الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
Halaman tidak diketahui
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
Halaman tidak diketahui
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
Halaman tidak diketahui
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
رجوع الموجة
رجوع الموجة
Halaman tidak diketahui
تأليف
مي زيادة
الفصل الأول
كان مساء 8 أكتوبر باردا والجو ملبدا بالغيوم، وعندما أقبل أول الليل أخذت مساكن شارع رامبران تتوارى عن النظر شيئا فشيئا وراء حجب أستار ذلك الظلام الحالك، وكان الهدوء محيطا بالمكان والسكينة محدقة بجهاته الأربع كأنه روضة في قفر.
وإذا بامرأة حديثة السن، حسنة الهيئة، جميلة المنظر، ملتحفة برداء واسع تعبر تلك الطريق بسرعة، وهي تذهب وتأتي، وتصعد وتنزل ناحية الرصيف بين شارع لسبون وشارع كوسل، إلى أن وقفت أخيرا أمام أحد بيوت الشارع الثاني، ونظرت مليا واجهته المشرفة على السكة. لو صادفها أحد من المارين وقتئذ على تلك الحال لما شك في أنها تنتظر شخصا ما، وأن ذلك المكان هو موعد للقائهما، غير أنه لم يكن من سبب لمجيئها سوى مراقبة خيال، خيال فتاة ولدت في ذلك البيت منذ إحدى عشرة سنة، إلا أنها كانت منذ حين رقدت رقادها الأبدي تحت المرمر المحاط بشجيرات الورد الأبيض.
هذا وقد هجم الظلام الحالك بخيله ورجله، حتى إن كثرة المصابيح المتلألئة لم تكن تغني شيئا، فجلست تلك المرأة بالقرب من باب إحدى الحدائق وغاصت في بحر من الأفكار المزعجة، وبعد هنيهة بدأت دموعها الكثيرة تنهل على وجناتها وهي تتأوه وتصعد الزفرات من قلب مجروح، وفي غضون ذلك أرادت أن تترك تلك البقعة التي كثيرا ما تذكرتها أيام سعادتها، وإذ عزمت على مفارقة ذلك المكان سمعت بغتة صوت مركبة في أول شارع كوسل؛ فاستولى عليها رعب شديد واكتنفتها الحيرة من كل جانب، وأخذت ترتجف وهي لا تدري ماذا تعمل من شدة انفعالها، وأوشكت أن تقع على الحضيض، لكن يدا قوية أمسكتها بغتة وهي مطبقة الجفنين كمغمى عليها، واضعة رأسها على تلك الكتف التي تسندها، وفي أثناء ذلك سمعت صوتا كان قد غاب عنها منذ خمس سنوات. - مرغريت!
ففتحت عينيها ونظرت في وجه من ناداها ثم أطبقتهما، وبعد لحظة سمع صوتا من بين شفتيها المصفرتين: ألبير! - مرغريت. مرغريت. أنت هنا؟ ألم تزالي تتذكرين وقد أتيت إلى هنا لتنظري البيت الذي ولدت فيه؟ ثم جعل ألبير يضغط على ساعد مرغريت بشدة، ولم تستطع الجواب، بل كان يصعب عليها التنفس، وبعد هنيهة أجابت بالجهد: نعم جئت، ولكن لا تكلمني بل دعني وشأني.
فدنا منها وهو ممسك بيدها، وهمس في أذنها: من إحدى عشرة سنة يا مرغريت، لو عاشت ابنتنا لكانت بلغت إلى هذا العمر. قال ذلك والزفير يقطع صوته، وكاد يتقطع قلب تلك المسكينة التي بدأت عبراتها تجري على وجنتيها كسيل مدرار. - ابكي يا مرغريت، اندبي ابنتك واندبي حظ أبيها التعس. نعم، أنا هو ذلك الأب السيئ الحظ والد إيڤون، أليف صباك، وشريك حياتك سابقا، وقد نسيت ذلك.
فقاطعته بجرأة قائلة: لا، أنا لم أنس. ثم ظهر على محياها أنها تتذكر كل ما قاسته من العذاب مع ذلك الرجل في غابر الزمان، على أن ألبير تظاهر بأنه لم يسمع كلامها، ثم قال: تعالي نذهب إلى الحديقة؛ إذ إنها خالية في مثل هذه الساعة، ولنأخذ معنا كالسابق ابنتنا إيڤون.
فأذعنت مرغريت طائعة؛ لأنها كانت قد اعتادت الطاعة لهذا الصوت، ولكن في الدقيقة عينها خطر لفكرها كوميض البرق أنها زوجة رجل آخر؛ بيد أنها ظنت ذلك حلما: نعم، هذا هو الشارع، وهذا هو البيت بعينه، وهذه الحديقة نفسها، وألبير بجانبها حسب سابق عهده.
Halaman tidak diketahui
تلك كانت حياتها الماضية، وهذا هو عين الحقيقة، بل كيف تغير كل هذا يا ترى؟ وكانا يسيران في طريقهما صامتين، وهو يخالسها النظر من وقت إلى آخر، يمتع عينه بذلك الوجه الجميل المحبوب الذي يستره برقع شفاف، فكان يخاطب نفسه قائلا: ترى كيف نسيت زوجتي وعلق قلبي بحب امرأة أخرى؟ نعم، إني عشت عدة سنوات بعيدا عن تلك التي كنت أعبدها، ثم إنه شعر بنار شوق تحرقه، وأراد أن يضمها إلى صدره مستغفرا إياها. أما هي، فكانت مضطربة قلقة (كريشة في مهب الريح) لا تعرف ماذا تفتكر وتقول، وعندما وصلا إلى باب الحديقة عادت إلى الوراء وقالت: يجب أن أذهب وحدي، أرجو أن تتركني وشأني. - لا.
فأطاعته ولم تخالف له أمرا، وسارا معا إلى أن وصلا إلى بقعة كثيرة الأشجار خالية، ثم ظهرت لهما عن بعد أرض مخصبة فيها أشجار عظيمة، غير أنها مجردة من أوراقها، وكان هذا المنظر مؤثرا جدا تحت جنح الظلام الحالك. وإذ تأكدت مرغريت أن لا ثالث بينهما ولا رقيب على حركاتهما، اطمأنت قليلا، وأمعنت النظر في وجه ألبير الذي إذ لحظ منها ذلك أطرق ولم ينبس ببنت شفة. - كيف وجدتني؟ أما ترين هيئتي متغيرة؟ - نعم. - هل تقدمت في السن؟ - لا شك في ذلك. - أرى أن الوقوف يتعبني، فلنجلس هنا يا مرغريت.
فاتجها نحو مقعد كان قريبا منهما وجلسا عليه، ثم شرعت مرغريت تحدق في ملامح ذلك الرجل الذي أحبته مدة طويلة؛ فرأته شاحب اللون، ضعيف الجسم، منحط القوى، وعند ذلك مالت إليه كل الميل وأحست بشفقة عظيمة عليه، حتى إن قلبها كاد يذوب حنانا، ولم يكن إلا القليل حتى تذكرت خداعه لها بعد موت ابنتها إيڤون الوحيدة. نعم، قد تمثلت لها تلك الخيانة الفظيعة التي تقشعر منها الأبدان، كيف لا وهي أنها عندما كانت تبكي وتنوح وفي حالة يرثى لها من الأحزان، رأت بين ذراعي زوجها امرأة أخرى هي من أعز صديقاتها، لعمري إنها لأفكار مؤلمة تأبى إلا أن تستقر في المخيلة لتعذب صاحبها تعذيبا، وتكوي فؤاده حينا بعد حين بتذكرات هي أحر من الجمر.
إذ رأى ألبير مرغريت صامتة أحس بما كان يدور في خلدها من الأفكار المزعجة والهواجس المؤلمة، فدنا منها بكل هدوء وأسند رأسه المكشوف إلى كتفها المرتجف، فنظرت إلى شعره الأسود الذي طالما سرحته بيديها، ثم حدقت في صدغيه حيث كانت تظهر عروق زرقاء نحيفة؛ فعند ذلك زاد اضطرابها وهاجت عواطفها، فلم يغب عن ألبير ما شعرت به؛ لأنه كان عارفا حق المعرفة بعظم حنوها وضعفها النسائي، فقال لها بلين: مرغريت، لا تخافي. نعم قد كنت زوجك في الماضي، وهأنذا لم أزل حتى الآن، بل وما دمت حيا أرزق. - لا، لا. - بل نعم، نعم. ثم وقف وأمسك يديها وقال: ذهبت اليوم إلى مدفن ابنتي إيڤون وأتيت بهذا الغصن الصغير من شجرة ورد أبيض بالقرب من ذلك المدفن، وها هو.
فتناولته مرغريت من يده وقبلته بحرقة مرارا، ولثمته تكرارا، ثم استأنف كلامه قائلا: نعم، إن إيڤون كانت تحبنا حبا شديدا لا زيادة بعده لمستزيد. أما مرغريت فلم تستطع أن تجيبه بشيء؛ لأن العبرات كانت تسيل بغزارة على وجنتيها، والزفرات كادت تخنقها، ثم تنفست الصعداء مرارا والعرق يتصبب من وجهها. - آه يا مرغريت، إني من حين فقدت أمي لم أجد أحدا يكلمني عن إيڤون عزيزتي، فهي ماثلة أمام عيني آناء الليل وأطراف النهار، ولا تبرح من بالي لحظة واحدة. - أين تركت صديقتك؟
قالت هذا وهي تضطرب اضطرابا من شدة التأثر. - إن تلك لا علم لي بمهب ريحها، نعم إنها صحبتني مدة سنة تقريبا عندما كنا نجوب البلاد سوية وننتقل من جهة إلى أخرى، ثم افترقنا وذهب كل لشأنه. - ترى أين ذهبت؟ - إني لا أعلم من أمرها شيئا؛ فإن بلاد الله واسعة أرجاؤها. وأما أنا فقد عزمت على أن لا أعود إلى باريس حيث أرى آثار سعادتي الماضية، وقد توفيت والدتي بعد أن استقدمتني إليها، على أني أشكر الله شكرا جزيلا يا مرغريت؛ لأنه قيض لي مرآك. - إني وحقك لم أجن ذنبا، ولم أقترف إثما، ولم أفكر قط في الخيانة، بل أراني لم أزل متسربلة بثوبي العفاف والأمانة. نعم، إني كنت أحبك وأحافظ غاية المحافظة على ذلك الحب؛ بيد أنك خنت وهدمت سعادتك بيدك.
