اسمه بهي الدين برعم، يندرج في مفكرتها تحت حرف الباء، له باب ثابت في الجريدة بعنوان «النقد الأدبي»، مربع الجسم الأبيض البشرة، أنيق الملابس، حذاؤه لامع بوزه طويل مدبب، أنفه طويل ومدبب يشبه بوز حذائه.
مريم الشاعرة هي التي اكتشفت التشابه، تقول: يمكن الكشف عن شخصية الرجل من شكل أنفه وحذائه ... تخالفها جمالات، تقول: لا يكشف عن شخصية الرجل إلا أصابعه. - أصابع يديه يا جمالات؟ - أعني أصابع قدمه، على العموم هناك تشابه بين الاثنين.
كانت كارمن ترى الأمر على نحو آخر، ربما لأنها تعيش في جاردن سيتي، تتمشى على الكورنيش حيث يتمشى الأثرياء مع كلابهم، تتريض في النادي حيث تتريض الطبقة العليا ... كل منهم يجر كلبا مربوطا في السلسلة. - أنا لاحظت الشبه الكبير بين الكلب وصاحبه يا جمالات. - هذه نكتة يا كارمن. - لأ، حقيقة علمية، لأن الكلب وصاحبه يعيشان في مناخ واحد تحت سقف واحد، مثل الرجل وزوجته، بعد العشرة الطويلة يتشابهان. تقهقه مريم بالضحك وتسألها جمالات: يعني رستم يشبهك يا كارمن؟ - أنا ورستم لا نعيش تحت سقف واحد، لا يمكن أن أعيش إلا وحدي، مع أوراقي وكتبي، رستم يفهمني، لأنه بيكتب، وفاهم يعني إيه الكتابة.
يعني إيه الكتابة؟ السؤال يدور في رأس الفتاة وهي نائمة، تبدو الكتابة عسيرة على الفهم، أغلب الناس يعيشون دون كتابة، يتزوجون وينجبون دون كتابة، ينجحون في أعمالهم ويمتلكون العقارات والأراضي والأموال دون كتابة، يعيشون ويموتون ويذهبون إلى النار أو الجنة دون كتابة، وفي جنة عدن لا توجد أوراق ولا أقلام.
يعني إيه الكتابة؟
يدق السؤال رأسها كالمطرقة وفوق الأرض بجوار سريرها ترقد الرواية، أكوام من الأوراق المتراكمة يغطيها التراب، جثة هامدة فاقدة الحياة، إن لمحتها بنظرة خاطفة تسري في جسدها قشعريرة باردة كالموت.
لم تعد بها رغبة في الحياة، تفتقد القوة على المقاومة، مشلولة العقل والجسم والروح، عاجزة عن كل شيء حتى الحب، انقطعت عن رؤية سميح ورستم وكارمن ومريم، تغلق باب غرفتها في وجه جمالات، الحياة لا تساوي شيئا، لا تستحق أن تعيشها! فما بال أن تبذل جهدا في الكتابة.
دق جرس الباب، كان ساعي البريد يحمل رسالة مسجلة، مكتوبة بحبر أسود، مختومة بالنسر، موقعة من مديرة الملجأ: «نظرا لتغيبكم أكثر من خمسة عشر يوما، فقد تم الاستغناء عن خدماتكم، وتفضلوا بقبول وافر الاحترام. المديرة العامة».
أمسكت الورقة بإصبعين كما تمسك جمالات الصرصار الميت، ألقت بها في بالوعة المرحاض، تنفست الصعداء، أخذت حماما بالماء الساخن والصابون، تغتسل من وظيفتها بالحكومة، تمسح عن ذاكرتها خيمة المديرة السوداء، ووجوه الأطفال الأحبة، وعيونهم الذابلة، إلا عينين محفورتين في ذاكرتها، تطلان عليها في النوم، في الحلم، في المرآة وهي طفلة، كأنما هما عيناها. •••
تسير جمالات إلى مكتبها على قدميها، تخرج من الزقاق إلى شارع المبتديان، يعرفها الجميع في الحي، أصحاب الدكاكين والبوابين، أكشاك السجائر والصحف والمجلات، مطاعم الفول والطعمية، محلات عصير القصب والباعة الجائلين والشحاتين. تسكن جمالات هذا الحي قبل أن يشتهر اسمها في عالم الصحافة، يلجأ إليها العاطلون من الشباب، يعتبرونها واسطة لدى السلطان للحصول على وظيفة بالحكومة أو القطاع الخاص، أو عقد عمل بالخارج، يقبلون عليها وهي تمشي بحجابها الأبيض الملفوف حول رأسها، وثوبها من القماش السميك الذي لا يشف ولا يرف، صيف شتاء، يرتج تحته جسمها السمين، وحقيبة يدها الجلدية الصفراء، بلون حذائها ذي الكعب العالي، وجهها المستدير الأبيض، حاجباها الرفيعان المقوسان، عيناها الكبيرتان المكحلتان، شفتاها الحمراوان منفرجتان في ابتسامتها الدائمة وهي تحييهم بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تبدو جمالات كأنما هي روح من السماء نزلت إلى الأرض لتحقق أحلامهم، ثم تصعد إلى السماء، حيث تخلع عنها جسدها وتصبح روحا غير مرئية، لم يكن أحد في الحي يعرف شيئا عن حياتها الأخرى، إلا أن زوجها مات شهيد الله والوطن وهي أرملته الطاهرة أخلصت له في الحياة والموت ولم تتزوج من بعده أبدا.
Halaman tidak diketahui