إننا حين نعتز بأسلافنا ترانا لا نقصر الأمر على فقهاء الدين منهم، بل نحرص على أن نضيف الأسماء اللامعة لعلماء الرياضة وعلماء الطب وعلماء الكيمياء وعلماء الفلك والمؤرخين والرحالة فضلا عن الشعراء والنقاد والفلاسفة، فهؤلاء جميعا قد وجهوا جهودهم نحو الكون، يقرءون ظواهره ليصفوها وليحللوها وليستخرجوا قوانينها، ثم أصابنا الجمود منذ القرن الخامس عشر الميلادي، ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا قبل ذلك لم تكد تتجه بنظرة واحدة نحو تلك العلوم، (وهذا الحكم منصب بالطبع على ما بعد العصر اليوناني) وكان أسلافنا المسلمون وحدهم هم فرسان الميدان، تحول الموقف تحولا حادا بعد ذلك التاريخ، فاتجهت أوروبا بكل عقولها وقلوبها نحو طبيعة الظواهر الكونية يدرسونها، ووقفنا نحن وقفة الأشل، فلم يتبق لنا من ميادين الدراسة شيء إلا أن يعيد الدارسون ما كتبه الأولون متصلا بالقرآن الكريم، فلا هم أضافوا شيئا في هذا المجال، ولا هم بالطبع أنفقوا من وقتهم ساعة واحدة يدرسون فيها ظاهرة من ظواهر الكون.
وإذا شاركتني هذا الرأي، انفتح الطريق أمامنا نحو الوسيلة التي ننهي بها مأساتنا، فهي - كما نرى - أن نجعل إسلامنا على نحو ما كان إسلام الأسبقين فيما يختص بالحياة العلمية، فقد كان عالم الرياضة أو عالم الطب أو عالم الكيمياء إلخ مسلما عالما، لا «مسلما وعالما» بإضافة واو العطف بين الصفتين، بمعنى أن اهتمامه بالفرع الذي يهتم به من فروع العلم الرياضي والطبيعي كان جزءا من إسلامه، أو بعبارة أخرى، كانت العبادة عنده ذات وجهين: بالوجه الأول منهما يعبد الله بالأركان الخمسة، وبالوجه الثاني منهما يبحث في خلق السموات والأرض وما بينهما كما أمره القرآن الكريم، وبهذه النظرة نفسها يكون مخرجنا من مأساتنا، وهي المأساة التي جعلت الأمة الإسلامية على حالتها من الضعف، كما أسلفنا القول في ذلك.
وإذا اتجه المسلمون بإيمان راسخ وعميق نحو دراسة «العلوم»، لا من حيث هي «مذكرات» تحفظ، بل من حيث هي ضرب من عبادة الله عز وجل لأنها نظر في خلق الله، لاستطاعوا أن يتميزوا في هذا المجال بالقياس إلى علماء الغرب، لماذا؟ لأنهم بحكم إسلامهم موجهون نحو «التوحيد» بكل معنى من معانيه، فتوحيد الله سبحانه وتعالى عند المسلم، لو أخذ مأخذا بصيرا - لاستتبع عند المسلم توحيدا لشخصيته هو وتوحيدا للكثرة الظاهرة في كائنات العالم، بحيث تنخرط كلها في «لون» واحد متكامل الأجزاء، وكلا الجانبين من التوحيد؛ وأعني توحيد الشخصية الإنسانية وتوحيد العلوم المختلفة التي تبحث في ظواهر الكون توحيدا يعود بها إلى مبدأ واحد، أقول: إن كلا الجانبين من التوحيد غائب أو كالغائب عن الحياة الفكرية في عصرنا التي هي حياة انفرد بها حتى الآن علماء الغرب، وما ينفك أدباء الغرب ومفكروه يشيرون إلى هذا النقص الخطير الذي أدى إلى كثير من أمراض العصر النفسية وعلى رأسها القلق والشعور بالاغتراب، وكأن الإنسان يعيش في غير بيته ومع غير أسرته.
