وأذكر أني في ساعة من ساعات الفراغ، أخذت ألهو في هذين الموقفين من الحياة ، فأيهما يا ترى أقرب إلى الصواب؟ وهما موقفان كثيرا جدا ما نراهما يقسمان الناس صنفين: صنفا يتروى قبل التنفيذ، وصنفا آخر لا تكاد فكرة تطوف بخاطره حتى يسرع إلى تنفيذها، والأغلب أن يكون الصنف الأول ممن أنضجته خبرة السنين، وعرف أن الرأي المعين في الموقف المعين، كثيرا جدا ما تقابله وجهات نظر أخرى تستحق الالتفات إليها، والموازنة بينها، قبل الانتهاء إلى قرار أخير، والأغلب أن يكون الصنف الثاني ممن لا يزال محكوما بانفعالاته وعواطفه من الشباب أو من هم في حكم الشباب، فليست العبرة هنا بعدد السنين، وإنما العبرة بغزارة الخبرة المحصلة أو ضحالتها.
وبعد مراجعات أقارن فيها بين الموقفين وأوازن: لمع الذهن بحل يجمع بين وجهتي النظر في موقف واحد: فليس الصواب هو أن نجعل الأمر بديلين، علينا أن نختار أحدهما وأن نترك الآخر: فإما أن نتدبر الرأي ونتروى قبل العمل، وإما أن نعزم عزيمتنا مسرعين إلى العمل بلا تردد بين جانب الخطأ منه وجانب الصواب، فحقيقة الأمر - كما بدا لي - هي أن الطريق إلى العمل ذو مرحلتين: أولاهما مرحلة للتدبر، وثانيتهما مرحلة للعزيمة التي تهم بالفعل بناء على ما وصلت إليه المرحلة الأولى: فإذا رأينا الناس وكأنهم منقسمون صنفين في هذا الصدد، فما ذلك إلا أن صنفا منهم يقف عند المرحلة الأولى وحدها، وكأن إمعان التدبر قد أصابه بالشلل، وأما الصنف الثاني فهو الذي يتجاهل المرحلة الأولى، ويجعل نقطة البدء والانطلاق معا في المرحلة الثانية، وكلا الرجلين نصف إنسان.
ولأمر ما، تواردت في رأسي عند تلك اللمعة الذهنية، ذكريات لا حصر لها، لمواقف كثر فيها اللغو بيننا، في التفرقة بين ما نطلق عليه اسم «الكليات النظرية» و«الكليات العملية»، وهو تقسيم لا يجري بدقة مجرى التقسيم الذي باعد المسافة بين الشاعر والأمير، إلا أنه برغم ذلك يمت إليه بسبب؛ لأن شيئا شبيها بما قلناه عن وجوب الجمع بين تدبر الرأي وعزيمة تنفيذه، ليكونا مرحلتين لا بد أن يتكاملا معا في الإنسان الواحد، نقوله كذلك فيما هو «نظري» وما هو «عملي» من ضروب العلم، فكل «علم» عرفته الدنيا من أول التاريخ الذي عرف فيه الإنسان كيف يفكر على نهج العلم، هو «نظري» أولا، وعملي ثانيا، إذا قسم «للنظرية» أن تجد من ينقلها إلى مجال التطبيق: وإلا فكيف يكون؟ أيبدأ الإنسان بالخبط هنا والتخبط هناك بغير «فكرة» في فكره؟ أم أنه يبلور خبراته المتفرقة في «فكرة» يقتنع بصوابها ثم يهم بتنفيذها: فإما طاوعه الواقع على فكرته، فتكون فكرته صحيحة، وإما استعصى الواقع على فكرته فتكون فكرة خاطئة؟ ولعل ما أضلنا عند القسمة إلى «نظري» و«عملي» في كليات الجامعة هو خلط فكري أفدح: إذ حسبنا دراسة العلوم الإنسانية أدخل في باب «النظري»، غافلين عن أن النظري هو ما يستند إلى «النظرية»، والنظريات بهذا المعنى، تعرفها العلوم الطبيعية أكثر مما تعرفها العلوم الإنسانية؛ لسبب واضح - هو أنه قرينة الدقة عندما تعلو درجاتها، وإذا شئت فراجع ما شئت من بلاد الدنيا، لترى كيف تقسم فيها أنواع الدراسات، ولن نجد - فيما أعتقد - أحدا سوانا نقل صفة «النظري» من موصوفها الحقيقي، وهو العلوم الطبيعية، إلى غير موضوعها الأساسي المباشر، وهي العلوم الإنسانية، فهذه علوم مختلف على منهجها حتى اليوم: هل يكون في نفسه منهج البحث في العلوم الطبيعية، أو يكون لها منهج خاص؟ وذلك لأن «النظرية» في أي علم، إذا ما وجدت سبيلها إلى دقة الصياغة، وغالبا ما تكون الصياغة الدقيقة في صورة رياضية، كان ذلك دليلا على أن ذلك العلم قد بلغ مرحلة متقدمة من الدقة والقدرة على التنبؤ الصحيح في مجاله.
