بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا
قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان
﵀
أسلم على الحضرة العالية تسليم العاجز المقصر، كما ينظر الهادي المدلج إلى فرقد الليل، واليماني المشيم إلى سهيل. وأصحاب الراح يتعوذون من مغن إذا ارتجل شتم، وإذا سكت صين وأكرم. وأنا أمت بحق التخفيف.
قال بعض الرعاة
" لا تذموا القتادة فإن لها علينا حقًا ".... قيل: وما ذاك؟ قال: " أنها لم تنبت بأرضنا ".
ولو كنت بالغًا في الأدب أطورى، لكنت في تلك الحضرة كالقطرة تحت الصبير، والحصاة إلى جانب " ثبير ". فما بالي وأنا مثقل استعان بذقن، وطفل بهش إلى يفن، وذليل عاذ بقرملة، وعبد هتف بأمة؟ والربيع أغفلت الكمأة؛ وعند المنهل نسيت المزادة. كل امري يغدو بما استعد، وقيل الرماء تملأ الكنائن؛ فماذا يصنع من لا كنانة له ولا عدة عنده؟ قد أضاء الصبح لذي عينين، فهل يضيء لمن لا عينين له؟ ولست ممن يعتب عليه، إنما يعاتب الأديم ذو البشرة، ولا قوة عند العشرة. وفي شهري ناجر تكفأ الظعن إلى قراس وإذا طلع قلب العقرب حبت إلى القوم تهامة. والكسير قد يعلو الرابية، والعاشية تهيج الآبية، ولو ترك القطا ليلًا لنام.
يا قطوف، سبقت الوساع فالحقي، إنها من طير الله فانطقي.
هيهات! ما بالوادي من محتطب، حبذا المنتعلون قيامًا.
ومن العناء رياضة الهرم ريا عبير وبهار، يغني المهرية عن المهار. قد عرض نشر عنبر، منع نجيبًا من معبر.
وقد علم الله، جل اسمه، أني أستنزر ل " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " خلد الله أيامه - كل كثير، فلو حملت إلى حضرته الذهب لظننته صفرًا، أو الإيمان لحسبته نفاقًا وكفرًا؛ ولو جعلت شجر الكافور والألوة قوتًا للنار أوقدتها مهنته في الصنبر تدفع بها قرة ذوات وبر، أوهمتني المحبة أني قد ونيت؛ ولو أهديت ظباء المسك إلى الصوائد التي بين يديه، خيلت لي عظمته أني جنيت. لا جعلني الله ممن يعد الصربة من أفضل جنى، ويغدو بالخرز ليضحي به في " منى ". والمؤبرة خير من الوبرة، وإن كانت ليست بالخيرة. وكل الصيد في جوف الفرا، ولكن من يقدر عليه؟ وهل يطرق أهله بالجأب المسحور من يعجز عن مقطعات السحور؟ وأنا كصاحب المثل، قال: أين أغدو إذا صبحتموني؟ فقالوا: أعن صبوح ترقق؟ وأذكر حاجتي قبل أن أبرم فأجرم، لأن من أتى بالإبرام وقع في عظيم الإجرام: لي - أطال الله بقاء السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء - أولاد أخ قد أوذموا على أنفسهم من خدمتي ما ليس بلازم؛ وأصغرهم سنًا طفل صغير قد وكل بي في الصبارة، كلما أحس بحمام اليانوسة لدى أحياها بالحمم؛ إلى غير ذلك من المآرب، لا يمكن قضاؤها بنفسي.
ولهم أوالب في مدينة " حماة " ولتلك الحوبات أشقاص في أملاك يأمل هؤلاء الحسكل - والأمل ساحر ساخر، وربما وجد هو الصادق. وله نوعان كأنهما برقان: هذا خالب، وهذا للمطر جالب - أن يصيبهم نفع من تلك السهمة. ورفع رافع إلى الحضرة العالية، أن حقًا يجب للخزانة المعمورة على أرض أولئك الدرد النهابل، وسألوني، والمسألة حرمة، أن أسأل " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " في ذلك. فاستحييت أن أكلفهم في اليوم القصير لماسات وروب، ويسألوني شهلاء هي في العمر كالبدر في الهالة والقراب في الخلة والمتقارب في الدائرة، فأردهم عنها مكبوتين، وإنما هي الزهرة في الأفق والوضيعة من الشقر.
وكان يجب علي، من فرط الإجلال، أن أقول لهم ما قال " زرارة " لولد " سويد بن ربيعة " وقد تعلقوا به عند " " عمرو بن هند ": " يا بعضي دع بعضًا ".