فهز كتفيه وقال: كان يجب أن تسامحيني يا مرغريت ... لم لا تغفرين لي؟ لم لا تسدلين ذيل العفو وتعودين زوجة لي كالأول؟
فأطرقت مرغريت إلى الأرض صامتة لا تحير جوابا، وجرت دموعها على خدها، غير أن قلبها كان يخفق خفوق الغبطة، وبعد هنهية قالت: لقد سامحتك. - لكن سماحك هذا لا يجدي نفعا الآن، ومنذ قليل قلت عندما زرت مدفنها: يا بنيتي الصغيرة الراقدة تحت الثرى، أتصدقين أن أمك قد تركتني؟! فهأنذا أبكيك وحدي طالما بقيت حيا.
فتحركت الشفقة في قلبها ثانية وقالت: لا، بل ابكها معي. - نعم، الآن أبكيها معك، ولكن غدا مع من يجب أن أبكيها؟
أما مرغريت ففكرت بولدها الذي كان ينتظر رجوعها إلى البيت؛ فإذ ذاك كفكفت دموعها بمنديل ونهضت ناظرة إلى الساعة، ثم قالت: لا أرى شيئا.
Halaman tidak diketahui
فأخذ ألبير الساعة ونظر إليها وقال: الوقت منتصف الساعة السابعة. - فيجب علي الانصراف إذا؛ فإن ابني الصغير ... - أنا عارف بوجود ولد لك، وأنا أحبه من كل قلبي، كيف لا وهو أخو إيڤون. إني أستودعك الله الآن، فاذهبي يا مرغريت بحراسته تعالى، ولكن أستحلفك بأن تعودي إلي في الغد. - أعدك بأني أعود. - من كان يحبك منذ عشرة سنوات ويبذل النفس والنفيس في سبيل رضاك، ألست أنا؟ - نعم أنت. - ألم تكوني زوجتي التي أحببتها قبل أن تعرفي رجلا آخر. - نعم. - فلنعد إذا يا عزيزتي إلى ما كنا عليه قبلا من حسن الاتحاد والوئام؛ لنقضي باقي العمر معا في معترك هذه الحياة وانسي الماضي. ومن ذا الذي ما ساء قط! أما أنا فإني أعتبرك قرينتي كالسابق، ولا أريد أن أنفصل عنك ولا أن أعيش بدونك. فأناشدك الله أن تعودي إلي؛ فإن العود أحمد، أقسمي لي إذا بحبك لإيڤون بأن ترجعي بدون إبطاء.
أإلى هذا الحد تصل بإلحاحك؟ - نعم؛ إذ لم يبق لي من طاقة على الاصطبار، ولا أقدر على احتمال بعادك عني إلى أكثر من غد. نعم يا مرغريت، وحقك إني أذوب ضجرا في وحدتي، وقد سئمت نفسي العيشة في هذه الحياة الدنيا. عودي إلي ولا تخافي على ولدك؛ فإن والده يعتني به، وأمك تعوله فلا بأس عليه، أما أنا فإني أراني وحيدا في تعاستي في هذه الدنيا؛ إذ لا معين لي ولا أنيس يسليني في وحدتي، فأسرعي بالرجوع إن كنت تحبين إيڤون وتعزيني (ثم حاول أن يأخذها بين ذراعيه). - ثق بكلامي وتيقن أني أرجع على شرط أن لا تتلفظ بشيء مما ذكرته الآن. - سأطيعك بلا سؤال. - وأنا سأرجع بدون ريب، وأما الآن فلا بد من ذهابي على جناح السرعة لمشاهدة ابني الذي قد مل من الانتظار. - اذهبي الآن بحراسة الله، وغدا ترينني أنتظرك، وبعد غد، وكل وقت في هذا المكان؛ فإني لا أتعداه.
فتركته مرغريت وسارت في سبيلها وكل جوارحه أنظار تشيعها. أما هي فبعد أن ابتعدت عنه قليلا التفتت، فرأته لم يبرح مكانه وقد رفع يده مسلما، ثم ركبت أول عربة وجدتها وذهبت تنهب الأرض حتى توارت عن النظر.
الفصل الثاني
انتهت مرغريت إلى البيت وقرعت الجرس ففتح، ورأت زوجها أمامها وهو طلق المحيا، باسم الشفتين، ولما رآها أسرع إليها وصافحها وأمارات الحب ظاهرة على وجهه، ثم خاطبها بحنو قائلا: لقد تأخرت يا عزيزتي، فماذا جرى لك اليوم؟
فأجابته غير مكترثة به: لم يجر لي من شيء. قالت هذا وإذا بصوت أمها يناديها: أسرعي يا ابنتي أسرعي ؛ فإن صغيرك يبكي ولا يريد أن ينام بدونك. فقالت : هأنذا آتية. ثم هرولت إلى حجرتها وأشعلت فيها المصباح، ثم وقفت جامدة حائرة في وسط الحجرة لا تعي على شيء، مرتبطة اليدين، حزينة النفس، وكأني بها ترى ذاتها أنها غريبة في هذا البيت. وكان زوجها قد تبعها، فلما رآها على هذه الحال دنا منها ومد يده إلى رأسها نازعا الدبابيس من شعرها، ثم رفع القبعة عنه وقال: أسرعي إلى الصغير يا حبيبتي؛ فإنه يبكي منذ وقت غير وجيز. - ويلاه! هل هو مريض؟ - لا، بل هو في غاية الصحة، لكنه قد اعتاد أن يرى أمه كل يوم قبل هذا الوقت؛ فخفي إليه، وبعد أن تناغيه قليلا ينام لا محالة. فأسرعت مرغريت إلى حجرة ابنها، وأطفأ زوجها المصباح، ثم دخل مكتبه، وجعل يقرأ في كتاب كان قد طواه عند دخول مرغريت، وبعد مضي نصف ساعة خرجت تتبعها أمها على الأثر، فسألها زوجها: هل نام الصغير؟
فقالت والدتها: نعم نام. - فإذا يلزم أن نتناول طعام العشاء.
وإذ جلس الثلاثة على المائدة شعرت مرغريت ببعض التعزية عندما رأت زوجها الحقيقي تلقاءها، وتذكرت ألبير ذلك الخداع الذي عذبها ونغص عيشها، فقابلت بين الأول والثاني، فرأت فرقا عظيما بين معاملة هذا وذاك؛ فإن زوجها الثاني كثيرا ما أحبها في كل مرحلة من مراحل هذه الحياة، وخصوصا عندما كان يراها محتاجة، فإنه مد لها يد المساعدة، واتخذها تحت ظل حمايته لكي ينسيها آلامها السالفة، ويبدل غمومها وهمومها بالأفراح؛ ولذلك شعرت بميل إليه فائق العادة، ورأت أنها محتاجة إلى أن تخبره بواقعة الحال، أي بما جرى لها في يومها، غير أن وجود والدتها مدام موستل منعها عن الكلام؛ فأبقت ذلك إلى أول فرصة تسنح لها، إلا أنها لم تستطع كتمان عواطفها وإخفاء إحساساتها، ولم تمض سوى هنيهة حتى تفجرت ينابيع دموعها، وسالت أنهار دموعها على خديها، وشعرت بضيق صدر ضاغط على مجرى النفس كاد يخنقها، وأخذت تئن أنين البائس الحزين. فحينئذ نهض روجر عن كرسيه مرتعبا مضطربا، وأوقفها في مكانها وأسندها على ذراعه، ثم ذهب بها إلى حجرته حيث أجلسها على مقعد هناك، وفي غضون ذلك هرولت مدام موستل والطعام في فيها وقالت: ما الخبر؟ وأي خطب جرى؟ - لا تخافي يا حماتي، دعيني أعالجها وحدي، أما أنت فاذهبي إلى مزاولة شئونك. - نعم، في مثل هذا اليوم ولدت ابنتها إيڤون، فيظهر أنها تذكرت ذلك فما قدرت - والحالة هذه - على امتلاك عواطفها. - لم يغرب عني ذلك، وقد أدركت كل هذا من ملامح وجهها، وظهر لي جليا أنها تفتكر بابنتها إيڤون. قال هذا وشرع يداوي امرأته هذه بعناية كلية واعتناء لا زيادة بعده لمستزيد، وهو ينشقها المنعشات على اختلاف أنواعها وضروبها، وكان طبيبا ماهرا في صناعة الطب، ولم يكن إلا بضع دقائق حتى عادت إليها قواها وفتحت عينيها كأنها قد انتبهت من سبات عميق، وقالت: يا روجر، اذهب وأتم طعامك، وأنت يا والدتي اصحبيه إلى المائدة واستكملي غداءك، فما من حاجة لي بكما بعد.
فأجابت والدتها: لا أستطيع أن آكل لقمة واحدة؛ لأن معدتي في اضطراب شديد! - تعالي يا حماتي معي إلى المائدة، وأنت يا عزيزتي مرغريت إذا شعرت بتعب جديد فما عليك إلا أن تقرعي جرس الاستدعاء لأحضر بسرعة. - لا شك في ذلك.
فهدأ روع مرغريت وجمعت قواها لأن المكان خلا لها، ثم بدأت ثانية تعيد في فكرها ذكر ماضيها وما حدث لها في أدوار حياتها، وما هي إلا لحظة حتى أغمضت جفنيها، فتمثل حينئذ شخص ألبير الحلو أمام ناظريها، فأمعنت النظر طويلا في صباحة ذلك الوجه المنير، والجبهة العالية البيضاء، كما أنها تأملت في ذلك القوام المعتدل الذي لا يضاهيه قوام، فضلا عن رنات صوته اللذيذة، إلى غير ذلك من الصفات التي كانت تأخذ بمجامع القلوب. فعند ذلك، عضت على أناملها ندما وكادت تغيب عن الرشد، ثم عادت إلى واجباتها وفكرت في شخص الدكتور روجر الذي كان قوي البنية، عريض المنكبين، أسمر اللون، ذا لحية سوداء طويلة، وعينين براقتين، تلوح على محياه طهارة القلب وسلامة النية وحرية الضمير.
