هبطت عيناها إلى صدره داخل القميص الحريري، وبطنه المشدود بالحزام الجلدي له مقبض فضي مغلق، وأزرار البنطلون الأربعة مغلقة، أصبح زوجها مثل الكتاب المفتوح تحت عينيها، تقرأ الشيء في عينيه قبل حدوثه، تعرف متى ينسى إغلاق الزر الرابع في البنطلون، يحدث ذلك حين يشرد طويلا في قصة حب جديدة، أو بسبب ضيق الوقت أيام الانتخابات مع ضيق المرحاض في بيوت الناخبين والناخبات.
كان رستم جالسا في استرخاء، يرشف النبيذ على مهل، فاتحا ساقيه، وكارمن عيناها ثابتتان فوق الشيء تحت البنطلون المشدود، ترمقه بنظرتها الفاحصة، مع خيالها الأدبي، تكشف بوضوح عن أسراره الخفية.
انتبه رستم من شروده على كارمن تقول: أنت روائي كبير، موهبتك الأدبية نادرة، لكنك لا تعرف بها، وتضيعها في الانتخابات والعلاقات. ضحكت بعد أن أفرغت الكأس في جوفها، خصوصا النساء، لا أقول إنك زير نساء، على الإطلاق. ثم تحركت عيناها نحو الفتاة تخاطبها، رستم إنسان يحترم المرأة ولا يمكن أن يسيء إليها أو يسبب لها أي ألم.
أطبقت الفتاة شفتيها في صمت طويل، لم تسمع فيه إلا احتكاك السكين بالصحن الصيني في يد كارمن وهي تقطع من اللحم المشوي قطعة صغيرة، أمسكتها بأسنان الشوكة دون أن تقربها من فمها، أصابعها الرشيقة تهتز قليلا والشوكة معلقة في الهواء، تقول بصوت خافت كأنما تكلم نفسها، رستم إنسان رقيق حساس، ثم قذفت بقطعة الشواء في فمها. •••
جمالات في شقة السيدة لا يفوتها شيء، مثل رجال المباحث، تعرف عن حياة الفتاة أكثر مما هي تعرف، تبدو جمالات مخيفة بعد أن تغسل وجهها من المساحيق، يصبح وجهها أبيض مفلطح مثل بطن قدمها، يختفي الحاجبان تماما والرموش والعينان والشفتان، الملامح كلها تختفي على نحو غريب، شعر رأسها بعد أن تخلع الحجاب يبدو خفيفا منقوشا مصبوغا بالحنة الحمراء، تغسله بالشامبو مرة واحدة في الأسبوع، ليلة الجمعة المفترجة، يتساقط شعرها مع رغوة الصابون ويسد بالوعة الحمام، تتركها مسدودة حتى تسلكها الفتاة وهي تلعنها، الله يلعن حجابك يا جمالات، ما له الحجاب يا سافرة يا كافرة! الحجاب سبب سقوط شعرك لأنه بيمنع عنه الشمس والهواء، فين الهواء ده؟ قصدك التراب والقرف والزفت وخطب الطاغوت، اسكتي يا جمالات الحيطان لها ودان، ودان إيه يا عزيزتي، إنشالله يكون لها أنياب هيعملوا فينا أكثر من كده إيه؟
تضحك جمالات بصوتها العالي المرح، تبدو سعيدة لا تعرف الاكتئاب، إلا لحظات قليلة تغرق عيناها في حزن مفاجئ وهي ترسمها بالقلم الأسود، أو حين تحلق ذراعيها وساقيها بالموسى، أو حين تمسك طرفي الفتلة لتنزع الشعر عن حاجبيها، تتقلص عضلات وجهها بالألم، تتذكر أمها التي حرقت نفسها في الحمام، تتنهد بعمق وتشير بإصبعها إلى رأسها، المرحومة أمي طار عقلها لما أبويا اتجوز عليها، كان راجل مؤمن صالح، ربنا حلل له الجواز بأربعة، أمي اعتبرتها خيانة عظمى، أستغفر الله العظيم يا رب، كفرت أمي وحرقت نفسها بالجاز، أبويا مات بعدها بأسبوع واحد من الحزن.
