لا بد للبناني من لغة ولغتين مع اللغة التي يتكلمها، أما ذو اللغة الواحدة فيعد نصف قارئ وكاتب. فمنذ أعصر كانت السريانية والعربية مشدودتين في قرن عند أهل لبنان، ثم عرفوا لغات عديدة معهما، أما سليمان البستاني ففاق من تقدموه من الرواد، فعرف خمسة عشر لسانا حتى لغة «النور» إن صدق من ترجموا له ... لأنهم رووا مثل ذلك عن المطران يوسف الدبس.
استهل سليمان كغيره من الرواد فكان معلما، ثم عاف التعليم وطاف أقطار المسكونة، فكانت له من تلك الرحلات ثقافة أخرى هي غير ثقافة الحبر والورق.
أما الإلياذة، وهي أجل أعماله، فليس هو أول ماروني نقلها إلى لغته الأصلية. فالرهاوي - قبله - قد نقلها إلى السريانية منذ مئات السنين، ثم نقلها غير الرهاوي إلى العربية نثرا. ولكن إلياذة سليمان كان لها شأن لما ظهرت، فاحتفلت مصر بصاحبها يوم لم يكن يحتفى برجل لأجل كتاب ... فأقيمت حفلة تكريم لسليمان بالقاهرة خطب فيها صروف وغيره.
إن لإلياذة سليمان فضلا على غيرها بما علق عليها من شروح تقربها من فهم القارئ . فالإلياذة شعر يوناني تاريخي أفرغت فيه جميع معارف القوم في ذلك الزمن، أما موضوعها فوصف وقعة من وقعات حروب طروادة، توسع فيها هوميروس فكادت أن تكون موسوعة. وصف فيها طباع الناس وعاداتهم وعمرانهم، وطرق عبادتهم، فدلتنا على أن اليونان كانوا أصحاب فلاحة وصناعة وتجارة، وعلم وفلسفة، وعتاد حرب، وإذا بلغت أوروبا اليوم ما بلغته اليونان في كل ما ذكرنا، فهي لا تزال مقصرة عنهم في النقش والحفر، وصنع التماثيل.
قضى سليمان عشرات السنوات في دراسة الإلياذة، وتعلم جميع اللغات التي توطئها له، وظل دائبا يرحل ويقيم حتى رأى بعينه أخيرا مواطن حوادثها، فأفاد منها ما كان قد فاته. وأخيرا انبرى لها، ونظمها، وشرح لنا غوامضها، وكأنه رآها لا تكون تامة بلا مقدمة فقدم لها بمائتي صفحة، فجاءت تلك المقدمة كتابا أشبه بمقدمة ابن خلدون لتعدد أغراضها، ودقة بحثها؛ حلل فيها أولا نسب هوميروس، وخبرنا أنه «ابن النهر» الذي ولد على ضفته، وأن أباه جني، ثم مات ذاك الجني ... فتزوجت أم هوميروس معلما كفل الشاعر، ثم مات المعلم أيضا فحل هوميروس محله، وفي إحدى السفرات فقد هوميروس بصره فأطلق عليه هذا الاسم الذي معناه الكفيف.
ويحاول البستاني إثبات شعر الألياذة لهوميروس، ويقدم آراء وجيهة تؤيد ما زعم، أما ناقد الطان الشهير - ديشان - فيقول: الإلياذة والأوديسة هما شركة أدبية.
وينتقل سليمان إلى الكلام على التعريب فيقول إنه «نقل المعاني ورسمها رسما صحيحا ينطبق على لغة النقل ومشرب قرائها»، وهو يرى أن اللغة العربية خلو من الملاحم، ثم يعد رسالة الغفران من الملاحم، ولكن غموض عبارتها وخلوها من الأسلوب الشعري يخرجانها من هذا النطاق.
ويخبرنا الأستاذ في مقدمته أنه بدل التشابيه بمثلها؛ لأن اليونان يشبهون بالخنزير البري من نشبهه نحن بالأسد، ثم تحدث عن الأدب العربي وشعره بما لا حاجة إلى ذكره هنا؛ لأن طلاب اليوم يعرفون أكثره، أما يوم ظهرت الإلياذة فلم يكن لنا شيء من هذا الطراز.
ويفيض سليمان في موضوعه هذا حتى يقسم الشعر إلى أنواع ، ثم يذكر توارد خواطر لهوميروس وامرئ القيس، وغيره من شعرائنا الأقدمين، ولا عجب في ذلك فمتى تساوت البشر جاهلية تساوت تفكيرا.
ويذكر الأستاذ خاصيات الأوزان العربية فيرى أن بحر الخفيف أكثرها ملاءمة للقص والشعر الملحمي. ويقول في بطل الإلياذة إنه كعنترة في حادثته، ثم يقابل بين شعر هوميروس وشعراء العرب في المواقف المتشابهة. وينبئنا أن هوميروس كان لاهوتيا وقد جعل وكده إنصاف المرأة. ولا ينسى - أخيرا - أن يشير إلى أن للأرز ذكرا في الإلياذة، وقد رسم على وشاح هيلانة!
Halaman tidak diketahui