Halaman tidak diketahui
قد علم مما تقدم أن مرغريت تحب ابن عمها روجر، لكن شتان ما بين الحبين الأول والثاني، وقد قال الشاعر:
نزه فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
نعم، إن حبها وعشقها وميلها وهواها وقلبها، كل ذلك كانت قدمته إلى ألبير الذي عرفته أولا، ومعلوم أن الحب كلما عظم ازدادت الغيرة. على أن مرغريت عندما رأت ما كان من أمر زوجها ألبير مع صديقتها بلانش، كبر عليها وصعب احتماله، فأسرعت إلى أمها وقصت عليها الخبر، مظهرة لها عظيم حزنها وشديد كدرها، غير أن هذه لم تكن ذات تعقل ورزانة وحكمة لتسكين جأشها وتهدئة روعها، فهاجت وماجت لدى سماعها ذلك، وانتقضت انتفاضا وقالت: تبا له من رجل دنيء، ووغد لئيم، عادم الشرف، فاقد الإحساسات الإنسانية، أسألك رباه أن تخلص ابنتي من هذا الوحش الضاري!
ولم تكتف العجوز بهذا الكلام المهيج العواطف دفعة، بل كانت تتلفظ به مرارا وتراجعه تكرارا أمام ابنتها، مظهرة لها فظاعة عمل زوجها وخيانته التي لا يطاق احتمالها، ولم تزل على هذا ومثله من اغتياب ألبير وتخطئته بأسمج الألفاظ والتعابير، حتى بدأت مرغريت تشعر بأن مراجل العداوة والحقد تغلي في أحشائها، وصارت تكره ألبير كرها عظيما، وشعرت بأنها لا تقدر أن تساكنه ولا أن تعيش معه؛ فعزمت على طلب الطلاق. على أنها عندما أعلنت ذلك لوالدتها قالت لها: هذا الصواب بعينه، كيف لا، وإن الزوج هو سيئ المبادئ فاسد السيرة، فلا تطيب السكنى معه بوجه من الوجوه؟!
أما ألبير، فإنه سمع في إحدى المرات الحديث الذي كان يدور بين الأم وابنتها بهذا الخصوص، وعندما طرقت مسمعيه كلمة «طلاق» أسرع طالبا مواجهة مرغريت، فأبت مقابلته كل الإباء، ثم كتب لها بعد ذلك عدة رسائل، غير أنها أعادتها إليه على الأثر مختومة كما كانت. فاستعان ببعض الأشخاص من ذوي الرزانة والرصانة والمعرفة التامة بحقائق الأمور ليحادثوها في الأمر، فرفضت مقابلتهم، وأبت أن تسمع كلام وسيط أو حديث رسول في هذا الشأن. وبعد أن استعمل كل الوسائط الفعالة لإصلاح ذات البين بينه وبينها ولم تفد شيئا بل ذهبت أدراج الرياح، لم يشأ أن يحتقرها ولا أن يعاملها معاملة سوء، فعزم أخيرا على أن لا يعود يفاتحها بهذا الأمر، بل يدعها وشأنها تاركا حبلها على غاربها.
هذا، وبعد أن تم أمر الطلاق بين الزوجين، شعرت مرغريت بوخز الضمير المتعب وضيق في صدرها، وما ذلك إلا لأنها كانت تحب ألبير حبا لا زيادة بعده، وكانت تبكي بكاء مرا وتندب حظها حينما كان يخطر في بالها أنها قد فارقته فراقا لا اتحاد بعده، ولم يجر ذلك إلا بمجرد إرادتها وقبولها التام. على أن والدتها كانت تبذل أقصى الجهد من جهة ثانية بإقناعها بأن تتزوج ابن عمها روجر، الذي كان يحبها حبا شديدا، غير أن مرغريت لم تعبأ بهذا الكلام في أول الأمر، وحسبته أمرا ساقطا لا يلزم أن يذكر بشفة، ولكن نظرا لما رأته من حنو ابن عمها روجر، وحسن أمانته وشفقته، أخذت تفكر في هذا الأمر من وقت إلى آخر، إلى أن أضحى شغلا لها صباح مساء، وكثيرا ما كان هذا الفكر يقلقها في غدواتها وروحاتها، وإذ لم تر مناصا من هذه الأفكار المتعبة والهواجس المضنية، اضطرت أن ترضى الاقتران بابن عمها روجر، على أنها عزمت عزما أكيدا ثابتا على أن تمحو من فكرها اسم ألبير، واسم كل شخص يذكرها به.
أما روجر فقصد اتخاذ كل الوسائط الفعالة لكي يجعلها سعيدة ذات عيش رغد وقلب مطمئن؛ لتنسى ذكر تلك الآلام الماضية. وكان يقرأ غمومها وسائر أحزانها بل وأعماق أفكارها في عينيها وملامح محياها، وكان يدل على كل هذا إشاراتها وحركاتها. وقد فهم روجر في ذلك المساء أن مرغريت تتعذب عذابا مبرحا بتذكر أمر محزن.
كان يجري ذلك في مخيلة مرغريت، وأخيرا طرق أذنيها صوت أمها تخاطب روجر في قاعة الطعام. - إني في قلق شديد؛ فدعني أذهب إليها. - لا ضرورة لذهابك، بل الزمي مكانك. - إنها وحدها، فلا شك أنها تضجر. - دعيها منفردة؛ إن الوحدة تفيدها في هذا الوقت. - على أنها عصبية المزاج! - لا عجب في ذلك؛ فإنها قد ذاقت من أنواع العذاب في ما مضى من حياتها ألوانا. - تبا له من قاس!
فأنكر الدكتور روجر عليها ذلك، وقال لها بلطف: أرجو يا حماتي أن لا تعودي إلى ذكره. - أهلك الله ألبير الذي كان سبب شقائها وعذابها. - بل الأولى بك السكوت؛ لأنها إذا سمعت شيئا من هذا فإنه يزيدها آلاما. - لا أستطيع أن أسكت. - إن كان الأمر كما تقولين، فأنا أشير عليك بالنوم العاجل كهذه.
Halaman tidak diketahui
فأطرقت مدام موستل ولم تجب بكلمة. ولم يكن إلا القليل حتى نهضا وذهبا إلى حجرة مرغريت، ثم دنت منها والدتها وودعتها بقبلة في جبينها قبل أن تذهب إلى سريرها، أما مرغريت فأشارت عليها بالبقاء ففعلت. ثم سألها روجر قائلا: كيف أنت الآن يا عزيزتي مرغريت؟ - أحسن قليلا، وإني أشكرك شكرا جزيلا، ولم أزل أحس ببعض التعب. - لا بأس عليك، فالزمي سريرك وخففي عنك قلق الفكر واضطراب البال؛ فإنهما يضنيان الجسم كما لا يخفى عليك.
ثم جلس واشتغل بمطالعة الجرائد، وكان حينا بعد حين يخالسها النظر، وأما هي فكانت تتناوم وليست بنائمة.
الفصل الثالث
عند انبلاج صباح اليوم الثاني نهضت مرغريت من فراشها، وسألت عن زوجها، فأجيبت بأنه خرج منذ ساعتين، فذهبت إلى غرفة طفلها وحملته على ذراعيها، وأخذت تكثر من تقبيله وملاعبته وضمه إلى صدرها، كأنها لم تره منذ أشهر طويلة. وكان وجود صغيرها مكسيم بين ذراعيها أحسن واسطة لأن تنسى ألبير وتسلوه، وبينما هي تناغي صغيرها وتلثمه، أقسمت له بأنها قد محت من فكرها اسم ألبير، فهي مزمعة أن لا تعود إلى تذكره في حال من الأحوال، ولا يصعب عليها ذلك بل يكون سهلا لديها بوجود طفلها المحبوب الذي تبذل دونه النفس والنفيس، فهي مصممة أن لا تحب سوى طفلها هذا ووالده الدكتور روجر. وكان ذلك الطفل كحمامة وديعة حين تمس شفتاه ثغرها تشعر بلذة خارقة العادة، وتحن إليه حنانا لا غاية بعده، وهو يلغو تارة ويصرخ أخرى، وحينا يصفق وحينا يبش في وجه أمه ثم يقرع أديم الأرض برجليه فرحا.
ثم أتى الدكتور روجر فوجد زوجته وابنه على هذه الحالة من الانشراح والسرور، فوقف هنيهة عند باب الحجرة مراقبا متأملا حركاتهما اللطيفة، مصغيا إلى حديثهما الذي حسن وقعه في أذنيه، ولم يكن قد شعر من قبل بمثل هذه اللذة. وكانت عيناه ترمقانهما بحنو لا يوصف، وفؤاده يرقص من هزة الطرب على رخيم صوتهما، وما عتم أن رمى بنفسه عليهما، وتناول الطفل بذراعه وضم أمه بالأخرى سائلا عن صحتها الغالية باهتمام عظيم، ثم قال: أريد أن أريك شيئا جديدا أيتها العزيزة، فأوجه إليه حسن التفاتك. وعلى أثر قوله هذا ضرب جرس الاستدعاء، فدخل أحد الخدام فأشار إليه الدكتور بأن يأخذ الطفل مكسيم إلى مرضعه، ثم خرج إلى صحن الدار وأتى بباقة أزهار بيضاء كبيرة ووضعها بين يدي مرغريت قائلا: عزيزتي، قد آليت على نفسي أن أزور مدفن إيڤون في هذا اليوم لأضع عليه هذه الأزهار النقية، وقد خطر لي هذا أمس، وأرغب في أن تصحبيني في هذه الزيارة، فماذا ترين؟
فرمقته مرغريت بنظرة طويلة كانت تبدو في خلالها على صفحات محياها عبارات الشكر والامتنان؛ لأن فكر روجر هذا قد سرها سرورا لا يوصف، ووقع من نفسها أعذب موقع، ثم أطرقت وعلامات الابتهاج وانشراح الصدر بادية على وجهها. - ماذا ترين يا مهجتي، ألم يحل ذلك في عينيك؟ دعي عنك التأثر، واتركي الانفعالات النفسانية الشديدة الأضرار بالصحة، ولا شيء يحل محل الصحة كما لا يغرب عنك.
