ماذا قال رجل الدين البريطاني؟ أخذ يشرح كيف أن اليهودية والمسيحية والإسلام ديانات ثلاث، تنتمي كلها إلى سيدنا إبراهيم - عليه السلام - مما لا بد أن يعني أخوة أصيلة بين أتباع الديانات الثلاث جميعا، وأما الباكستاني المسلم فقد أدار حديثه حول المشكلة التي أصبحت تستدعي النظر عند المسلمين، وهي تزايد أعداد الحجاج تزايدا بلغ بهم الملايين، وهو في تزايد مستمر، ما دام سكان العام يتزايدون، ومنهم بالطبع جماعة المسلمين، فماذا يكون الحل عندما يصبح مستحيلا على عدة ملايين أن تجتمع كلها في وقت واحد وفي مكان واحد محدود المساحة؟! إن المملكة السعودية تبذل كل مستطاع في إيجاد الوسائل، بما تقيمه من الكباري العلوية ونحو ذلك، لكنها وسائل مهما بلغ المبذول فيها من جهد، فمصيرها أن تضيق بالحجاج ذات عام لا نراه بعيدا، وكانت تلك المشكلة هي التي طرحها المتحدث الباكستاني، وجاء دور المواطن المصري، يتحدث على شاشة التليفزيون، فركز حديثه على ما رآه من نعمة الإسلام على المسلمين، فما الذي أورده من جوانب تلك النعمة؟ ... كان أهم ما قال في ذلك أنه لولا الإسلام علينا لما اهتممنا بغسل أقدامنا في الوضوء، ولا تنبهنا إلى ضرورة الاستحمام، فالإسلام علم المسلمين النظافة، كما حث الغني على أن يتصدق للفقير ... وسار المتحدث في هذا الخط من الكلام، ولنلحظ هنا في انتباه أن المتحدث يتحدث إلى قوم يأخذون النظافة مأخذ التسليم، وينظرون إلى تأمين العيش للفقراء بنظم شاملة من التأمينات الاجتماعية، فهل أفادهم ذلك المتحدث عن الإسلام بما كان ينبغي له أن يفعل؟! فلولا أنه معبأ بما انتهى به إلى درجة مخيفة من السطحية الساذجة، لقدم الإسلام عن طريق القصيدة في لبها وأساسها، فشرح لهم «التوحيد» الإسلامي ما معناه وما مداه في توجيه النظرة الإنسانية نحو الأكمل، وفي تشكيل السلوك نحو الأقوم ... لكنه لم يفعل شيئا من ذلك كما رأيت، وأكاد أوقن أنه لو حدث مثل هذا الحديث فيما قبل هذه المرحلة التي نجتازها، ثم اختير من رجالنا العلماء من يتحدث في مثل تلك الظروف، لعرف كيف يكون الحديث عن الإسلام، لكنها سطحية علم، وسذاجة رؤية، وبراءة كبراءة الأطفال، هي التي تسودنا اليوم، وكان مبعث سيادتها أن دبت فينا روح الهزيمة، والخوف، وتسلم القيادة الفكرية في معظم حياتنا، من رأى أن النجاة إنما تتحقق لنا بأن نلف أنفسنا في غطاء جلودنا، فلا تفتح منا عين لترى، ولا تصغي أذن لتسمع ...
