Rum
الروم: في سياستهم، وحضارتهم، ودينهم، وثقافتهم، وصلاتهم بالعرب
Genre-genre
وجلس افسيتاثيوس بطريرك أنطاكية إلى يمين الإمبراطور، وكان قد اشتهر بعلمه ورسائله وتقواه، فافتتح المجمع بكلمة شكر رفعها إلى الإمبراطور وبين فيها فضله على النصارى، وقام قسطنطين فألقى كلمة باللاتينية ترجمت إلى اليونانية أشار فيها إلى جمال الدين المسيحي، مستشهدا ببعض أخبار السيد مؤكدا تعلقه بمشيئة رب السموات. ثم طلب إلى المجتمعين أن يعودوا إلى الكتب ليوحدوا الصفوف، وخرج من المجمع تاركا الأساقفة في خلوة للعمل، فتشاوروا برئاسة أحدهم، ولعله الأسقف هوسيوس صديق الإمبراطور، وظل قسطنطين يتابع أعمالهم عن كثب، وفي الخامس والعشرين من تموز دعاهم إلى حفلة في قصره في نيقوميذية لمناسبة انقضاء عشرين سنة على تسلمه الحكم، فاستقبلهم فيها حرس الإمبراطور مقدمين السلاح.
واستمع الأعضاء إلى شكوى ألكسندروس الإسكندري، ثم إلى موقف آريوس من الثالوث - كما ظهر هذا الموقف في رسائله - فأيد آريوس عشرون أسقفا وخالفه الباقون، وأقر الأعضاء دستور إيمان عدل في المجمع الثاني، فأصبح دستور إيمان المسيحيين أجمعين ولا يزال كذلك. وهو يسند إلى ألكسندروس وأثناسيوس الإسكندريين وهوسيوس الإسباني، ونظر المجمع في مسائل أخرى كمسألة عيد الفصح والمعمودية، وسن عشرين قانونا، أهمها ما تعلق بنظام الكنيسة: فنص القانون الرابع على أن الأسقف الواحد يجب أن يشترك في اختياره جميع أساقفة الأبرشية، فإن كان هذا مستصعبا لضرورة قاهرة أو لبعد المسافة فلا بد من اجتماع ثلاثة معا بعد اشتراك الغائبين في التصويت وموافقتهم كتابة، وحينئذ يعملون الشرطونية، أما تثبيت الإجراءات في كل أبرشية فمنوط بالمتروبوليت.
وجاء في القانون الخامس: «لقد رأينا حسنا أن تعقد مجامع في كل أبرشية مرتين في السنة؛ لكي تبحث أمثال هذه المسائل باجتماع عمومي من جميع أساقفة الأبرشية.» وقضى القانون السادس: «بأن تكون السلطة في مصر وليبية والمدن الخمس لأسقف الإسكندرية؛ لأن هذه العادة مرعية للأسقف الذي في رومة أيضا، وعلى غرار ذلك فليحفظ التقدم للكنائس في أنطاكية وفي الأبرشيات الأخرى.» وجاء في القانون السابع: «أنه جرت العادة والتسليم أن يكون الأسقف الذي في إلية؛ (أي أوروشليم) ذا كرامة، فلتكن له المتبوعية في الكرامة.»
وأيد قسطنطين هذه القرارات، وأمر بوجوب تنفيذها والخضوع لها، ونفى من الأساقفة كل من امتنع عن الموافقة عليها، ونفي الأب آريوس أيضا، ومنح الإكليروس المسيحي والعذارى والأرامل مبالغ محدودة كانت تؤخذ من دخل المدن لا من موازنة الدولة، ووهب الكهنة الضمانات نفسها التي كان يتمتع بها الكهنة الوثنيون، واهتم قسطنطين في هذه الآونة نفسها - ولا سيما السنتين 325 و326 - للضعفاء، فمنع تفريق عائلات الأرقاء عند اقتسام الأراضي، وحرم مطالبة الكولوني بأكثر من طاقتهم، كما حرم مشاهد المصارعة المؤلمة، وأمر بهدم بعض المعابد الوثنية التي اشتهرت بفسقها، ومنها هيكل عشتروت في أفقا لبنان، فقد جاء في ترجمة حياة قسطنطين ليوسيبيوس المؤرخ ما تعريبه: «لما استوى قسطنطين على منصة الملك رقب من سمو عرشه ما نصبه إبليس من الأشراك في فينيقية لصيد النفوس، فوجد من ذلك على هضاب لبنان - في موضع قفر لا تطرقه السابلة - معبدا تحدق به غيضة، وكان المعبد قد أقيم لبعض الأصنام الدنسة يدعى الزهرة يتوارد إليه البغايا وأهل الفجور، فأضحى بذلك أشبه بماخور منه بمعبد ديني، ولم يتجاسر أحد من أهل الفضل أن يدخل إليه ليتحقق صحة ما تناقلته الألسن، بيد أن قسطنطين وقف على حقيقة الأمر فرأى من أخص واجباته أن يقوض أركان ذلك الزون النجس، فأمر عماله بأن يهدموا ذلك المقام ويكسروا أصنامه ويتلفوا ما حمل إليه من الهدايا النفيسة، فأرسلت إلى أفقا فئة من الجند نفذوا أوامر الملك ولم يبقوا ولم يذروا، وكان ذلك في السنة 325. أما سكان أفقا فأمروا بأن يبارحوا مساكنهم فاستوطنوا بعلبك.»
