قال له قائل: صف لنا من رياضة النفس شيئًا: قال: إن النفس إذا اعتادت اللذة والشهوة، والعمل بالهوى، أقبل على فطمها عن العادة في كل شيء، فكلما اشتد
عليها فطم شيء فأقبل ذلك الشيء حتى تفطمها عنه، حتى يصير قلبك حرًا، يألف مع الله ﷿ ببره ولطفه، فقد رأيت البازي كيف يلقى في البيت، وتخاط عيناه، حتى ينقطع عن الطيران، ويربى باللحم، ويرفق به، حتى يأنس بصاحبه، ويألفه إلفًا، إذا دعاه فسمع صوته أجابه.
فكذلك النفس. إنما تجيب ربها ﷿ فيما أمرها بعد فطامها عن عادات الأمور التي اشتهت ولذت، فإذا فطمها ألزمها الدعاء، وثناء الرب ﷿ ومدائحه ونجواه، حتى تأنس بذلك، وتألف الذكر، حتى ينكشف الغطاء بعد ذلك، فيألف ربه ﷿.
وكذلك تجد الصبي قد ألف ثدي أمه، حتى لا يكاد يصبر عنه ساعة، فإذا فطمته اشتد على الصبي، وبكى وقلق، فإذا دام الفطم نسيه، وأقبل على الطعام والشراب، فكلما وجد حلاوة الأطعمة والأشربة هجر الثدي، وعاف ذكر اللبن.
وكذلك تجد الدابة تؤخذ من الدواب السائمة، لتؤدب وتعود الركوب، ففي الابتداء تنفر عن اللجام والسرج، فتشكل حتى تسرج، وتلجم حتى تعتاد، وتعلم السير حتى تصير أذنها إلى العنان، وقلبها إلى إشارات الراكب بذلك العنان، فإذا بلغ بها القنطرة وثبت وثبة لا تدعها تجور، فتعتاد ذلك، فليس في كل مكان يوجد قنطرة، فيهودها الوثب وسيرها في جلبة الصناعيين، مثل الحدادين والنجارين فإذا نفرت من تلك الأصوات أو تركت سيرها، أدبها حتى لا تنفر ولا تتحير، حتى تصير أديبة سيورة.
1 / 75