ولكن حملني أطيط الحاسة وعلمي بكرم الشيمة، على النهضة بغير جناح، وركوب الصعبة بلا أحلاس. وأنا أجله لفهمه وفطنته، مثل ما أجله لعزه وسلطانه، ولو جاء رجل في طمرى برس أو سمل فراري، أو عاريًا لا يصل إلى الطرائد ولا الهيب، يتلهف على منقل أو سميط تحذى له من أم الهنيبر أو غيرها من الهنبر، ويعتمد على خوارة كأنها منسأة الميت، ولديه الجن العاملة، وفيه من الأدب والعلم بعض ما في " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " خلد الله أيامه، خنعت له بالعظمة والترفيل.
1 / 1
وقد أشرت عليهم بترك تنجزهم الصفح عن ذلك، وقلت: الصبر على القناعة أقبل من سوء الصناعة، والكريم يجب أن يستحيا منه، والجمرة إلى الجمرة نار ينتفع بها المقرور، والنغبة مع أختها ري الظمآن.
فأبوا إلا غير ذلك وقالوا: إنا لا نحمل أوقًا كان موضوعًا فيما سلف. وهذه الأيام المشرقة لو رأتها " دوس " لما قال القائل منهم: ذهب الخير مع عمرو بن حممة.
فجشموني كلامًا في ذلك، فقبح الله معزى خيرها خطة، وشجرًا أطوله التربة، ومؤرثات للضيفان أكثرها ضرامًا ما يوقده أبو الحباحب.
فما برحوا، والكاذب خائب، يرمون بالسروة ويفتلون في الذروة، ويقردون العود النافر، ويزجون ثقالًا قيد فما أيد، ويحدون بأم الربيق على أريق. حتى همت النعامة بكروع، وعزم الضب على الشروع. وأني للوليدة بأزمان القردة؟ ومن الفند أن يسأل نعمان في بريرة، ويلتمس من رياض الحزن إنبات الزهرة. وإذا عذلتهم في ذلك، فلهم أن يقولوا: لأفقر منا يهدي غمام أرضنا، وسائمتنا أحق بما نبت في عرضنا.
وقد وصلوا بهذه الرسالة رقعة يرجون بها من اليد العالية توقيعًا مؤبدًا لا يكون بعده القول مرددًا، بل يحسم بإيجاب طمع كل ناظر وجاب.
فإن جاءت بالنجح فلله الحمد ثم للسيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء ". إذا كرم الزندان لم تتعب في القدح اليدان؛ ومن وقف على العناقة أروى الناقة، ومن نزل " تبالة " نفض البالة.
وإن خابت، فهي حقيقة بالخيبة. المطية رجاحة، والأذن فيها جاحة؛ وإن ثعالة لا تبنى العالة. ولو أصغى المسمع إلى ما يأمر به حسن الأدب، لم أحفل بحظيات لقمان، ممن صدق أو مان، ولا احتملت أسهم القارة خيفة من الحقارة. لأن المسألة في التافه أنبأت عن اللب النافه.
وإنما جعلت هذا المقدار تافهًا، لشرف مقدار المسئول. فأما أنا فمذهبي أن الدرهم يقع عليه اسم المال الكثير. ولو كان في الوجذ فراشة وفي المحل الممحول غذيمة، لكفيت الغافلة من رماها، والجازئة من اسّماها.
ولهؤلاء القوم أريضة ليست بالأريضة، هي من قلة العمل كالمريضة. غراسها ليس بعميم، وثمرها بين الثمر كبنى يربوع في بنى تميم؛ إلا أن أولئك حمدوا في الغارة، وذم هذا حين يغير. وحين يختبز لا يطيب منه الخبز. وما سقى منها بالأبق والأديم، فهو العناء المنصب في الحادث وفي القديم؛ يشتكيه المالك ومن يعمل فيه، ويجعل حليمًا مثل سفيه.
كأن ماءه المنتزع كافر محتقر، غفر له بعد ما مسته سقر، فقد عولي به من أسفل سافلين إلى أعلى عليين. وربما غار ونكز، فلم يفل الملطس في إخراجه حتى يرجع إلى قرواه. تود بهيمة أصعدته، لو كانت في سواد ذي القرنين، تحمل أوتاد خيام أو غيرها من أثقال اللئام، وتسافر من المشرق إلى المغرب، وتراح من هذا البؤس الدرب. إذ كان سفرها لا ينفد وعذابها يجدد. ولا يقنع لها القدر بالأين حتى يأمر بتخمير العين. فالخطوة من العبء قصيرة، والعين عمياء بصيرة. وهي في أوقات النجر يكف بصرها عند الفجر فتنظر إلى القمر دون الشمس، ويومها في الشقوة نظير الأمس. وربما تكون ليست بالزعلة فيستأجر لها غلام عارم لا كريم هو ولا مكارم. فيسوقها بالعجراء سياقة عنيف ويمزق جلدها تمزيق الخنيف. فهي تروى الناضر ولا تلقاه، وتسمع قسيب الأزرق ولا تسقاه. وتمر عليها الدجالة من الرفاق، فإذا سمعت صوت الحافر هاج ذلك عليها طربًا وحزنًا، وذمت إلى الله القادر معاشًا لزنًا.
