الشيخ ناصيف اليازجي هو شاعر الأمير الثالث أو آخر شاعر «رسمي» دخل القصر، ولا شك أنه أفيضهم قريحة وأنقاهم ديباجة. دخل قصر بتدين حين اعتدل ميزان نهار العهد البشيري، فقرب الأمير شاعره الجديد وأدناه. جعله كاتب سره، فاتبع في رسائله بروتوكول القصر، يكتب إلى هذا «محبنا» فيظل كما هو ... وإلى ذاك «أخونا» فيصير شيخا مكرما يتوارث بنوه هذا اللقب. وعلى هذا النسق جرت عادة الوزراء في الكتابة إلى سعادة المير؛ تفتتح مراسيمهم بهذه التوطئة: «افتخار الأمراء الكرام، مرجع الكبراء الفخام، ولدنا الأمير بشير الشهابي الجزيل الإكرام، دام مجده على الدوام، بحفظ الملك العلام.»
لا بد من أن يكون القارئ، بعدما قرأ ما قرأ عن شعراء الأمير؛ مشتاقا إلى التعرف بسعادته خلقا وخلقا. اسمه يملأ الأذهان حتى الساعة، وهناك قصص تروى وحكايات تسرد، فتقوم إلى جانبها صور عنه فيها الخطأ وفيها الصواب، أما معاصروه فرسموه في التاريخ هكذا: أشقر اللون، معتدل القامة، طويل اللحية كثها، نحيف، أقنى الأنف طويله، أشهل العينين. أما صفاته فقالوا فيها: جامع كامل الصفات الحميدة، عاقل، عادل، حليم، شجاع، فاضل، كريم، دين، عفيف، مهاب، شهم، يقظ، فطن، صادق، رزين، حزوم، جبار، فتاك، صبور، غيور.
أما سلسلة نسبه فيرويها صاحب كتاب أعيان لبنان - كما ذكر صفاته - مبتدئا بإبراهيم وسام بن نوح فآدم حتى يمر المؤرخ، أو صائغ تلك السلسلة، بموسى وعيسى ومحمد - عليهم السلام ...
أما «أيام» الأمير فكانت شغل شعرائه الشاغل، تفتق وقعاته قرائحهم، وتخلق لهم كل يوم موضوعا جديد. «وسعادته» يسمع ما يقال مغتبطا، يهب مما نهب، وكذلك هي الحرب خيرها لناس وشرها لآخرين. ينظر الشعراء إلى حصة الأسد فيسيل لعابهم، وأميرهم جواد لا يبخل عليهم بما يسند قلبهم، فلا يبقون على الريق.
وهذا شاعره وكاتب ديوانه ناصيف اليازجي يرفع عقيرته ضاما صوته إلى صوت شاعر الأمير الكبير وغيره، فتتألف من هؤلاء جميعا «جوقة» لم يشهد مثلها بلاط من بلاطات ملوك ذلك العصر؛ لأن أكثر من وظف لهم الأمير كانوا يقولون الشعر، بل خير أهل زمانهم علما وأدبا، فيكونون كتابا في الديوان أيام العمل، ومداحين وصافين لأيامه المشهورة في أعدائه.
على هذا كان أبو سعدى البعيد الأماني، الذهبي الأحلام، ولكن النعم تأبى التأبيد، والكلمة المأثورة: «توقع زوالا إذا قيل تم» صادقة دائما، فهؤلاء مناظرو الأمير وخصومه ينصبون للأسد الشباك في الخفاء، ويحفرون دائما في أساس ولايته ليدكوها، فما مرت سنوات حتى قام قائمهم؛ كانت الثورات تلي الثورات «والعاميات» تلي العاميات، فمن عامية أنطلياس إلى عامية لحفد، حيث لا تزال «قلاعي لحفد»، التي حن إليها ابن القلاعي في شعره، تخبر عن بطش الأمير، وأشهر تلك القلع لا يزال يطلق عليه اسم «شير العمية».
أسكت الأمير تلك العاميات؛ فسكنت الأرض بين يديه زمنا إلى أن كان آخر العهد، ولكل أجل كتاب، فظهرت عامية حرش بيروت ، وتلتها عامية سن الفيل ، فأوفد الأمير من استخلصهم لينصحوا الثوار، فإذا بهم يشددونهم، فوجه إليهم بعض بني عمه فعادوا إليه حاملين خمسة شروط، فلم يقبل بها الأمير، وأرسل إليهم البطرك يوحنا الحاج الذي كان يومئذ كاهنا يدرس الفقه في بيت الدين على فقيه عصره الشيخ بشاره الخوري، فوجدهم قد أجمعوا أمرهم في أنطلياس، فلم يصغوا له وأظهروا العصيان.
وازدادت الثورة اشتعالا، فلجأ الأمير إلى البطرك الحبيشي فانتدب للمداولة معهم أحد مطارينه - بطرس كرم مطران بيروت - فسلمه الأمير بشير أحمد اللمعي شروط الثوار وهي: (1)
عزل بطرس كرامة من ديوانه، وتعيين كاتبين من كل طائفة. (2)
رفع السخرة بنقل الفحم الحجري من قرنايل إلى بيروت. (3)
Halaman tidak diketahui