سارا في الشارع الموصل إلى المقبرة ويد مرغريت بيد زوجها، ولم ينبسا ببنت شفة في أثناء سيرهما هذا، وعندما قربا من المدفن أسرعت في مشيتها اشتياقا وحنينا للراقدة فيه، وما وقع نظرها عليه حتى هرولت بسرعة شديدة وجثت على ركبتيها خائرة القوى، منكسرة القلب، حزينة النفس، دامعة العين، غارقة في بحر من الأحزان.
وبعد ذلك حانت التفاتة من روجر إلى ضريح إيڤون فرآه مكسوا بأنواع الزهر المختلفة الألوان والأشكال، فوضع باقته فوقها بوافر الاحترام، ولحظ بين تلك الورود الذابلة إكليلا وباقات منها خضراء حديثة الوضع، فتأكد أن مرغريت هي التي أتت بها بالأمس، فقال لها: لماذا لا تخبرينني حينما تأتين إلى هنا؟ نعم، الآن فهمت جليا سبب دموعك وقلق أفكارك مساء أمس!
أما مرغريت فكانت غائبة عن رشدها، لا تسمع ولا تفهم ما يقال لها، وهي ذارفة الدموع، باكية نائحة راثية فلذة كبدها إيڤون بألفاظ تفتت الأكباد وتلين الصخر الأصم، مخاطبة إيڤون كأنها في عالم الأحياء بين يديها، ثم تنظر حينا إلى الأزهار التي على المدفن وتلمسها بأناملها، ثم تقبل بحرقة شديدة تلك التي أتى بها ألبير كأنها ذخيرة منه.
فعلى هذا الضريح تذكرت مرغريت في ذلك الوقت حبيبين لها تفديهما بروحها: ألبير وإيڤون. نعم، إنها لم تحب أحدا في ماضي حياتها كما أحبتهما، وقد بدا لها أن موت ألبير - ولو كانت منفصلة عنه - أشد عليها من موت إيڤون.
Halaman tidak diketahui
فيا أيها الدهر الخئون الغدار، لم جمعت قواك وبذلت جهدك في تفريق شمل الأحباب وتشتيت الأصحاب؟ لم هذا الجور أيها الزمان الظالم؟ بل كيف يسوغ لك أيتها الطبيعة إصدار هذا الحكم المخالف كل عدالة على خط مستقيم بتشتيت هذه الأسرة الصغيرة؟
وأما أنت أيها الحب القوي الجبار، ترى بأي عبارات أكلمك؟ وبأي لسان أخاطبك؟ بل أي ألفاظ أسوقها إليك!؟ لعمري إنك لأنت الملك العظيم الاقتدار، أنت المستبد بالحكم على شعبك الكثير، لم أيها الحب لا تصد هجمات الكون عن عبادك، وتمنع الإيذاء عن آلك والتابعين شرعك ومرادك؟
لم لم تدفع أيها الحب عن هؤلاء الثلاثة نقمات غضب العالم والدهر والزمان والسماء والأرض والعناصر؟ مع أنك أيها الحب على كل شيء قادر! لعمري إنه لم يكن من العدل أن تسمح للطبيعة والأحوال أن تكدر صفاء عيش من اتبعوا شريعتك. كيف يجوز أيها الحب أن تدع الموت والافتراق يدخلان بيوت من يعبدونك ويحافظون كل المحافظة على اتباع سننك؟
ظلت مرغريت جاثية زمنا طويلا وهي غائصة في بحر من التأملات المحزنة، لكنها تصورت على حين بغتة شخص إيڤون منتصبا أمامها، فهتفت: ابنتي المحبوبة، هلمي إلى داخل قلبي، تعالي أقيمي في حضن أمك الحزينة التي لا تنساك ولا يطيب لها عيش بعدك. سلام عليك وألف تحية يا ابنتي التي أذوب حبا لدى ذكر اسمك العذب المستحب، سلام على عينيك المطبقتين حتى يوم النشور، سلام على شفتيك الباردتين، أين أنت الآن يا ولدي إيڤون؟ عند من تسكنين؟ ومع من من الملائكة تلعبين؟
بل سلام على روحك الطاهرة التي لا شك أنها تتنعم بذلك الفرح الدائم! لكن أنى لجسمك المتنعم أن يحتمل السكنى مع الديدان، ويطيق ظلمة القبور؟ نعم نعم، قد تلاشى جمالك، واضمحل حسنك، وذبل ورد خديك، وأضحت أعضاؤك رمما بالية، وصرت أثرا بعد عين، فوا لوعتاه ووا حسرتاه! لم لا تسرع أيها الموت وتأخذني إلى فلذة كبدي إيڤون؟ تعال ولا تبطئ.
وفي غضون ذلك نظر روجر إلى مرغريت فكاد قلبه يتمزق، وخصوصا عندما رأى جسمها ملقى على الحضيض جثة لا حراك بها، فدنا منها ومسك يدها وأنهضها بحنو قائلا لها: انهضي أيتها الحبيبة الحزينة، فقد آن لنا أن نذهب. فوقفت وقد أودعت ذلك المكان التنهدات والزفرات التي يرق لها الجلمود، ثم سارت وهي مستندة إلى ذراعه. أما هو فعندما رأى أن الحزن آخذ منها مأخذه، شرع يعزيها ويقول لها: كفكفي دموعك، وافتكري بمكسيم ولدك الجميل المحبوب، تذكري كلماته اللطيفة، افطني في تلك القبلات الحلوة اللذيذة، فقالت بصوت خفي: نعم، نعم. بعد أن كادت تخنقها العبرات، ثم نشفت دموعها وهي صامتة. ذلك ولم يزل روجر يردد على مسامعها آيات حبه لها، إلى غير ذلك من العبارات التي تجعلها تسلو إيڤون، ثم قال لها: إني أبذل النفس والنفيس في سبيل رضاك يا عزيزتي؛ لأنسيك ذكر عذاباتك الماضية وما تقاسينه من فراق إيڤون. - لا أقدر أن أنساها. - أعرف ذلك، ولكن ما قولك إذا رزقت إيڤون أخرى؟
فابتسمت عند ذكر ذلك على ما بها من الحزن والغم.
الفصل الرابع
وعندما وصلا إلى سانت أوغستان قالت له: أشكرك يا روجر شكرا جزيلا. - بإذن الله سأشاهدك مساء في أتم صحة وأنعم بال.
قال هذا وذهب في طريق آخر لعيادة مرضاه، وكان النهار صحوا مع أن السحب تحجب السماء، وبينما كانت مرغريت سائرة تذكرت عندما سمعت الساعة تضرب أنها عاهدت ألبير بالمقابلة في مثل هذا الوقت بالحديقة المعلومة، فوقفت تناجي نفسها وقد حارت في أمرها ولم تدر ما تعمل، على أنها كانت متيقنة نيل عزاء عظيم بقربه لا سبيل للحصول عليه بسواه؛ لأن الحديث بينهما سيكون في إيڤون. ثم قالت في نفسها: لا مانع يصدني عن الذهاب إليه؛ فهو وحيد في هذه الدنيا لا أنيس له ولا تعزية، فلا يمكنني أن أخلف وعدي، بل لا بد من الذهاب إليه الآن على جناح السرعة، قالت هذا وسارت ووجهتها موعد اللقاء، ولما بلغت باب الحديقة رجعت القهقرى كأنها ندمت على مجيئها، ولم تزل على هذه الحال مترددة، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، إلى أن عزمت أخيرا على الدخول، فتوغلت بين تلك الأشجار الملتفة بقدم ثابتة وعزم أكيد، حتى انتهت إلى الموضع المقصود، فوجدته جالسا ينتظرها على أحر من نار الغضا، وعندما لاحت له خف لملاقاتها، ثم صافحها وقبل شعر رأسها، فاضطربت وتملصت من يده، فاعتذر وقال: لا بأس، سامحيني يا مرغريت؛ فإني تعيس! - يظهر لي ذلك.
Halaman tidak diketahui
ثم ضغط على يدها بعد أن سكت طويلا وقال: إني تعب في هذه الحياة الدنيا، فلا يمكنني قط احتمال هذه المعيشة. نعم، لن تكوني قرينة لي فيما بعد فإن سعادتي قد انتهت كما يظهر لي، ومالت شمس الهناء والصفاء إلى المغيب، وأضحت التعاسة أليفي، والشقاء سميري، والعذاب المبرح ألزم إلي من ظلي، وذلك من يوم انفصالك عني، فمن كانت حالته هذه فموته خير له؟ نعم يا مرغريت، إنك ستكونين نظيري في التعاسة جزاء عملك هذا، ومن يعش ير. - أنا لا أكون كذلك لأني لا أستحق. - كنت معي أسعد حظا ولا يمكنك إنكار هذا؛ لأنك قد أقررت بما أقول مرارا عديدة، ولا يقوم الإنكار بعد الإقرار.
نعم، قد قضينا معا أياما ما كان أحلاها وأشهاها، ولم يبق سوى أن نتمناها! - أنا لا أنكر ذلك ، إنما كنت أرى أني سعيدة وأنت تحبني. - أنا وحقك قد أحببتك دائما، ولم أفتر عن حبك قط من عهد معرفتي بك، فكوني إذا على ثقة من هذا؛ لأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه. - لو كنت تحبني لما مالت نفسك إلى ارتكاب الخيانة ومخالفة شروط المحبة. - رأيتك أليفة الأحزان والأشجان على فقد إيڤون، تنوحين وتعولين آناء الليل وأطراف النهار، وهذا مخالف لطبيعة الرجل على خط مستقيم، وقد سئمت نفسي طول البكاء والأنين؛ فجرى ما جرى على غير إرادة تامة مني.