نعم - لو أن المسلمين عبدوا الله من ناحية دراستهم لخلق الله بالإضافة إلى عبادته سبحانه وتعالى من ناحية الأركان الخمسة، لانتهوا إلى ما يصح تسميته بالعلم «الإسلامي»، فالعلم لا يصبح إسلاميا بهذا العبث الذي يطن في آذاننا كل يوم حين نسمع صيحات تقول: نريد علم نفس إسلاميا، ونريد علم اجتماع إسلاميا، ونريد علم اقتصاد إسلاميا، كلا؛ لأن كل علم من هذه العلوم الجزئية لا يستطيع إلا أن يكون علما لا تتغير صورته على أيدي علماء اختلفت أوطانهم وعقائدهم، وإنما يصبح العلم إسلاميا بالوقفة العامة التي ترتب بها العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحو ما نتوقع من المسلم الحق أن يوحد بين عناصره الداخلية العاقلة منها وغير العاقلة في ذات موحدة متسقة النغم متفقة الهدف، لكن هذا كله لا يؤديه المسلم في المسجد وحده، وإنما يؤديه - كما قلت - قبل المسجد، وفي المسجد وبعد المسجد، فهل رأيت الآن يا صديقي، كيف يمكن أن تفهم عبارة المسلم الهندي التي قالها لزميله حين قال: إنني أنا المسجد وأنا الساجد؟ هذا، ولم أقل «شيئا» عن الركيزة الثانية في حياة المسلم، ركيزة «الأخلاق» التي نزل بها القرآن الكريم، لينظم على أساسها أنماط سلوكنا في حياتنا منفردة كانت تلك الحياة أو مجتمعة، ويغفر لنا هذا الحذف ضيق المقام أولا، ووضوح هذا الجانب في أذهان الناس، إذ من الذي لا يعرف أن المسلم الحق يحمل مبادئه الأخلاقية في ضميره أينما كان، يحملها قبل دخوله المسجد وبعد خروجه من المسجد - كما يحملها وهو يؤدي صلاته في المسجد سواء بسواء.
اقرأ باسم ربك
في كتابه «الخصائص» يلفت «ابن جني» أنظارنا إلى ما يسميه هو بالاشتقاق الكبير، وكتاب «الخصائص» مؤلف ضخم يقع في ثلاثة مجلدات، يبحث في خصائص اللغة العربية، وهو - كما ذكرت عنه في مناسبة سابقة - أقرب شيء إلى ما نسميه اليوم بفلسفة اللغة، ولست أعرف في تراثنا العربي كله، ما ينافس «الخصائص» في موضوع بحثه، عمقا وإسهابا، وأحسب أن علماء اللغة قبل ابن جني، لم يعرفوا إلا ضربا واحدا من الاشتقاق، وهو ذلك الذي يتعقب الألفاظ التي يمكن أن تتولد من أصل لغوي واحد، فمن الأصل «كتب» تولد «كاتب»، «مكتوب»، و«كتاب» و«كتيبة»، إلخ، أما الاشتقاق الكبير الذي يلفت ابن جني أنظارنا إليه فشأنه شأن آخر، وخلاصته أن الأحرف الثلاثة التي يتركب منها الأصل الثلاثي، لتعطي معنى معينا، يمكن أن نغير في ترتيبها، فنحصل بذلك على كلمات أخرى، لكل منها معناها، لكنها جميعا لا بد أن تكون ذات صلات بعضها ببعض؛ لأنها تكون أشبه بأفراد الأسرة الواحدة، كل فرد منهم متميز بفرديته، لكن يظل الشبه الأسري قائما بينهم جميعا، ثم ضرب ابن جني أمثلة يوضح بها ما زعمه عما أسماه بالاشتقاق الكبير.
وعلى طريق ابن جني، وجدت نفسي مدفوعا إلى إمعان النظر في كلمة «اقرأ»، وذلك عندما أحسست في لحظة من لحظات التأمل، بأنه لا بد أن تكون هناك أبعاد بعيدة الأعماق؛ لأن يكون أول الوحي الإسلامي هو هذا الأمر الإلهي
اقرأ
وقد يكون هنالك من العلماء السابقين أو المعاصرين، من تقصى تلك الأبعاد، لكن ذلك - حتى إن وجد - لا يمنعني من متعة التفكير، بل من واجب التفكير؛ لأن عملية التفكير لمن يحسنها، واجب ومتعة معا، فكانت أول خطوات التفكير عندي، محاولة الإفادة بمبدأ ابن جني في الاشتقاق الكبير؛ لأن ذلك من شأنه أن يصوب الأضواء على ما يمكن أن يكون وراء الكلمة من الأبعاد التي نبحث عنها.
فمن الأحرف التي تتكون منها كلمة «قرأ»، يمكن استخراج كلمة «أرق» وكلمة «أقر»، فلننظر - إذن - إلى هذين اللفظين المستخرجين، ثم نعود بعد ذلك إلى الكلمة التي هي موضوعنا، وهي الأمر القرآني
Halaman tidak diketahui