هي حياة من حياة من حياة ... فإلى أين يتجه موكب الحياة إذ هو في تسلسله هذا الذي قضت به مشيئة الخالق في خلقه أن مسيرة الإنسان إنما تتجه به نحو أكمل صورة إنسانية مستطاعة، وليس هذا الكمال المنشود في أداة البدن وما يحل فيه من أداة العقل وأداة الشعور وغيرها من أجهزة ركبت في طبيعة الإنسان، ولكنه في استخدام تلك الأدوات إذ هي بطبعها قابلة لأن تسمو وتسفل، وإنه لتروى رواية عن اليوناني «ديوجين» وهو يديم الطواف في أثينا وفي يده مصباح مضيء حتى وهو في وضح النهار، وكان كلما سئل فيم هذا المصباح أجاب إنني أبحث عن الإنسان فلا أجده، فعن أي إنسان كان ديوجين يبحث والناس من حوله تملأ طرقات المدينة؟ لا - ليس هؤلاء، فهؤلاء بعد بهم نقصهم عن الكمال، وربما أصاب الرجل في حكمه على مواطنيه، لكن الذي يهمنا نحن في سياق حديثنا هذا أن نسأل ترى ما الذي كان ديوجين يتوقع أن يجده في مواطنيه فلم يجده؛ فاختار لنفسه أن يطوف المدينة بمصباحه باحثا عن الإنسان ليعبر بهذا عن حسرته وأساه؟ وهنا مرة أخرى يقوم السؤال وما هو معيار القياس تقدما وتخلفا؟ ربما لو سئل «ديوجين» هذا السؤال لأجاب: المعيار هو مدى احتكام الإنسان إلى منطق العقل في مواجهة مشكلاته، فلقد عرف اليونان الأقدمون برفعهم لواء العقل، ولم يكن يرضيهم إلا أن يوضح لهم من يلجون في فكرة من الأفكار أو في قيمة من القيم إلا أن يرتد صاحب الفكرة أو الداعي لقيمة من القيم الأخلاقية أن ترد إلى «المبدأ» العقلي الذي تستند إليه فكرته أو القيمة الخلقية المعينة التي يدعو إليها.
لكن الإنسان عقل وأكثر، هو عقل وهو شعور، وعاطفة ونمط، من السلوك يسلك به في حياته، واقترابه من الكمال يتطلب العناية بتلك الجوانب من حياته جميعا، فعقل يلتزم منطق التفكير السليم، وشعور حساس لآلام الآخرين، وعاطفة تنعطف نحو ما هو خير، وما هو جميل وسلوك متعاون، ينأى بنفسه عن مواطن الإسفاف.
وإن الحي ليموت ليحيا بعد ذلك حياتين، حياة في الدنيا بحياة خلفه وحياة في الآخرة يحددها يوم الحساب.
قنافذ وثعالب
ليس هذا العنوان من عندي، بل إنه لم يكن من المستطاع له أن يكون، إذ جاء عند صاحبه ليرمز إلى قسمة الناس صنفين من المزاج، وأسلوبين في التعامل مع العالم المحيط بهم، ولما كان صاحب هذا العنوان، قد أقام تلك القسمة، مستندا إلى التشبيه بالتضاد الذي رآه بين القنافذ والثعالب، ولما كان من الضروري لمن يجري هذه الموازاة بين خصائص الإنسان وخصائص الحيوان، أن يكون على علم دقيق بدنيا الحيوان، علما يستمده من المشاهدة المباشرة أو من القراءة، فلست بحكم النشأة والثقافة واحدا من هؤلاء، شأني في ذلك شأن الكثرة الغالبة من المواطنين، فنحن جميعا نعرف القنفذ، ونعرف الثعلب، لكنها في معظم الحالات لا تزيد على المعرفة الظاهرية التي يحصل عليها المتفرج في حديقة الحيوان، لا معرفة الباحث عن صور الحياة كما يحياها هذا الحيوان أو ذاك.
وإنما صادفت عنوان «القنافذ والثعالب» عند الفيلسوف الإنجليزي المعاصر «أزايا بيرلن»، وكان أستاذا في جامعة أكسفورد، لكنه كان كذلك، ولا يزال، مرموقا بفكره المبتكر الثاقب، وبأسلوبه المطواع الذي يتموج به قلمه تموجا يساير معانيه صلابة وليونة، وعندما كتب «بيرلن» تحت هذا العنوان، كان موضوعه هو التفرقة بين الفلاسفة الأقدمين، أو قل الفلاسفة الذين امتد بهم الزمن حتى أوائل هذا القرن، من جهة، وفلاسفة عصرنا هذا خلال القرن العشرين، من جهة أخرى ... إذ قد تغيرت الروح بين أولئك وهؤلاء تغيرا يلفت النظر ... وليست التفرقة هنا تفرقة يراد بها المفاضلة بحيث نقول هذا أحسن من ذاك أو أردأ، بل أساس التفرقة هو ملاءمة المفكر مع ظروف زمانه ملاءمة تجيء معه عن غير قصد وتكلف مصطنع، بل تجيء معه كما تجيء الأنفاس شهيقا وزفيرا، فإذا كان السابقون من الفلاسفة قد دأبوا على أن يحاول كل واحد منهم أن يقيم بناء شامخا يتفرد به، ويجعله شاملا لكل فروع المعرفة، ولكل وجه من وجوه الكون، فإن فيلسوف عصرنا - لأن عصرنا هو أساس عصر «العلم» - قد جعل الجزئية الواحدة مما يرجح أن يكون له انعكاس على الحياة العلمية، جديرة وحدها بالوقوف عندها والانصراف إليها، ومن مجموع ما يتناوله أفراد الفلاسفة من موضوعات يحللونها إلى أدق ما يمكن أن ترتد إليه من عناصر وجذور، أقول: إنه من مجموع ذلك تتألف فلسفة هذا العصر، بعد أن كان الفيلسوف الواحد يستهدف أن يقوم وحده بإقامة بناء واحد يشمل عصره كله، بل ويطمع له أن يشمل الدهر من أزله إلى أبده.