وفي غضون ذلك كانت مرغريت صامتة تفكر بمعاملة روجر لها، وكيف أنه وقف حياته وأوقاته وأثمن ما بين يديه لأجل مرضاتها وسعادتها، مع أن ألبير هذا قد ذاقت في أيامه كئوس العذاب أشكالا وألوانا، ويصعب عليها أن تنسى كل ذلك، ثم رفعت رأسها وقالت: قد أتممت وعدي اليوم وأتيت إلى هنا؛ لأني أقسمت بابنتي إيڤون، لكني لن أعود بالمستقبل إلى ذلك، وهأنذا أستودعك الله. قالت هذا وهمت بالانصراف. - أعيريني أيضا نظرة واحدة، أما آخر كلامي معك فهو أني كما قلت لك: إذا شئت أن تريني، فأنا في كل مساء هنا، وإذا أردت يوما ما أن تري رسم إيڤون ... - رسم إيڤون؟! - نعم. - وأين هذا الرسم؟ - عندي، وأما مكان سكناي فهو بيت والدتي القديم، حيث لا يأتي إلي أحد، فتعالي يا مرغريت هلمي وانظري صورة ابنتك إيڤون، والآن أستودعك الله.
ثم ذهب لا يلوي على شيء، أما مرغريت فهمت أن تتبعه، لكن قواها لم تطاوعها، وجلست على مقعد هناك وأجهشت بالبكاء لائمة نفسها على قساوتها في معاملة ألبير بالماضي إلى هذه الدرجة، وكيف أنها طلبت الطلاق واتخذت روجر قريبا لها فيما بعد، كل ذلك كان يجول بفكرها، ولو لم تكن مرتبطة بسنة الزواج ثانية، لعادت إلى ألبير لتقضي معه باقي حياتها.
الفصل الخامس
إن مرغريت لم تفتكر منذ ذلك اليوم بألبير إلا نادرا، وقليلا ما كان يخطر في بالها، وكانت تستخدم كل الوسائط لتسلوه ولا تبالي به، وقد أخذت تزداد اهتماما وتعتني بنوع خاص بإرضاء زوجها الذي لم يأل جهدا في تكثير الأسباب لإسعادها في شئون هذه الحياة، وكانت تقضي أكثر أوقاتها في ملاعبة طفلها وملاحظة أمور بيتها.
وفي صباح أحد الأيام من شهر نوفمبر خرجت المرضع مع مكسيم حسب العادة للتنزه، لكنها لم ترجع في الوقت المعين لرجوعها، بل تأخرت نصف ساعة تقريبا، فقلقت مرغريت من هذا التأخر، واضطرب بلبالها، وأخذت تحسب ألف حساب، فقصد روجر أن يذهب بنفسه للبحث عنهما لأجل تسكين روعها؛ لأنها كانت منحرفة الصحة منذ أيام، وهي تتأثر من أقل انزعاج. وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث بهذا الموضوع، إذا بالمرضع حاملة مكسيم على ذراعيها وهي تلهث تعبا؛ لأنها كانت تمشي بسرعة، فقالت لها مرغريت: قد قلت لك غير مرة أن لا تتأخري في الرجوع عن الوقت المعين لك، ومع ذلك فقد تأخرت اليوم نصف ساعة فاشتغل بالنا، فما سبب تأخرك هذا؟ - نسيت ساعتي هنا يا سيدتي، فأرجو منك المعذرة هذه المرة، وفضلا عن ذلك أني صادفت رجلا في الطريق استوقفني بسبب ملاعبته مكسيم، وقد ظهر لي أنه يحب الأطفال كثيرا. - ومن هو هذا الرجل؟ وتبادر إلى ذهن مرغريت في الحال أنه هو ألبير، فاكفهر وجهها. فقال لها روجر: لا تعكري صفاء مزاجك يا عزيزتي. ثم قال للمرضع: وأنت من صادفك بالطريق؟ - لقيت رجلا لابسا ثياب حداد، وهو كثيرا ما يلاعب الأولاد الصغار ويلاطفهم، وقد سألني بنوع خصوصي عن عمر مكسيم وأحواله، وأظن أنه فاقد ابنا له! - مهما كانت حالته فلا يلزم أن تكلمي أحدا بالطريق من الآن فصاعدا، لا سيما الذين لا تعرفينهم. - أنا لا أكلم أحدا حتى الذي أعرفه، ولكن هذا الرجل هو الذي استوقفني وتكلم معي، وبدأ يلاعب الطفل مظهرا له سائر أنواع الملاطفة، فأراني والحالة هذه لم أقترف إثما ولم أجن ذنبا. ثم خرجت مقطبة الوجه. - لا أهمية لتأخرها هذا يا عزيزتي مرغريت، وكثيرا ما يحدث ذلك في كل زمان ومكان، ولا بد من أن يكون كلامها صحيحا، وأن ذلك الرجل توفي له حديثا ولد من عمر مكسيم. - أفهم كل هذا، ولكن قصدي أن لا تكلم أحدا بالمستقبل؛ لأن الآداب توجب على الإنسان - ولا سيما المرأة - أن تكون في غاية الاحتشام كما لا يخفى عليك. - لا فض فوك ونعم الرأي رأيك. ها إني أراك قد تعافيت من الزكام وملكت تمام الصحة التي هي أغلى من كنوز الأرض عندي، فإذا كان الجو نهار غد صافيا، فلا بد من الخروج للتنزه. وفي أثناء ذلك دخل الخادم وبيده رسالة برقية باسم روجر يطلب بها مرسلها من الدكتور روجر الاهتمام ببعض الشئون، فخرج على الفور، وعلى أثر ذلك دخلت المرضع إلى قاعة الطعام وهي لم تزل مقطبة الوجه متمتمة، فأجلست الطفل بالقرب من أمه وأحضرت له الطعام قائلة في نفسها: يظهر أنه لا ثقة لهم بي، فأي شيء ارتكبت من سوء الأدب يا ترى؟ - صادفت رجلا بالطريق، فسألني باهتمام عن عمر الولد، وبما أن الآداب تقضي علي بمجاوبته جاوبته، ولا أراني مخطئة في ذلك. - ما مضى قد مضى، دعينا من هذه القصة. الآن اذهبي لإتمام شغلك كما كنت أفهمتك.
وكانت يد مرغريت تنتفض انتفاض العصفور بلله المطر عندما كانت تلقم الصغير؛ لأنها فهمت من كلام المرضع ووصفها بأن الرجل هو ألبير بعينه، فغلت مراجل الشوق والهيام في قلبها، وتساقطت دموعها الغزيرة، وحنت إلى ألبير حنين الظمآن إلى الماء والعليل إلى الشفاء، ثم ضمت ولدها إلى صدرها وانهالت عليه باللثم والتقبيل أكثر من عادتها.
الفصل السادس
إن حال مرغريت قد تغيرت تغيرا كليا مذ أخبرتها المرضع بأن رجلا صادفها في الطريق، وعادت لا تذوق الراحة ولا طعم الكرى؛ لأن ذكر ألبير لازمها ملازمة الظل، وفي أكثر الأيام كانت تخرج للتنزه مع المرضع ومكسيم على أمل أن تصادف بغيتها وغاية غاياتها، غير أنها لم تجد له عينا ولا أثرا، مع أنها كانت تكثر من الترداد إلى الحديقة المذكورة. وفي ذات يوم خطر في بالها - بعد أن عيل صبرها - تسأل المرضع: ألم تزل تصادف الرجل المذكور؟ فأجابتها بأنفة: نعم، أجده مرارا لكني كل مرة ألمحه عن بعد أسير في طريق آخر حتى لا ألتقي به، ولولا ذلك لكنت حضرتك تقولين إني أنا التي أفتش عنه لأستميله إلي. قلت - والشيء بالشيء يذكر - إن اللواتي يرمن استمالته إليهن كثيرات من ذوات الجاه والوجاهة والجمال الرائع، ولعمري إني لا أصلح أن أكون خادمة عندهن، ويظهر لي أن الرجل جدير بالاعتبار، حري بأن يكون من رجال الأعمال المهمة، ولا يخطئ ظني لأنا نرى غالبا أن المنظر دليل على المخبر، ولكن يا ليت صحته أحسن منها الآن؛ فإنه ضئيل الجسم نحيفه.
Halaman tidak diketahui
كانت تقول ذلك وهي تزعم بأنها تعرف الفراسة وقراءة الأفكار؛ إذ إنها لم تصف الرجل وما هو مفطور عليه من وفرة ذكائها وحسن إدراكها، وكانت تنتظر تعجبا وعلامة استحسان من سيدتها مرغريت، لكن هذه ظلت صامتة لا تنطق بكلمة، ولا تبدي إشارة سلب ولا إيجاب، على أن ما فاهت به المرضع كان يخرق فؤادها كسهام نارية، وكادت تجهش بالبكاء لو لم تضبط نفسها بعد الجهد الجهيد. ولما خرجت المرضع من الحجرة، طفقت تفكر في هيجان بالها واضطراب بلبالها وما تلاقيه من العذابات المبرحة لدى تذكرها ألبير، فوطدت النفس على أن تبحث عنه في كل ناحية وصوب لتراه؛ إطفاء لغليل أشواقها التي كادت تذهب بحياتها، بيد أن عزيمتها فترت عندما تمثلت ناظريها أمانة روجر وحبه المفرط لها، فصعب عليها إذا أن تخون من يحافظ على الأمانة لها أشد المحافظة، ولا يزال يبحث عن أسباب سعادتها ورفاهيتها.
إن مرغريت افترقت عن صديقاتها، وانفصلت عن صواحبها من عهد زواجها بروجر؛ ولهذا أخذت تشعر يوما بعد آخر بضجر الوحدة وصعوبة الانفراد؛ فملت هذه العيشة، مع أنها في مدة إقامتها مع ألبير كانت قد اعتادت على مبادلة الزيارات والاجتماعات البيتية، والرغبة في اللبس والتبرج والتزين بأنواع الحلي الثمينة. ومنذ اقترنت بروجر رغبت عن كل ذلك واستقلت بذاتها استقلالا تاما، اجتهدت أن لا تلتقي بمن يعرفنها خوفا من تجديد جراحها العميقة وذكر الأيام الماضية.
أما الدكتور روجر، فإنه كان ميالا جدا إلى هذا الاستقلال، ويستحسن جدا عشرة مرغريت ومحادثتها؛ ولذا لم يكن يخالط أحدا من الناس غيرها، إلا في النادر وعند الضرورة الماسة. وكان والداه وشقيقته المتزوجة بأحد ضباط العسكرية يقطنون في جهة بعيدة عنه، وأخوه البكر كان مهندسا يسكن في ضواحي باريس مع زوجته وأولاده، وبما أن المسافة بعيدة كانت المواصلات متعذرة إلا مرات قليلة في أثناء السنة.
