تواصل السير في الممر المخصص لسباق الخيل، يسمونه «التراك»، عن يسارها وعن يمينها تمتد المساحات الخضراء الواسعة لملاعب الجولف، تخرج من التراك إلى الساحة الكبيرة حيث مدخل النادي الرئيسي، تسير إلى المبنى الآخر حيث المطعم الجديد واللاونج المكيف في الدور الأول، تصعد السلالم الرخامية العريضة إلى الدور الثاني، حيث المكتبة.
أصبحت تجلس في غرفة المكتبة النظيفة المطلة على حديقة الشاي، يسمونها في النادي «تي جاردن» كلمة «تي» تعني شاي بالإنجليزية، لم يتغير الاسم منذ الاحتلال البريطاني في نهاية القرن قبل الماضي، أصبحت جمالات من عضوات النادي، تمارس رياضة المشي بحجابها الأبيض، تسبح في الماء، بحجاب أسود غير قابل للبلولة، تنطق كلمة «تي جاردن» بطرف لسانها، وكلمة أخرى «الليدو» تنطقها بصوت خافت، كأنما هي كلمة نابية، تقول «الليدو» أصلها في العربية «اللايده»، وهي المرأة المصابة بالنيمفومانيا. - يعني إيه نيمفومانيا يا جمالات؟ - يعني لايده. - لايده يعني إيه؟ - يعني ليدو بالمذكر.
تضحك جمالات حتى تدمع عيناها، تمسحهما بطرف طرحتها البيضاء، عرفت الفتاة أن كلمة «الليدو» تعني حمام السباحة الصغير المخصص للكبار من أعضاء النادي، وعضواته، لم يكن مسموحا للعاملات أو العمال في النادي أن يسبحوا في الحمام الصغير أو الكبير، ولا أن يجلسوا على الكراسي في ال «تي جاردن» أو أي مكان آخر، أو يستخدموا دورات المياه المخصصة للأعضاء والعضوات ولا المطاعم ولا الملاعب. غرفة المكتبة أصبحت المكان المحدد للفتاة، تبقى داخلها من الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر، الساعات نفسها التي كانت تقضيها في ملجأ الأطفال بفم الخليج، لكن المكتبة نظيفة خالية من البراغيث، تحوطها الرفوف المليئة بالكتب، تطل من النافذة الكبيرة على الأشجار وحديقة الشاي، من خلفها ملاعب الكروكيه، كلمة الكروكيه تنطقها جمالات الكركوبة، تقول إن الكركوبة تلعب الكروكيه، فهي لعبة العجائز غير القادرين على الجري، المسنين والمسنات في مجلس الشورى أو المجالس الأخرى العليا، أغلبهم من الطبقة المستريحة، خطوتهم على الأرض بطيئة، أجسامهم سمينة وأردافهم ثقيلة، من طول الجلوس في المقاعد الوثيرة، يتناقشون في أمور السياسة، بعضهم في حزب الحكومة، بعضهم في حزب اليسار، وبعضهم في الحزب الإسلامي، أصبحت جمالات من لاعبات الكروكيه، تنثني بجسمها السمين فوق الكرة مسافة متر واحد أو نصف متر، تتبعها جمالات بخطوات بطيئة، شامخة رأسها الملفوف بالتيربون الأنيق، يتبعها من خلفها ردفاها الكبيران محشورين داخل السروال الجينز الضيق.
لم يكن يتردد على المكتبة إلا القليل النادر من الأعضاء والعضوات، يتغيب سيادة اللوا صبحي باشا معظم النهار، مربع الجسم أصلع الرأس يرتدي البدلة الرياضية لونها أصفر فيها خطوط سوداء، يسميها «تريننج سوت» يضع بين شفتيه سيجارا من هافانا، يقول عن نفسه إنه بطل ثورة يوليو وليس عبد الناصر، عنده الوثائق والبراهين، يعرف أسرار النظام التي يشيب لها الولدان، يمنعونه من الكلام في أجهزة الإعلام، كان بطل التنس والاسكواش، وظيفة أمين المكتبة لا تليق بمكانته، لم يقبلها إلا لأنها في النادي العريق، يأتي إليه كل يوم من أجل الرياضة ومقابلة الأصدقاء والصديقات.