وكيف نبدأ العودة إلى مصادر النور؟ الخطوة الأولى هي أن نفتح الأعين لترى، وأن نصغي بالآذان لتسمع، وماذا نرى ونسمع؟ إن ذلك يتم من ناحيتين في آن واحد: الناحية الأولى أن نزيل الغشاوة عن عقولنا لندرك مواضع القصور في حياتنا الفكرية، وعندئذ نرى أننا قد جمدنا إلى حد لن نغفره لأنفسنا عندما نفيق، تصوروا يا سادة أنني كتبت يوما لأندد بكتاب أخرجته مطبعة مصرية، يقيم فيه صاحبه البراهين على بطلان القول بكروية الأرض، زاعما أنه باطل مقصود من جانب المستعمرين! فتصلني رسالة بعد ذلك المقال، أشكر صاحبها على أدبه في اختيار لفظه، لكنه يناشدني أن أتقي الله في الدفاع عن هذا الباطل! ... وبعد الناحية السلبية التي قلت إننا نبدأ بها فنفحص مواضع النقص الخطير في حياتنا الفكرية، تأتي ناحية إيجابية نكفل بها حرية الفكر وحرية التعبير، لكل فرد من أفراد الشعب لم يثبت أنه مصاب بمرض في عقله، وأود لفت الانتباه في هذه المناسبة إلى أننا لكثرة انشغالنا بالمسائل السياسية، أصبحت المطالبة بحرية التفكير وحرية التعبير، تعني أول ما تعنيه عند الناس، أن تكون تلك الحرية في مجال الفكر السياسي، ومع إدراكي - بالطبع - لأهمية تلك الحرية في مجال السياسة، إلا أن اهتمامي الأقوى متجه نحو مجال أسبق وأشمل وأخطر من ذلك، وأعني حياتنا الفكرية حين تجعل مدارها وجهة نظرنا إلى العالم الذي نعيش فيه، فنحن في هذا العالم، بعد أن كنا نطمع في خطوة نخطوها إلى الأمام، أصبحنا ندعو إلى خطوة نخطوها إلى الوراء، وبينما نعطي حرية القول لأصحاب هذه الدعوة، نخاف إذا أخذ هذا الحق نفسه دعاة يدعون إلى السير نحو الأمام، ومع دعاة الرجوع رأي عام معبأ، بات كفيلا وحده أن يكتم أنفاس المخالفين.
وإلى صاحب الرسالة التي جاءتني من شاب يسأل كيف يكون السبيل ... أقول: إنني حين هممت بكتابة هذه السطور، كانت السماء قد اكفهرت وثارت ثورتها بالبرق والرعد والمطر، واستجابت لها نفسي بشيء من اليأس، وها هي ذي السماء قد صفت وتقشع سحابها، عندما فرغت من الكتابة، فاستجبت لها بنفسي امتلأت بالأمل والرجاء ...
أهو شرك من نوع جديد؟!
«أشهد أن لا إله إلا الله» شهادة هي أول كلمة في إسلام المسلم، يقول «أشهد» لتدل صيغة الفعل على أنه لمتكلم فرد مفرد فريد مسئول عما يقول: إنه لا يقول «نشهد» لينضم بشخصه إلى غيره من أبناء أسرته أو أمته؛ لأنها شهادة يحملها مفردا، حتى ولو لم يكن معه إنسان آخر من أهل الأرض جميعا، كلمة «أشهد» دالة وحدها، منذ أول حرف من حروفها - حرف «الألف» - على أن الإيمان بالدين من شأن كل مؤمن على حدة، يدفعه إليه ضميره، وحتى حين يفرض عليه دينه بعد ذلك أن يجتمع مع شركائه في الدين، أن يجتمع معهم في جهاد، أو في صلاة، أو في حج، فذلك إنما يجيء بعد أن قال - أصالة عن نفسه، لا ينوب عنه أحد ولا ينوب هو عن أحد - «أشهد» بصيغة المتكلم المفرد، والصيغة تبقى هي هي، إذا كان ذلك المتكلم المفرد رجلا أو امرأة، حاكما أو محكوما، غنيا أو فقيرا، حرا أو مقيدا، فانظر إلى حرف «الألف» الذي هو أول حرف في أول كلمة، أول جملة يدخل بها المسلم في دينه، دين الإسلام، انظر إلى هذا الحرف الواحد، كم يتضمن من مواثيق تضمن للإنسان فرديته، ومسئوليته، إلا أنه أسلم، وليكن بعد ذلك ذا مال أو ذا متربة، صاحب سلطان أو مجردا من كل سلطان.
وبماذا يشهد الشاهد في شهادته أن لا إله إلا الله؟ إنه يقرر شيئين في وقت واحد، أحدهما بالسلب، وثانيهما بالإيجاب، وهو يبدأ بقراره السالب أولا، إذ هو يبدأ بأن يمحو الباطل، ثم يعقب على هذا بأن يثبت الحق، فهو ينكر وجود آلهة أخرى، لينتقل بعد هذا الإنكار إلى إثبات وجود «الله »، لا إله - إلا - الله، وليس هذا التعاقب بين سلب الباطل قبل إثبات الحق، أمرا جاء في الشهادة مصادفة، أو عن غير قصد، بل إنه هو نفسه التعاقب الذي يحتمه منطق العقل في كل منهج للتفكير السليم، بل إنه تعاقب نلحظه في حياة الناس العملية إذا ما توافرت لهم أركان الفطرة السليمة، فتراهم يزيحون الأنقاض قبل أن يقيموا البناء الجديد، وينظفون البيت قبل تأثيثه بفرش نظيف، وأما في منهج التفكير العلمي، فهذا التعاقب بين إزالة الأخطاء القائمة قبل عرض الفكرة الجديدة، أمره معروف للباحثين، فتراهم يبدءون باستعراض ما قد قيل فيما سبق عن الموضوع المطروح للبحث، ليرد الباحث تلك الآراء السابقة، رأيا بعد رأي، مقيما رده على بيان مواضع بطلانها، حتى إذا ما خلت له الأرض، أقام هو فكرته مقرونة بأدلة صدقها، وعلى هذا التعاقب نفسه جاءت شهادة الشاهد بأن لا آلهة لها وجود إلا «الله».
