واختفت الفتاة في تلك اللحظة، لم يلحق بها أحد، ابتلعتها شوارع المدينة والأزقة، كأنما هي جزء من المدينة والأزقة، تشق الليل بجسمها النحيف الممشوق، تقاطيع وجهها كأنما نحتت في الحجر، عيناها ثابتتان ثاقبتان قاطعتان كحد السكين، وكانت السماء سوداء إلا من الشفق الأحمر، عند خط الأفق البعيد، يتصاعد في بطء مع نور الفجر. •••
عندما صدرت الرواية كانت الأرض غارقة في الدماء، وكانت السماء زرقاء صافية، غير مبالية بما يحدث فوق الأرض، والقتلى يتساقطون والقتيلات، تختلط أجسادهم بعضها بالبعض الآخر، لا يمكن التعرف على الذكر من الأنثى، أو المسلم من القبطي، أو العربي من الأعجمي، وبدا الموت جميلا في عيون الأطفال، لأنه لا يفرق بينهم. كانت الطفلة تلعب في الشارع، حين برز فوق صدرها ثديان صغيران، وضغط الرجل الكبير على ثديها قبل أن يدركها الوعي ثم رفع بيده جلبابها القديم، فانكشف عنها الغطاء، رمقته بعينيها الثاقبتين، وانحفرت نظرته في ذاكرة الطفلة إلى الأبد، أصبحت تعرفه وتتعرف عليه وإن تغير وجهه، لم يكن له وجه واحد، كانت الوجوه متعددة مع تعدد الأحزاب وتعدد المجالس القومية العليا والانتخابات الحرة، يتغير وجهه من موسم إلى موسم ... لا يتعرف عليه أحد إلا هي، تعرفه من عينيه، من رائحة معجون الحلاقة، ودون بقية الملامح.
وأحدثت الرواية غضبا عارما. المؤلفة صغيرة مجهولة الاسم، بلا أب ولا أم، ولا هوية مختومة ولا ملامح معروفة، لا تعرف القراءة ولم يندرج اسمها ضمن الكاتبات، قوامها ممشوق من طول المشي سعيا وراء الرزق، يرتكز على عمود فقري صلب، وكان موسم الانتخابات على الأبواب، والصحف الصفراء تتكاثر كالذباب، وهناك المجلس القومي يسمونه المجلس الأعلى، بطل الرواية عضو اسمه رستم، في الخامسة والخمسين، يبدو شابا رياضيا، يمارس لعبة الجولف كل يوم، يرتدي بدلة أنيقة، وربطة عنق سوداء علامة الحداد، يتمتع بسمعة طيبة، والوفاء لزوجته الميتة، حليق الوجه تفوح منه رائحة الكولونيا «لافندر».
توقف رستم تلك الليلة القمرية أمام الكشك على الناصية، صاحب الكشك شاب من أبناء الشهداء، تتدلى المسابح والمصاحف فوق واجهة البوتيك، والمباخر وإمساكيات رمضان وأحجبة النساء. تهلل وجه الشاب كعادته حين رأى رستم: أهلا سعادة الباشا.
يناوله الشاب الرواية الممنوعة ملفوفة بحجاب، وقطعة صغيرة مما توضع في الشيشة أو تحت اللسان. - الأخبار إيه يا محمد؟ - اليورو طالع يا سعادة الباشا والدولار نازل.
يناوله رستم المظروف، يختفي الشاب وراء القبو الخشبي ، ثم يعود حاملا الكيس البلاستيك الأسود. - عدهم يا سعادة الباشا. - عيب يا محمد. - يلزمك كم إمساكية يا باشا؟ - مالوش لزوم يا محمد، النجاح مضمون. - الدولة كلها معاك يا باشا وألف مبروك ع الجايزة. - الله يبارك فيك يا محمد.
في الليل، قبل أن ينام، ينزع الحجاب عن الرواية، كأنما ينزع الملابس عن امرأة، كان يعشق القراءة مع الدخان والكأس، تتحرك شهوته للمحرمات، بحسب المثل الشائع: كل ممنوع مرغوب.
على الغلاف كانت صورة المؤلفة الشابة، داخل مربع صغير، تسمرت عيناه فوق العينين الثاقبتين، كأنما رآهما من قبل في الحلم وهو نائم، أطفأ النور بجوار السرير، دفن وجهه في الوسادة وراح يبكي حتى سقط في النوم. •••
صدرت الرواية وأحدثت غضبا عارما، زعقت الأصوات عبر الميكروفونات، وأبواق السيارات وصفارات البوليس. انتشر رجال بالسراويل الكاكي في الشوارع والميادين، والأزقة المسدودة، يفتشون عن الرواية داخل المكتبات والأكشاك، فوق الأرصفة على النواصي، تحت مراتب الأسرة في البيوت، إلا بيت رستم، كان يتمتع بالحصانة كعضو في مجلس الشورى، لا أحد يسأله عن شيء مثل غيره من أصحاب المكانة، كلما ارتفعت المكانة نقصت المسئولية، بحسب اللائحة والقانون، وتزيد المسئولية في حالة المرأة، وإن كانت ميتة.
لم تكن كارمن ميتة، فهي تعيش في روايتها، أو على الأقل في ذاكرة رستم، يضع مقعدها على رأس المائدة، لن تجلس عليه كارمن أو أية امرأة غيرها، يزيد الإخلاص الزوجي بعد الموت، سيقيم رستم لروايتها حفلا الليلة، سيضع الرواية فوق المنضدة الرخامية محاطة بباقات الورد، وعيون المعجبين والمعجبات، لن تنهشه مشاعر الغيرة، يبدو الموت جميلا، أكثر جمالا من الحياة، يقضي الموت على الغيرة وكل المشاعر الخسيسة، يصبح القلب أبيض نقيا مثل صفحة بيضاء غير مكتوبة.
Halaman tidak diketahui