لم يكن أمامها إلا القراءة، في تمام الرابعة بعد الظهر تحمل حقيبة يدها الصغيرة، تهبط إلى الدور الأول، تمر على المطبخ في المطعم، لتشرب كوب ماء، يقدمه لها جرسون اسمه محمد، شاب طويل نحيف في عينيه حنان، تسير تحت المظلة الخشبية حيث ترقد السيارات، كالتماسيح النائمة في الظل، ظهورها المقوسة لامعة، تجتاز المساحة الخضراء الكبيرة لملاعب الجولف، كلمة «الجولف» ترن في أذنها غريبة، تحورها جمالات إلى كلمة «جلنف»، تقول الجلنف يلعب الجولف، تعني به رئيسها في الصحافة، كان أبوه ماسح أحذية يجلس أمام باب السيدة، حصل على الابتدائية ودخل الصحافة وهو صبي صغير، يجري في الشوارع بين السيارات يبيع الجرائد، تعرف إلى صبي يعمل شيالا في محطة السكة الحديد، نمت بينهما صداقة، بعد سقوط الملكية تسلل عبر الصداقة إلى الجمهورية، أصبح يحمل لقب رئيس تحرير، كان صديقه قد دخل الجيش وأصبح يحمل لقب الرئيس.
في يوم لمحت «رستم» من ظهره يلعب الجولف، كان واقفا مستعدا لضرب الكرة، ساقاه طويلتان مشدودتان داخل بنطلون أسود، ضرب الكرة بحركة قوية رشيقة، طارت مثل البيضة الصغيرة، حلقت في الجو وهو يتابعها بعينيه حتى هبطت بعيدا بالقرب من نادي الفروسية، انطلق يسير إليها بخطوات واسعة، من خلفه يهرول الصبي يجر العربة الصغيرة، تطل منها المضارب الطويلة النحيفة. وجه الصبي طويل نحيف محروق بالشمس، يشبه الوجوه في ملجأ الأيتام.
أسرعت الفتاة الخطى تخفي وجهها بحقيبة يدها، تخشى أن يلمحها رستم قبل أن تخرج من الباب الخلفي، تسير بالخطوة السريعة مسافة عشر دقائق حتى كوبري قصر النيل، تتراخى عضلاتها وهي تمشي فوق الكوبري، تتأمل الأمواج الصغيرة المتعاقبة كالأسماك الذهبية تحت الشمس، تقف عند منتصف الكوبري تملأ صدرها بالهواء، تتطلع بالهواء، تتطلع إلى المباني العالية على جانبي النيل، أكثرها ارتفاعا فندق سميراميس إنتركونتننتال، ترفرف الأعلام من حوله، تسير حتى نهاية الكوبري، تنحرف إلى اليمين في شارع الكورنيش، تعود في الطريق ذاته الذي جاءت منه، تخترق حي جاردن سيتي الهادئ إلى شارع قصر العيني الصاخب، تدخل إلى شارع المبتديان ثم إلى زقاق السيدة زينب، كأنما تنتقل من شاطئ إلى شاطئ.
ذات صباح دخل رستم المكتبة، كان يرتدي تريننج سوت رمادية وحذاء كاوتش أديداس، كانت الفتاة مستغرقة في القراءة، رفعت عينيها من فوق الكتاب رأته أمامها واقفا، بشرته ملوحة بالشمس، عيناه يكسوهما بريق القوة والصحة.
تتسع عيناها في دهشة، يسألها عن سبب القطيعة! كان القرار هو قرارهما معا في لقائهما الأخير، كيف ينسى، مشاغله الكثيرة، الانتخابات ومجلس الشورى، الرواية الجديدة التي يكتبها، مشاكله في البيت مع كارمن؟ - إزاي نسيت يا رستم؟ - نسيت إيه؟ - القرار كان قرارنا إحنا الاثنين وبإرادتنا. - وهل الحب يخضع للإرادة يا حبيبتي؟ - يمكن. - إرادة خارج إرادتنا؟ - مش عارفة. - هل فيه إرادة خارج إرادتنا؟ - يمكن. - قصدك قوة إلهية؟ - مش عارفة.
لم يكن رستم يؤمن بوجود الآلهة، لكنه يعتقد أن هناك قوة ما خارج الإنسان، يقول عنها روحية، تسأله الفتاة عن معنى الروح، تشرد عيناه بعيدا، يتنهد طويلا، ويهمس، علمها عند ربي، يكاد يشبه جمالات حين تشرد عيناها في السماء وتقول، الروح لا يعلمها إلا الله، لكن سميح لم يكن مذبذبا، لديه يقين أن لا شيء يتجاوز الإنسان، كارمن مثل سميح تؤمن بالعقل، أما مريم الشاعرة فهي تتساءل دائما لماذا تنتصر إرادة إبليس دائما ولماذا يخرج الشعر الجميل من وحي الشيطان؟ أما الحب فهو مثل الشعر يعلو على الرذيلة والفضيلة، لا يخضع إلا لقانونه الخاص!
Halaman tidak diketahui