كانت الآلهة الباطلة التي جاءت بشهادة المسلم لتنفي عنها الوجود، أول ما جاء الإسلام، أصناما لها أسماء، فهذا الصنم هو «اللات» وذلك هو «العزى»، وهكذا دار بنا الزمان قرونا تتلوها قرون، حتى بعد العهد بتلك «الآلهة» بعدا أصبح مستحيلا معه أن يرتد عابد عن عقيدته، ليعبد «اللات» أو ليعبد «العزى»، لكن ذلك الزمان نفسه الذي دار بقرونه ما دار، إنما هو كالوحش الكاسر، يتربص بفرائسه أن يدب في أنفسهم دبيب الضعف فيفتك بهم فتكا لا رحمة فيه، فلئن استحال على الناس، حتى وهم في حالة الضعف، أن يرتدوا إلى عبادة اللات والعزى، فضعف نفوسهم - إذا ضعفت - كفيل أن يوسوس لهم في صدورهم بما يحملهم على خلق أرباب أخرى من دون الله، ولتلك الأرباب عندهم أسماء، ولن أذكر هنا شيئا عن رب عندهم اسمه «الذهب» ولا عن رب اسمه «السلطان» أو رب اسمه «الشهوة»، فتلك وغيرها صنوف من الآلهة عرفها الناس منذ أقدم قديم في تاريخهم، وجاءت الأديان، وجاء المصلحون، ليوقظوهم من تلك الغفلة، لكنها غفلة إذا استحكمت في الغافي، فهيهات له أن يفيق ، وإنه لفي مستطاع الإنسان، إذا كان قوي الروح، مؤمنا بالله الواحد، واثقا في نفسه، عاقلا، حرا، مسئولا أمام ضميره وأمام الله الذي هو مؤمن به، أقول: إنه لفي مستطاع الإنسان أن ينزع عن تلك الآلهة الزائفة شوكتها، بحيث لا يكون لها هي القوة في أن تملك عليه زمامه وتتحكم فيه، بل يبقيها أدوات في يديه، يوجهها كما يشاء لها هو، لا كما تشاء هي له، وعندئذ لا يعاب فيه ذهب، أو سلطان، أو رغبة؛ لأنها لم تعد الأرباب التي كانت يوم أن ذل لأحكامها وخشع.
لا، لن أذكر هنا شيئا عن تلك الآلهة الزائفة، لأن أمرها في حياة الإنسان الضعيف معروف، لكنني سأذكر إلها جديدا ظهر حديثا في حياة الناس، وهو - بدوره - ذو وجهين، فهو بوجه منهما لا عيب فيه، بل إنه ضرورة مطلوبة، وذلك إذا نزعت عنه شوكة التأله، ولكنه بوجهه الآخر، الذي يتسلح فيه بتلك الشوكة الرهيبة، ينقلب إلى طاغية يسحق فردية الأفراد سحقا، ليحيلهم إلى أشباح من ظلال، وأعني بذلك الإله الزائف الجديد، شيئا اسمه «الرأي العام»، ولهذا الرأي العام نحني رءوسنا طاعة وإجلالا، على شرط واحد، وهو ألا يكون في معنى من معانيه، حرمانا لأي فرد أراد أن يختلف بفكره المستقل، عما أعلنه الرأي العام، حتى ولو جاء ذلك الإعلان نتيجة سليمة لاستفتاء صحيح ومشروع؛ لأن ذلك الفرد - إذا كان مسلما - كان قد التزم حين شهد، بوصفه فردا مفردا فريدا، أن لا إله إلا الله ...
Halaman tidak diketahui