ثم انعرجت بي الخواطر نحو الكليات الجامعية وأسمائها، فرأيت كم تعجل أولئك الذين أطلقوا تلك الأسماء على غير مسمياتها؛ فالتي أطلقوا عليها اسم «كلية الآداب» لا تدرس آدابا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، ولا كان مقصودا بها أن تفعل - وإنما هي تدرس علوما اجتماعية، أو علوما إنسانية، فلماذا لم يسموها باسمها؟ و«كلية التجارة» لا تدرس تجارة، بل تدرس محاسبة وإدارة، فلماذا لم يسموها باسمها؟ وكلية «الحقوق» تدرس القانون، فلماذا لا تسمى كلية القانون كما هي الحال في سائر بلاد الدنيا؟
ولكنني سرعان ما أوقفت هذه الخواطر متهكما، قائلا لنفسي: هذه الأسماء كلها، وإن أطلقها من أطلقها على غير مسمياتها، فهي حتى وإن اختلف الناس حول معانيها، فلن يؤدي بهم ذلك الاختلاف إلى قتال تسفك فيه الدماء، وماذا أنت قائل في مجموعات أخرى من الأسماء يفهمها الناس على أوجه مختلفة، ثم ينتهي بهم انقسامهم في الفهم إلى عراك، ينشب بينهم بالكلمات أول الأمر ثم يتحول العراك إلى ساحات الحرب ونيران المدافع؟! فاسم «الديمقراطية» يطلقه فريق على نظام تتعدد فيه الأحزاب لتعدد وجهات النظر، ويطلقه قوم آخرون على نظام الحزب الواحد لواحدية الرأي الذي لا يجوز له عندهم أن يتعدد، فإذا قال الأولون: هذه هي الديمقراطية، رد الآخرون بقولهم، بل الديمقراطية هي هذه، وعلى العرافين، والمنجمين، وقراء الكف والفنجان، أن يكشفوا للناس وجه الحق بين الفريقين، قبل أن ينتقلا بالخلاف إلى لغة الحديد والنار، وكل إنسان على كوكب الأرض يرفع لواء «الحرية»، وهل شهد التاريخ كله حاكما واحدا يعلن عن نفسه أنه يحكم لغير الحرية؟ إنه يقتل من أجل الحرية، ويزج في السجون من أجل الحرية، ولكن تعال فانظر إليهم، كيف يفهمونها على معان تختلف باختلاف العصور وباختلاف الشعوب في العصر الواحد، تجد عجبا، إننا هنا لا نريد أن نسيء الظن بأحد، فكل يحب وطنه وأهله إلى حد العشق والهيام، لكن العلة هي في فهم الناس للكلمات، فواحد يقول إن الحرية أساسا هي حرية الفرد، وهي نفسها الحرية التي جاءت رسالات السماء لتقررها لكل فرد حيث يكون مسئولا حقا عما قدمت يداه وهو بين يدي الله يوم النشور، لكن قوما آخرين يتعجبون إذ هم لا يرون كيف تكون حرية إلا لكتلة الشعب معجونة كلها معا في عجينة واحدة، إن الحرية عند الأولين هي آخر الأمر أن يعبر المواطن عن نفسه فكرا وعقيدة وسلوكا ولا تقيده في ذلك إلا ضوابط تستهدف في نهاية المطاف أن يتاح للإنسان الحر أن ينعم بذلك التعبير عن ذات نفسه، وأما الآخرون فلا يخجلهم أن يقولوها صريحة، وهي أن الحرية في آخر التحليل - هي أن يأمن كل مواطن على رغيف الخبز ...