لكن في إبان الربيع كانوا يتزاورون على رغم البعد، وكانت مرغريت تحب سلفتها وأولادها الثلاثة، وهذه لم تكن بأقل محبة لها ولمكسيم الصغير، وكانتا تجلسان وتتجاذبان أطراف الحديث أوقاتا طويلة تقضيانها بأرق المعاشرات وألطفها.
فعلى هذا الأسلوب كانت حياة مرغريت، أي بين تدليل زوجها وعبادته لها وقبلاتها اللذيذة الحلوة لولدها مكسيم، وبين حنو أسرة روجر عليها واحترامهم لها وملاطفتهم إياها، إلى أن جمعها الاتفاق بألبير في ذلك المساء كما تقدم ذلك في حينه. وهي تهتز شوقا وتحن حنينا إلى ذكر أيام تقضت ما كان أحلاها وأشهاها.
وفي أحد الأيام عندما ضربت الساعة الخامسة، هتفت بصوت عال من غير انتباه: لا بد لي من أن أراه، ولي الاختيار العام بذلك؛ إن روجر لا يسألني أبدا عن ذهابي وإيابي، وألبير كان زوجي وإني لأحبه حبا مفرطا، فما المانع لي؟
نهضت في الحال وذهبت مسرعة إلى المكان المعهود؛ إذ لم تستطع أن تصبر أكثر من ذلك، ولم يكن سوى القليل حتى وصلت إلى المعهد.
الفصل السابع
اعتادت مرغريت أن ترى ألبير من وقت لآخر، ويكون موضوع الحديث معه إيڤون، وبما أنه كان منكسر القلب ملازم الوحدة والوحشة، وتخفف أحزانه بعذوبة كلامها وحسن مسايرتها. وأما ألبير فكان أطوع لها من بنانها، لا يخالفها بشيء وينتظر أوامرها انتظار هلال العيد، وجل القصد من معاملته هذه صيدها بحبائله واستجلابها إليه ثانية. وفي مساء إحدى ليالي ديسمبر الباردة، قال لها وهما يتجاذبان أطراف الحديث، بعد أن سعلت سعالا شديدا: لا أريد أن تأتي إلى هنا فيما بعد؛ فإن البرد قارس لا يحتمل! فقالت باضطراب: وكيف نلتقي؟
فرمقها بنظرة معنوية لو حدثت في الأيام الأولى لألقت بنفسها بين ذراعيه، وكانت تنتظر الجواب من فيه، فخاب أملها!
Halaman tidak diketahui
ثم قال لها برزانة: هل لك بي من ثقة؟ فلم تقدر أن تجيبه، ولكنها أشارت برأسها: نعم. - إن صورة إيڤون عندي، فيمكنك أن تأتي وتنظريها متى سنحت لك الفرصة.
فأطرقت طويلا وأحاطت بها الهواجس والأفكار المزعجة إحاطة السوار بالمعصم، ثم تأملت في أنه كيف يحسن أن تدخل ثانية تحت سقف بيت ألبير ولو دقائق يسيرة؟
وعندما تيقنت ذلك وتصورت ابنتها في ذلك البيت، اقشعر بدنها وشعرت بأن الأرض ترتج تحت قدميها، وظهر لها أن الأشجار تجري، وجميع النباتات تدور، وكأنما الكون قد انقلب ومناظر الطبيعة تغيرت أمام ناظريها، وبينما هي كذلك قالت على غير انتباه: نعم، سأذهب وأرى إيڤون!
غير أنها بعد أن لفظت ذلك، كنت تراها غارقة في بحر من الأفكار والهواجس المؤلمة، وكانت كأمواج البحر يلاطم بعضها بعضا، وعيناها تمثلان أمامها صورة ذلك الوجه المحبوب الذي كان لها في الماضي، وهو ليس لها الآن. ثم إنها ذكرت أنها أقسمت وابنها على ذراعيها على أن لا تعود إلى التفكير في ألبير، ومع ذلك حنثت بيمينها.
فيا ترى ألم تكن تحب مكسيم؟ نعم، كانت تحبه حبا شديدا، وقد كان يسهل عليها تضحية حياتها من أجله، ولكن من جهة أخرى كانت تظن أن ألبير هو أكثر ضرورة لحياة قلبها من مكسيم ولدها. والحالة هذه إن كانت لا تخاف الموت حبا بمكسيم، فإنها من جهة ثانية لا تطيق الحياة وهي بعيدة عن ألبير.
فمن يا ترى في هذه الحياة الدنيا يشفق على هذه النفس المسكينة ويساعدها كي تنتصر على حبها، وتتخلص من هواجسها المضنية التي تحاربها ليلا ونهارا!! من هو الذي ينجيها من شعورها، ويبعد عنها آلامها التي تعذبها كثيرا! من ذا يضمد كلوم قلبها بتلك المراهم الشافية!
فتبا لك أيتها الدنيا الخادعة، وتعسا لك أيها الدهر الخئون بأهله!
بكت مرغريت بكاء مرا، وتنفست الصعداء مرارا، وألبير يطيب نفسها.
ولعمري إنه الأولى بالتعزية والأجدر بالشفقة والمرحمة؛ لأنه كان بحالة يرثى لها لا تنفع فيها تعزية، فحري به أن يبكي وينوح على حياته التي كانت مفعمة من الصفاء والهناء، فأضحت مقرونة بتراكم الحزن والعناء!
الفصل الثامن
Halaman tidak diketahui
في ذلك المساء أصيبت مرغريت بحمى شديدة وعسر تنفس كادا يذهبان بحياتها، ولم تعلم والدتها بذلك إلا في صباح الغد، فأسرعت هذه إلى حجرة ابنتها لتتفقدها وتعتني بتمريضها. وبعد أن عاهدت على نفسها أن تحمل أعباء ذلك، أظهرت لصهرها كدرها العظيم وقالت على مسمع منها: إنها لعنيدة جدا؛ هي تعرف حق المعرفة أنها ضعيفة وصحتها منحرفة، وأن مزاجها اللطيف لا يحتمل شدة البرد والحر، ومع هذا وذاك فلا تبالي، بل تخرج من المأوى زمن وقوع الثلوج والأمطار.
فقال روجر يعذرها: إن الزكام في هذا الفصل يحدث على رغم التحفظات والاحتياطات؛ لأن حال الجو رديئة تصب الزكام وباقي العلل صبا. - إني لا أعتقد صحة القول، فعليك أن تأمرها بأن لا تخرج في مثل هذه الأوقات، كما أن عليها الامتثال لأمرك. إنها توالي الخروج منذ أسبوع كامل! - الآن يجب أن نهتم بمعالجتها وتمريضها، لا لومها وتعنيفها. ثم دخلا معا حجرة المريضة التي لم تبتسم لهما ولم تعرهما جانب الالتفات، مع أنه خاطبها قليلا، فلم تجبه متظاهرة بأنها نائمة، فلم يبطئ أن خرج لعيادة مرضاه بعد أن أوصى أمها بالتعليمات الضرورية. أما هذه فسألته بعد أن رافقته إلى الباب: لا تكترث بنا، كأننا مسسنا إحساساتها بأمر ما! - لا بأس بذلك، فإن هذا من آثار الحمى، وأنا سأعود بعد قليل.
إن الدكتور روجر لم يضطرب من مرض زوجته؛ لأنها لم تزل في عنفوان صبائها، وهو - هو نفسه - يعالجها، ومع ذلك كان يشعر بغصة في صدره؛ فقد شعر بعدم اكتراث مرغريت به بعد كل ما أبداه لها من علامات الحب والاحترام، كما أنه لسلامة قلبه نسب هذا الفتور إلى شدة الحمى، مع أنه كان يشعر أثناء ذلك بغم داخلي ضاغط على قلبه وسائر أحشائه، وكان يخشى أن ترغب عنه وتقرع سن الندم على قبولها إياه بعلا. ولو لم تحرضه وترغبه أمها لما أقدم على طلب يدها؛ فإنه - مع فرط حبه لها - لم تكن مخلصة له حبها كل الإخلاص، وعندما كان يجالسها يشعر بنوع من الانقباض، كان فؤاده يتلهب حنينا إليها، لكنه لم يجسر قط أن يظهر لها جميع عواطفه، وكثيرا ما كاد يترجم عن إحساسات قلبه وما يكنه فؤاده من الولوع والوله بها، لكنه يلجم لسانه عن التفوه ولو بكلمة واحدة أمامها. نعم، إن كل ما يفعله المحب لسعادة وهناء زوجته فعله روجر، بل زاد عليه أضعافا، ومع ذلك لم يتمكن من التوصل إلى امتلاك قلبها.
نعم، طالما خطر على باله ألبير زوجها الأول، وكان يشعر بقرب وقوع الخطر، وسأل نفسه يوما عما إذا تلاقيا اتفاقا، ماذا يصنعان؟ هل يحول الواحد منهما وجهه عن الآخر غير مكترث بملاقاته، ولا ذاكر تلك الأيام التي تقضت؟
إن روجر - مع ما هو عليه من حدة الذكاء والفطنة - لم يقدر أن يجيب على هذا السؤال، لكنه من هذا وغيره علم بأن سعادته إن هي إلا وقتية سريعة الزوال، وأن بيته مبني على الرمل.
وإذ كان الدكتور روجر من ذوي الرزانة والعقل الراجح، رام أن يشغل أفكاره بغير ذلك، فذهب إلى عيادة مرضاه، وكان يصغي إلى وصف أعراض العلة من فم المريض بكل تأن وانتباه أكثر من العادة، قاصدا بذلك ملاشاة همومه وإبعاد غمومه باشتغاله بأمراض غيره، وكان في الساعة المعينة يرجع إلى مسكنه ماشيا بدلا من أن يركب حسب عادته؛ وذلك ليسرح نظره ببعض المناظر التي يصادفها في طريقه. وفي أحد الأيام رأى وهو سائر أمامه مركبة تجري بألبير، وكان وقوع نظر الواحد منهما على الآخر كوميض البرق، فتوقدت في قلب كل منهما نار محرقة دونها جمر الغضا. وإن هي إلا لحظة حتى قال روجر في نفسه: سأبذل نفسي في سبيل حفظها لي حتى آخر نسمة من الحياة.