تقهقه بالضحك حتى تدمع عيناها، يتهدج صوتها في نشيج يرتج له جسمها الممتلئ، تتقطع أنفاسها يخرج صوتها مشروخا، أبويا لم يخلص لأمي إلا بعد ما ماتت، الله يرحمه ويحسن إليه ... يا رب!
جمالات تأخذ من الفتاة نصف راتبها ثمن إيجار الغرفة، تضيف مصاريف الكهرباء والماء والغاز، لا يبقى للفتاة إلا ما يكفي الوجبات الثلاث، في الفطور فنجان الشاي مع نصف رغيف بالجبنة البيضاء، في الغداء نصف رغيف بالبيض والزيتون الأخضر بدون فنجان شاي، أو مع كوب شاي يحمله إليها محمد جرسون النادي، في العشاء رغيف كامل محشو بالفول المدمس أو الطعمية، تعرفت جمالات على كل من تعرفهم الفتاة، لها طريقتها في الدخول إلى عمق حياتها، تتشمم علاقات الحب قبل أن تقع، تدخل غرفتها تدس أنفها في وسادتها وتقول: سميح كان عندك إمبارح؟
لديها حاسة شم قوية، يهتز الشعر الأسود في فتحة أنفها الغليظ الأفطس، يكاد يشبه أنوف الكلاب البوليسية، تقرأ سورة يس فوق سريرها لتطرد عنه الشياطين غير المسلمة، تقول إن شيطانها مسلم مثل شيطان النبي عليه الصلاة والسلام، وتردد الحديث النبوي الشريف، تنظر في حقيبة الفتاة، تسألها إن كان معها ورقة بعشرة أو عشرين جنيه، حين لا تجد شيئا تمصمص شفتيها، يعني مش عارفة تاخدي حاجة من سميح أو رستم، قصدي سلفة قابلة للسداد مثل قروض البنك الدولي، أو منحة لا ترد مثل المعونة الأمريكية! تطلق ضحكتها المرحة الصاخبة، كانت الفتاة تغضب وتطردها أحيانا من الغرفة، ثم تعودت على طريقها في المزاح، تقول جمالات عنه مزاح إسلامي بريء، على غرار الذبح على الطريقة الإسلامية، تذبح الفرخة في حوض المطبخ وهي تقرأ شهادة ألا إله إلا الله، تفصل رأسها عن عنقها من دون أن يطرق لها جفن، تضعها في الماء المغلي، تنتف ريشها بأصابع ثابتة قوية كما تنتف حاجبيها وشعرات الشنب فوق شفتها العليا.
كانت جمالات تتقبل الهدايا من أصدقائها الرجال، أو قروضا طويلة الأجل. تقول: النبي قبل الهدية يا عزيزتي. أراد سميح أن تترك الفتاة الغرفة وتعيش معه في شقته بجاردن سيتي، التي تطل على كورنيش النيل، واسعة من سبع غرف وثلاثة حمامات، يسكن فيها وحده بعد انفصاله عن صديقته سوزان، كانت رسامة تشكيلية أقامت عروضا داخل الوطن وخارجه، جدها الأكبر كان من البشوات في العصر الملكي، يملك الأراضي والعقارات، أقيمت عليه الحراسة في العصر الجمهوري، آلت أملاكه إلى مؤسسة الرئاسة، مات بانفجار في المخ. عاش أبوها وأمها في الفقر، تمردت سوزان في الطفولة عن طريق الرسم، لمع اسمها وهي طالبة في معهد الفنون الجميلة، تعرف عليها سميح في أحد المعارض الفنية، جذبها إلى دار النشر لترسم أغلفة الكتب، وجذبته إلى الفراش في شقتها في حي المهندسين، أصبحت تنتمي إلى الطبقة العليا، تسبح في الحفلات والمهرجانات الثقافية، في عروقها تجري دماء البشوات ، اشتهر اسمها في المجتمع الراقي باسم سوزي هانم.
Halaman tidak diketahui