11
القديسة هيلانة
وفي مطلع السنة 326 قام قسطنطين إلى رومة؛ ليحتفل فيها كما احتفل في نيقوميذية بعيده العشرين، وأصدر في الثالث من شباط قانون الزنى، وأردفه في أول نيسان بقانون الخطف والاغتصاب وبقانون زواج اليتيم، ولعله حرم السراري على المتزوجين في هذه الآونة أيضا، ورأت زوجته فاوسطة أن تستغل محافظة زوجها على الآداب والأخلاق فاتهمت كريسبوس ابنه من ضرتها - وكان قد بلغ العشرين من العمر ولمع في ميادين القتال - بمحاولة الاعتداء على عفتها، فأماته والده مسموما، ثم اتهمت هي بدورها بالخيانة وكانت لا تزال وثنية تشابه في صورتها الجانبية والدها مكسيميانوس، وكان قسطنطين يكرهه، فأمر قسطنطين بإماتتها هي أيضا خنقا بحمام ساخن.
وكانت والدته القديسة هيلانة قد استقرت في رومة وتمتعت بلقب أوغوسطة وأثرت ثراء كبيرا، فعزمت في السنة 326 على القيام برحلة إلى فلسطين؛ للتبرك بزيارة الأماكن المقدسة، وغادرت رومة في أواخر الصيف، واتجهت شطر فلسطين بحرا. وكان قسطنطين قد فاوض مكاريوس أسقف أوروشليم في إقامة كنيسة لائقة بالسيد في جلجثة في أوروشليم تكون أفضل الكنائس، فاستحثت القديسة الأسقف على إتمام هذا العمل، فتم البناء في السنة 335، وكان قد سبق للنصارى أن أقاموا في القرن الثالث بناء مثمن الأضلاع والزوايا فوق الكهف الذي ولد فيه السيد في بيت لحم، فأضافت إلى هذا المثمن بازيليقة فخمة، وفعلت مثل هذا عند كهف الصعود. وعند انتهاء هذا القرن الرابع بدأ النصارى يتناقلون خبرا مؤداه: أن القديسة هيلانة، بعد تفتيش دقيق وعناء شديد، وجدت ثلاثة صلبان في جلجثة، وأنها أحبت أن تتعرف إلى صليب السيد منها فلمست بها جسد مريض شاب وانتقت منها ذاك الذي شفى المريض، ولدى عودتها أذابت بعض مسامير الصليب في معدن خوذة قسطنطين الأول والآخر في لجام حصانه، كما أنها وزعت عود الصليب على كنائس عدة.
آريوس ثانية
ولم يتمكن المجمع المسكوني من استئصال بذور الشقاق، فالآريوسيون كانوا كثرا تؤيدهم قسطندية أخت الإمبراطور، ويقول المؤرخ صوزومينوس إن قسطندية أوصت أخاها وهي على فراش الموت بكاهن آريوسي كان قد أصبح معلم ذمتها، وأن هذا الكاهن قدم يوسيبيوس الآريوسي أسقف قيصرية إلى قسطنطين الإمبراطور، فتمكن الأسقف من إقناع الإمبراطور أنه لا فرق بين إيمان آريوس وإيمان المجمع، وأن الإمبراطور أعاد آريوس من منفاه وأرسله في السنة 330 إلى الإسكندرية.
Halaman tidak diketahui