أما ألبير وقد التهبت نار الغيرة في فؤاده، أقسم في نفسه قائلا: والله لأسترجعنها، ولو كلفني ذلك فقدان حياتي.
الفصل التاسع
عندما شفيت مرغريت، شرعت أمها تؤنبها على قلة مداراتها لصحتها وعدم الاعتناء بها، وكانت تكرر ذلك كثيرا على مسامعها، ومرغريت لا تصغي إليها شيئا. وفي بعض الأحيان كان روجر داخلا فسمع زوجته تقول: كفاني كفاني ما سمعت منك.
فبادرتها أمها بالدفاع عن نفسها مؤكدة لها أنها لا تقصد سوى خيرها؛ لأن الحب الوالدي يدفعها إلى ذلك حبا براحتها، إلخ. لكن روجر غير موضوع الحديث وقال: دعينا من هذا الجدال يا عمتي؛ فإن مرغريت لم تزل ضعيفة. قال هذا ودنا منها مستعلما عن أحوال صحتها، فلم تقابله بوجه باش، ومع ذلك جلس بالقرب منها معتنيا بأمرها غاية الاعتناء، وبعد أن جس نبضها قال مسرورا: لقد تعافيت وعادت صحتك إلى حالها الأولى، فالحمد لله على السلامة. فقالت أمها هامسة: قد حصل لها ضعف آخر. فقال: إن كان ذلك صحيحا فهو من آثار الزكام. ثم قالت الأم لروجر: بما أنك هنا، يمكنني أن أذهب لأغذي مكسيم. - عودي إلى هنا يا والدتي. - سأرجع بعد بضع دقائق. - ويلاه إلى متى يجب أن أحبس هنا، فقد ضاق صدري يا روجر. - إن خروجك يا مرغريت يتعلق بجودة أحوال الجو لا بإرادتي كما لا يخفى عليك، وهل تعلمين بماذا أفكر؟ - لا أعلم، قل لي إذا شئت. - مرادي أن أمضي بك إلى جهة الجنوب. - وماذا يا ترى أفعل في جهة الجنوب! لا لا، بل أفضل البقاء معك هنا. إن مرغريت لم تتملق بقولها هذا؛ إذ إنها كانت تعلم حق العلم أن روجر هو سندها الوحيد. - كوني على ثقة بأني ذاهب معك. - ولمن تترك المرضى الذين تعالجهم؟ - إني أوصي بهم أحد أصحابي الأطباء. - لا، بل أفضل البقاء في العاصمة باريس. - عليك أن تطيعيني يا مرغريت، بما أني أنا الآمر وصاحب البيت!
Halaman tidak diketahui
قال هذا باسما، فصمتت وحدقت به طويلا. - والحالة هذه ينبغي أن تغادري العاصمة. - إن كان ذلك كذلك، فأنا مريضة جدا والسفر يتعبني. - أما الآن فإنك تعافيت ولست مريضة، ولكن من الممكن أن تداهمك علة ما، وذلك مما يكدر صفاء عيشي يا عزيزتي، فأريد إذا أن أتخذ كل الاحتياطات الواقية، فكوني على ثقة من ذلك إذا. - إني لا أشك في حبك لي يا روجر، ولكن لم تكلمني بهذا اللحن والنغمة الجديدة؟ - إن حياة الزوجين يجب أن تكون مرضية وسعيدة، ذات صفاء وهناء لا يكدرها أقل شيء البتة، ولعمري إن ذلك لا يتم إلا بمبادلة تمام الثقة بينهما، وينبغي على كل منهما من باب الوجوب أن يفتح قلبه لرفيق حياته هذا، ويطلعه على ما يسره ضميره في السراء والضراء، كاشفا له أعماق قلبه، ولو شعر على نوع ما بألم من هذا الإقرار.
عندما سمعت هذا الكلام حدثتها نفسها من أنه عارف بوجود ألبير في العاصمة؛ ولهذا قالت: حتى الآن لم أفهم شيئا، فما معنى هذه الألغاز يا ترى! - لقد تعذبت أيتها العزيزة في ما مضى، وقد آليت على نفسي أن أبذل مجهودي في أن أنسيك ذلك، وقد يعسر لسوء الحظ محو ذكر الأيام الماضية المحزنة في هذه الحياة الدنيا، ثم إني لمتأكد أنك تنقبضين - ولو قليلا - متى علمت بوجود ألبير في العاصمة، بل أنا قد رأيته رأي العين، وبما أني شريكك في آلامك يجب أتجنب كل ما يسبب لنا انفعالا.
وعند سمعها ذلك امتقع لون وجهها، واصفرت شفتاها، وشعرت بضيق في صدرها بعد أن دمعت عيناها، فدنا منها روجر وأخذ يديها الباردتين بين كفيه. - لا يحق لي أن أتكدر من دموعك هذه عند ذكر ذلك الرجل المعروفة صفاته حق المعرفة، وأنت أعلم بها مني، أما رجوعك إلى الوراء فهو من رابع المستحيلات. نعم، لقد أصبحت لي وخاصتي، ونحن الاثنان لسنا سوى واحد، وما ألبير إلا خيال نظرته في ماضي حياتك. كما أنك لا تستطيعين أن تنسبي إلي القساوة والظلم وسوء المعاملة بهذا القول. فوحقك إن ذلك لا يصدر إلا عن حب مفرط لا نهاية له، بلى وتربة إيڤون!! فإذا لا سمح الله اقتضى يوما ما أن أعمل لك عملية جراحية تقتضي استعمال آلات الجراحة لأجل تمزيق لحماتك فلا تحسبين ذلك قساوة مني، بل تعرفين حق المعرفة بأني أتوجع في الوقت عينه. وفي غضون ذلك كانت دموعها تسيل من تحت جفنيها المغمضين. - إني طبيب كما تعرفين، وصناعتي قائمة في أن أوجع لكي أشفي، لكني لا أرتضي بمعالجة جسم أزمنت علته إن لم تكن للعليل الثقة التامة بي. وعليه فإن كان ذلك كذلك، يجب أن تخبريني بأوجاعك وتطلعيني على سائر آلامك لأداويها؛ فإني أبذل حياتي دونك إذا اقتضى الأمر، لم تبكين هذا البكاء أمامي؟ إن مهجتي تذوب حنانا عليك عندما أرى دموعك.
إن مخاطبة مرغريت بهذه اللهجة التي ملأها الحب وسائر أنواع الملاطفة والمجاملة، عطف قلبها إليه وأثر فيها تأثيرا شديدا، فحاولت أن تقول باسمة: وماذا علي أن أقول؟ - ربما ترغبين في الماضي ورجوع القديم إلى قدمه، فأنا أشير عليك بأن تميتي هذا الفكر ولا تدعي للتذكر به سبيلا. نعم، أنا لا أستأهلك؛ فإنك لأسمى مني وهذا لا يختلف فيه اثنان، وعندما تزوجتك عهدت على نفسي واجبات لن أهملها أبدا، نعم سأدافع عنك حتى آخر نسمة من حياتي، انظري إلي واجعليني دائما نصب عينيك، ولا تأملي العود إلى الماضي (هنا شعر بارتعاش يدها التي بين كفيه) قد قبلتني يا مرغريت بتمام إرادتك، وكنت أحبك كما أني كنت أظنك تعيسة. - نعم، كنت تعيسة. - فلندع الماضي نسيا منسيا، إن إيڤون توفيت فاعتبري أن ألبير مات أيضا، فتصوري أنك لن تجدي له أثرا ولا عينا!
فأنت أنينا يلين له الصخر الأصم لدى ذكر ذلك. - واعلمي أن لك زوجا حنونا للغاية قد وقف حياته على رضاك، وهو لا يحلم بسوى سعادتك ورفاهتك، ونظرك أعظم برهان على ذلك؛ لأنك ترين رأي العين ما أفعله استجلابا لرضاك. إن لك ولدا تتسلين به، فهل نشتت شملنا بيدنا من أجل من مات؟
فهمت أن تقول بأعلى صوتها: لا لم يمت، الميت لا يتألم وألبير يتألم! فأدرك روجر فكرها لذلك، قال: لسنا بمسئولين أن نشفق على من أساء إلينا وهدم أركان سعادته بيده؛ فانعطافنا عليه والحالة هذه يقع في غير محله. لم أر ألبير سوى لمحة بصر، لكني متأكد أنه قد تغير كثيرا وأصبح شاحب اللون ممتقعه.
فانتفض بدن مرغريت وقاطعته بقولها: نعم، وقد رأيته. فمسك روجر نفسه وملك عواطفه وقال: حقا إنك لمسكينة أنت، ولم لم تخبريني بذلك؟ - وكيف أخبرك؟! - لأنه ما من ذنب لك إذا وجدته في طريقك كما وجدته أنا مثلا. نعم، أنا أعلم وأنت كذلك والناس أجمع يعلمون أن هذا الرجل هو سبب تعاستنا ومجلبة لتكدير صفاء عيشنا.
قالت: أنا محتاجة إلى الهواء. وزفرت زفرة شديدة ثم ألقت رأسها إلى الهواء مغمى عليها؛ فخف روجر يرش وجهها بالماء البارد مع تنشيقها المنعشات، وعندما فتحت أعينها أخذها إلى مكتبه لأنه أدفأ، ووعدها بأن يسافرا معا بأقرب وقت.
الفصل العاشر
كان الثلج يقع بكثرة من وقت إلى آخر، حتى إن البرد أضحى قارسا لا يحتمل، فلم يعجب ألبير من طول غياب مرغريت، وهو لم يكن ينتظر رجوعها إلا بعد مضي عدة أيام، وهو كان يعرف حق المعرفة ضعف طبعها، وأنها تتألم كثيرا قبل أن تقرر أمر زيارتها له.
Halaman tidak diketahui
أما عيشته فكانت مملوءة كدرا وشقاء، وهو أليف التعب، سمير الضجر، نديم الأفكار المزعجة، وهواجسه لا تصور له سوى سعادته وتلك العيشة الرغيدة في ماضي الأيام بين الأحباب والأصحاب، وحين يأخذ به كل ذلك مأخذه ينظر حوله نادبا حظه، وتكاد تخنقه العبرات لسبب تلك الوحدة التي لم يألفها.