جاءت معي تلك المقارنات استطرادا طبيعيا، في تلك الجلسة الهادئة التي بدأتها بموقف المناظرة الشعرية التي دارت بين الشاعر والأمير (أو لعله الخليفة) حول أن يكون صاحب الرأي ذا تدبير أو أن يكون ذا عزيمة، ثم أخذ تعاقب المعاني ينتقل بي من موضوع إلى موضوع، وكان الرابط بين مختلف الموضوعات التي طرقتها، هو اختلاف الناس في فهم الكلمات التي يستخدمونها، ثم ما هم إلا أن ينقلهم الوهم إلى الاعتقاد بأنهم إنما يختلفون على حقائق الواقع، وحقائق الواقع هي هي، لكن كلا منهم يريد أن يأخذ جانبا منها دون جانب، ويظن مع ذلك أنه أخذها جميعا واستوعبها من شتى أطرافها ... ولبثت خواطري تلك تنساب بي من مجال للحديث إلى مجال، انسيابا طليقا لا يقيده هدف محدد أبتغي الوصول إليه، لكن الله العليم الخبير شاء لي أن يتحول معي ذلك الانسياب الحر إلى موقف جاد وحاد: وكان ذلك عندما طرق على الباب زائر عاد لتوه من سفر، ولا أعرف ماذا كانت مناسبة الحديث التي ظهرت فيها فكرة التطرف الديني، وقد يكون زائري نفسه هو الذي افتعل ظهورها افتعالا: ليقول لي في شيء من الرعشة العصبية المكشوفة: لست أفهم كلمة التطرف يوصف بها متدين، فالمتدين الحق متمسك بدينه، لا زيادة ولا نقصان، إنه إنسان يلتزم الخط الديني، وخط الدين خط واحد، والأمر بعد ذلك يكون في أفراد الناس هو: إما سائر على هذا الخط وإما منحرف عنه، فأين يكون في هذه الصورة الواضحة من هو معتدل ومن هو منحرف؟ قلت لزائري: قد فاتتك تفرقة مهمة بين طرفين، هما «الدين» كما هو مثبت في كتابه المنزل من جهة، و«المتدين» بذلك الدين من جهة أخرى، فبينما الكتاب «واحد»، فإن المتدينين به كثيرون، وليس هو من الأمور الشاذة في طبيعة الناس، أن يختلفوا في طريقة فهمهم لنص واحد قرءوه: وهذا هو ما حدث بالفعل للمسلمين (كما حدث مثله في أتباع الديانات الأخرى جميعا)، فالمسلمون متفقون على الكتاب الكريم، لكنهم مختلفون في فهمهم لبعض آياته: ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة، ومن ثم يكون معنى التطرف يا صاحبي هو أن يأخذ المسلم بطريقة معينة في الفهم، أو قل: بمذهب معين، ثم يعلن أنه هو وحده الصحيح، وقد أخطأ الآخرون، ولو وقف أمره عند هذا الحد، لما كان عليه غبار؛ لأن معنى أن يأخذ إنسان بمذهب معين دون سائر المذاهب، هو أنه قد رأى الصواب في جانب المذهب الذي اختاره، لكنه ينقلب «متطرفا» إذا هو أراد أن يحمل الآخرون بالقوة - كائنة ما كانت صورة القوة - على مشاركته فيما اعتقد.
بدأت حديثي مع الزائر هادئ النبرة: ثم شعرت في داخلي بالحرارة تزداد معي شيئا فشيئا، كأنما أحسست بأن موضوع التطرف في حياتنا أكثر أهمية وأشد خطورة، من أن يؤخذ بهذا الهدوء، فقلت لزائري - وكان قد هم بالرد على شيء مما قلته - اسمع يا أخي، إنني بحكم فارق السن بيني وبينك - على الأقل - أستأذنك في مواصلة حديثي؛ لأفتح عينيك على حقيقة: «المتطرف» في مجال الدين أو في أي مجال غير الدين:
أولا:
ليس ما يؤخذ على المتطرف أنه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الأفكار والمواقف من خلالها، لا، فهذه - على العكس - علامة نضج، وكذلك ليس ما يؤخذ عليه أنه يحاول إقناع الآخرين بمشاركته في وجهة نظره؛ لأن تلك المحاولة منه إنما هي علامة إيمان بصدق ما رأى، لكن الذي يؤخذ عليه حقا هو إرهابه للآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، ففي ذلك الإرهاب جوهر التطرف.
ولأضرب لك مثلا على ذلك من التاريخ: فإنه لما نشبت الحرب بين الإمام علي - كرم الله وجهه - وبين معاوية، على الحق في إمارة المؤمنين لمن تكون، كان الموقف يتضمن رأيين في أحقية الخلافة، أولهما: أن آل النبي - عليه الصلاة والسلام - أحق من غيرهم بها، وفي هذه الحالة تكون الأحقية لعلي، فضلا عن أن عليا قد بويع بالفعل ، والرأي الثاني : هو أن أحقية الخلافة جائزة لكل ذي أصل عربي، سواء أكان من آل بيت رسول الله
Halaman tidak diketahui