ومن هنا جاء تشبيه «أزايا بيرلن» للفيلسوف فيما سبق بالقنفذ، وللفيلسوف في عصرنا هذا بالثعلب، والفرق الجوهري بين هذين الحيوانين، هو أن القنفذ مكور على نفسه، في حين أن الثعلب يجوب المكان كله، يجري هنا ويتسلق هناك، ويربض حيثما أراد أن يتربص، القنفذ ثابت في مكانه، يرى العالم من وجهة نظر واحدة، والثعلب متحرك يرى العالم من عدة وجهات للنظر، يريد القنفذ أن تأتي إليه دنياه حيث هو قابع، وما لا يأتيه فليس هو من دنياه، ويريد الثعلب أن يسعى إلى الدنيا حيث هي، وما لا يقع عليه هنا فليبحث عنه هناك، للقنفذ محور واحد يلف حوله الأجزاء ليوحدها في مخبأ واحد، وأما الثعلب فلا يستوعب حياته محور واحد، فحيثما وجد الصالح النافع وقف عنده ريثما يفرغ منه، ثم يسعى ليعثر على شيء آخر صالح ونافع ...
وأشعر كأنما أرى شبها من بعض الوجوه، بين قسمة الناس إلى قنافذ وثعالب، على يدي أزايا بيرلن، وقسمتهم عند وليم جيمس إلى ذوي أدمغة صلبة وذوي أدمغة لينة، إذ يريد بأصحاب الأدمغة الصلبة أولئك الذين ينشدون الحقائق، ولا يهربون من الواقع مهما يكن خشنا غليظا، بل هم يواجهونه ليعرفوا دنياهم على حقيقتها، حتى إذا ما أرادوا أن يغيروا وجها من وجوهها، عرفوا ما الذي يغيرونه وكيف يغيرونه، ومن أمثلة ذوي الأدمغة الصلبة، علماء الطبيعة على اختلاف الظواهر التي يتخصص فيها كل منهم في ميدانه، وقادة الجيوش، ورجال الأعمال، وأما أصحاب الأدمغة اللينة فهم أولئك الذين يفرون من الواقع وقسوته ويصنعون لأنفسهم داخل رءوسهم عالما يفضلونه على مزاجهم يحيون فيه، وحتى إذا هم أقاموا في عالمهم ذاك ضروبا من المشكلات يتسلون بمحاولة حلها، فهي عندئذ مشكلات من خلق خيالهم لا شأن لها بالواقع ومشكلاته، ومن أمثلة هؤلاء: الشعراء، والمتصوفة والفلاسفة المثاليون الذين يرون أن العالم هو كما أقاموه داخل رءوسهم من تصورات وأفكار.
فالقنافذ عند أزايا بيرلن، هي ما يقابل أصحاب الأدمغة اللينة عند وليم جيمس، والثعالب هناك هي هنا أصحاب الأدمغة الصلبة، ففي الحالة الأولى يكون المعول على ما انطوت عليه الذات، بغض النظر عن واقع الأشياء، وفي الحالة الثانية يكون مدار النشاط هو وقائع العالم المحيط بالكائن الحي، بغض النظر عما يشعر به ذلك الكائن الحي من حب لتلك الوقائع، أو كراهية، ثم لم أكد أستعرض هذين التقسيمين أمام عقلي، حتى قفز إلى جوارهما تقسيم ثالث، هو تقسيم «يونج» أفراد الإنسان إلى «مطوي» على نفسه و«منبسط» فالطرفان هنا متقابلان تقابلا واضحا، مع قنافذ أزايا بيرلن وثعالبه، كما هما متقابلان بدرجة الوضوح عينها، مع ذوي الأدمغة اللينة وذوي الأدمغة الصلبة «بهذا الترتيب» عند وليم جيمس.
فهذه كلها أسماء اختلفت فيما بينها، لكنها توشك أن تتفق على ما تسميه، ففي جميع التقسيمات الثلاثة، نجد الناس صنفين: صنف منها يعطي لذاته هو ومزاجها، أن تقرر ماذا يكون صوابا وماذا يكون خطأ، أو ماذا يعد فضيلة وماذا يعد رذيلة، وأما الصنف الثاني فيترك الحكم في هذا إلى الواقع الخارجي، فواقع الأشياء والمواقف هو الذي يبين متى تكون فكرة ما صحيحة ومتى تكون خاطئة، أو متى يكون فعل ما مسددا نحو الهدف المنشود، ومتى لا يكون، على أن تلك التقسيمات المتشابهة كلها، إنما تلجأ إلى التبسيط بغية التوضيح وإلا ففي كل إنسان يجتمع الطرفان معا في كل تقسيم، وغاية ما في الأمر، أن طرفا منهما تكون له الغلبة على الطرف الآخر في شخص معين، في حين يكون العكس في شخص آخر، وليس ثمة ما يمنع أن يتعادل الطرفان في شخص ثالث.
Halaman tidak diketahui