عندما جرى ما جرى بخصوص أمر بلانش وغادرت مرغريت بيته، ظن أنها ذهبت إلى أمها لتقضي بضعة أيام ثم تسبل ذيل المعذرة عنه وتعود إليه، وكان يتذكر ما كانت تردده على مسامعه مرارا في أوقات اتحادهما وسعادتهما، وهو أنها لا تقدر أن تحتمل منه خيانة ولو صغيرة، وإذا ظهر منه شيء من هذا أو نوع من الخداع، فإنها تكرهه بقدر ما أحبته، ثم إن حنوها يتحول إلى قساوة عظيمة!
على أنها حينما فاجأته وهو يلاطف بلانش بأرق الكلام، استحوذ عليه الحياء والخجل، وخشي عاقبة هذا الأمر، ولم يأل جهدا في استعمال جميع الوسائط الممكنة لاسترجاعها، ولم يصادف إلا الفشل، وعاملته معاملة قاسية حتى التزم أن يقطع كل أمل من جهة رجوعها، ولم ير من نفسه أن التذلل يليق بشخص نظيره، بل شمخ بأنفه تاركا حبلها على غاربها.
وكانت بلانش خفيفة الروح، حسنة الوجه مستديرته، لطيفة المعشر، لكنها غير مستقيمة المبادئ، ولا حاجة إلى إيضاح ذلك.
مر أمام نظر القارئ أن مرغريت حزنت أشد الحزن بعد وفاة ابنتها إيڤون، فعادت لا تعتني بزوجها ألبير كما يقتضي، بل أطلقت العنان لدموعها، واستسلمت إلى الحزن المضني، وهي تمضي أكثر أوقاتها بالبكاء والنحيب، وكانت بلانش تكثر من زيارتها لها لتعزيها وتسلي ألبير. وأما مرغريت الحسنة السيرة، الطيبة السريرة، ذات الضمير النقي، فكانت تشكرها على حبها، وتسألها بإلحاح أن تطيل الإقامة عندها. وفي أحد الأيام دعتها إلى الذهاب معها إلى المصيف، فلبت هذه الدعوة شاكرة، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى صارت خليلة ألبير، ومرغريت لا تدري من ذلك شيئا.
وبعد أن افترق الزوجان ظلت بلانش تتردد إلى ألبير حينا من الدهر، وبعد ذلك اختلفا وتحول الحب إلى بغض، وعلى أثر هذا انفصلا كل الانفصال. ولم يكن إلا القليل حتى تذكر ألبير تلك السريرة الطيبة، والقلب النقي، والعفاف الذي لا عيب فيه، والحب المخلص، والأخلاق المرضية المتصفة بها مرغريت، ورام في الوقت عينه من صميم فؤاده أن تعود إليه في الحين، وأنه مستعد أن يكفر عن هفواته التي بدرت منه عن غير قصد تام، وكان يخال هذا الأمر سهلا؛ لعلمه بحبها السابق، وهو يناجي نفسه بقوله: إني مستعد لتحمل أعظم الأهوال إذا اقتضت الحال لاسترجاعها إلي.
وبعد مرور عشرة أيام من اجتماعهما الأخير صفا الجو، وأشرقت الشمس، وابتسمت الطبيعة، وغردت الأطيار على غصون الأشجار، ومرغريت لم تبد طلعتها؛ فقلق من هذا الإبطاء، فتناول القلم وكتب لها عدة رسائل ثم مزقها وضرب بها عرض الحائط، وكان يكثر من الذهاب صباحا إلى البستان الذي تتردد إليه المرضع ومكسيم ابن مرغريت، باحثا مفتشا من كل ناحية وصوب، فلم يقف لهما على أثر.
وفي ذات يوم رأى والدة مرغريت من غير أن تراه، فتبعها عن بعد إلى أن دخلت البيت، وكان عالما بأنها تسكن في مسكن ابنتها في الطابق الأسفل، ثم دخل بعدها ببضع دقائق وصعد درجات السلم إلى أن رأى بابا عليه اسم الدكتور روجر، وبعد أن قرعه فتح له فقال: أين الدكتور روجر! فأجابته الطباخة فاتحة الباب: هو غائب، وأظن غيابه يطول مدة شهر على الأقل؛ فإنه ذهب منذ ثمانية أيام مع زوجته. ولم يكد يسمع هذا حتى رجع القهقرى وهو يتلهب غيظا وكدرا من هذا السفر غير المنتظر، وأخذ يتنفس الصعداء حتى كادت روحه تبلغ التراقي.
الفصل الحادي عشر
عاد ألبير إلى مسكنه ودخل حجرته في حال يرثى لها، ثم جلس وأسند رأسه بيده، وجعل يفكر في أحواله المحزنة، وتمثل في مخيلته مشهد اجتماعه الأخير بمرغريت، وإذ تصور هزالها خصوصا، بكى بكاء مرا؛ لأنه لم يظهر لها أفكاره حينئذ، وندم على تركه إياها تذهب من غير أن يستوقفها ويصحبها معه إلى بيته الذي هو بيتها أيضا.
Halaman tidak diketahui
أما أمر سفرها إلى الخارج، فلم يكن يخطر على باله قط، وقد ظنها قصدت بذلك قطع المواصلات بينها وبينه.
وعلى أثر الانفصال الذي جرى منذ خمس سنوات، ترك المسكن الذي أقاما به بعد زواجه وعاد إلى منزل والدته، حيث اتخذ الحجرة التي كان يقطنها في مدة صباه، وبعد وفاة أمه بقي في البيت نفسه؛ لأنه كان جميلا بعيدا عن الحركة وضوضاء الناس، يكتنفه بستان صغير يحتوي على كثير من الأزهار المختلفة والرياحين المتنوعة، وتكسو أرضه الخضرة النضرة والأشجار التي تغرد على أفنانها الأطيار، وكانت حجرته مطلقة الهواء تشرف نوافذها على البستان، وعلى أرضه التي كانت تعلوها الخضرة في أكثر الفصول.
وكان قد شرع يهتم كل الاهتمام بتزيين هذه الغرفة وتحسينها من حين وعدته مرغريت بزيارتها، وقد وضع فيها شيئا من الأثاث والأدوات التي كانت عنده يوم كانا معا؛ لكي يحرك عواطفها ويحيي في قلبها ذكر أيام ما كان أحلاها، وعلق في الجدران صورة إيڤون ومرغريت ووالدته .
وإذ رجع من بيت الدكتور روجر وأجال نظره طويلا في جدران الحجرة الأربعة، وتأمل في عظيم اهتمامه وشديد اعتنائه بالزخرفة التي تعب بها عبثا؛ زاد غمه وضاقت الدنيا في عينيه حتى كاد يفقد رشده. نعم، قد اتهم بوصمة الخيانة وعلى أثرها انفصلت عنه زوجته متخذة آخر بدلا منه، وفقد ابنته، ثم توفيت أمه، ولا شقيق يحن عليه ولا خليل يميل إليه، ولا صاحب يسكن لوعته ويخمد حرقته، فتراه قد أصبح شريدا طريدا يندب سوء حظه، ويبكي على أيامه الماضية.
وكان بعد أن اجتمع بها في المرة الأخيرة انتعش فؤاده وحييت آماله، وشعر بأن لا طاقة له على العيشة بدونها، ولا اصطبار على الافتراق عنها، وعليه فلم يقنط من استرجاعها، وقد طالما قرع سن الندم على تركه إياها تقترن بروجر، وكاد في بعض الأحيان يتميز من الغيظ والغيرة عندما يحصر أفكاره وتزيد هواجسه، مفتكرا كيف أن مرغريت تقيم مع روجر وتسافر معه حيث اتجه، وتسير مستندة على ذراعيه، وهو هو زوجها الحقيقي - لا روجر - الذي لا يقدر أن يكلمها كلمة واحدة ولا أن يكاتبها، حتى لا يحق له أن يراها، وهذا حال الزمان والدهر بالناس قلب.
نعم، إن ألبير لو وجد روجر في البيت عندما ذهب إليه لهجم عليه وقبض بيده على عنقه وخنقه؛ انتقاما منه، شافيا غليل غيرته.
الفصل الثاني عشر
إن مرغريت اشتهت ورغبت من صميم فؤادها بأن يكون روجر مانعا حصينا بينها وبين ألبير؛ ولذا تراها أطاعته منقادة لمشوراته بكل هدوء وسكينة.
وقد أقاما بضعة أيام في مدينة كان الشهيرة بجمال سمائها، وحسن هوائها، ورونق مناظرها الطبيعية، وأما صحة مرغريت فإنها قد تحسنت تحسنا بينا. كيف لا، وروجر قد جعلها موضوع أفكاره وقيد هواجسه، يعتني بها اعتناء الأم الحنون برضيعها، يعطف عليها ويميل إليها ويلاطفها غاية الملاطفة كأنها ابنة صغيرة، وهذه المعاملة الفائقة الوصف أثرت في نفسها تأثيرا شديدا، وكانت تشعر بامتنان فائق لا تستطيع أن تكافئه عليه ما دامت حية، ولم يكن إلا القليل حتى فارقتها تلك الهموم والغموم، ونسيت تلك الأحزان السالفة، ولم يعد يزعجها بعد ذلك ألبير، ولا كل ما يتعلق به، ولم يحل لها سوى الإقامة بقرب زوجها روجر وطلب السعادة بمساكنته.
لم يخطر على بال روجر أن زوجته هذه اقتربت من ألبير وكلمته، وقد كان يظن أنها صادفته بغتة في الطريق نظيره، ولأجل ذلك لم يخامره حقد أو غيظ منها؛ نظرا لما أظهرته من التأثرات لدى ذكر ألبير، بل إن ذلك الانفعال الطبيعي دلالة صريحة على رقة شعورها وطيب قلبها، ولما رأى أنها مالت إليه كل الميل سر غاية السرور وزاد اهتمامه وفاق ولوعه وهيامه بها، حتى إنه جعل كل أوقاته وقفا على خدمتها وملاطفتها.
Halaman tidak diketahui