وترد جباها الواردة، فإذا حمل أمرها على ما ظهر من اللفظ العربي في الكتاب الكريم من قوله عزت كلمته: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ".
وعلى ما جاء في الحكاية عن النملة: " يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ".
وعن الهدهد في قوله " تعالى ": " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ".
فجائز أن تضمر هذه البهيمة أو تقول باللسان ما لا يفهمه كل إنسان، من كلام معناه: رب صلف تحت الراعد، وساع دأب لقاعد.
تقرى البائسة وترد الرائسة.
ردِي رِدِي وِرْدَ قَطاةٍ صَما
كُدْرية أَعجبها بردُ الما
1 / 2
ذهب سيري وساري، وشربت الشاربة قراي. كأن تعبي ما يهبه الله سبحانه لأهل الدار الآخرة كلما فنى نعيم فالله بمثله زعيم. والحوادث بين المنتظر والملقى، والشقاء بعث للشقى. أدرك ما جبيته التلف، ومن قواي أمل الخلف. وأي قوة للمخلوقين؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، ما لعملي من ريع، لقد صدق " أخو بني قريع ":
قد يجمعُ المالَ غيرُ آكلِهِ ... ويأْكلُ المالَ غَيرُ مَن جَمَعهْ
ولا يمتنع في قدرة الله، أن يرد فارس كميت أو ورد، فإذا شرع في نمير ذي برد، ربطه بالكثب من المثاب.
فيقول الشاحج
بفضل الحس: من أين طرأ علينا الكريم؟
فيقول الصاهل
ومن أين علمت بالكرم، ومن دون عينك حجاب قد شد، لو كان دون العين النابعة لما فارت، أو العين الطالعة لما أنارت؟
فيقول الشاحج
عرفت كرمك في وطئك وصوتك، لأن الرائع قموص الرجل، بحجل كانت أو بغير حجل. ولأن جئة في الصهيل تكون بعتق الفرس أبين دليل قال " الجعفي ":
أَما إِذا استدبرتَه فتسوقه ... رِجْلٌ قموصُ الوقْعِ عارية النَّسَا
وقال " لبيد ":
بِأَجَشِّ الصوتِ يَعبوبٍ إِذا ... طرقَ الحَيَّ من الغزوِ صَهَلْ
فيقول الصاهل
أنك لعالم بالعراب، فمن أين لك ذلك والأيام لك شاجنة، ونوبها عندك راجنة؟
فيقول الشاحج
فرض على المنتسب عرفان الخال، ولا سيما إذا كان صاحب الشرف دون الأب. وإذا افتخر " رقيم " بسعد، و" عمرو " بجذيمة، فإنه غير متعد.
فأخبرني، من أين مبدأ سفرك؟.
فيقول الصاهل
من مصر التي قال فيها فرعون: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون "؟ تلك صبرة الذهب، وأم النعيم وينبوع النصفة.
فيقول الشاحج
أكرمت أكرمت، القول ما قالت حذام. تلك الحسناء بعدت من الذام.
إن كان للنجم ظهور فإنه بالقمر مبهور. ولكل ما نبت سموق، ولكن فرعت السحوق، وإذا قيل: الدهر، دخل فيه السنة والشهر.
فإلى أين المحرد؟
فيقول الصاهل
إلى حضرة مواس آس، قد بسط آمل الناس؛ أديب آدب ما هو بجديب ولا جادب. كاد يكون عدله في الآفاق مطرًا، وتأرجت البلاد بثناء عليه فهم الجو أن يكون عطرًا. أقام السوق للفصاحة، وأذكى القلوب بالتذكرة، وأيقظ العيون من طول الرقدة.
فيقول الشاحج
صدق زاعم فيما زعم، إنه لكما تصف وأنعم. وهو على إدراكه جدّ العظماء، ضارب بالسّهم الفائز من سهام العلماء. وليس كذلك جماعة الملوك، لأنهم يرهبون فلا يؤدبون، وإذا كان أحدهم صغيرًا، كان في الباطل واللعب مغيرا؛ حتى إذا كبر أنف فلم يستأنف.
وهذا الأمير كما نطق به الكتاب الكريم، من قوله " تعالى ": " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين ".
فالله القادر يبلغه أفضل آمال المجدودين، إذ كان كما قال تعالت كلمته: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
قد عرف خدع " الأزمان فأصبح من النوب في أمان. يعتقد أن الإنفاق أفضل من الإشفاق، وأن الدرهم إذا جعل في كيس فما يزال في تنكيس.
وإذا هو إلى المقتر دفع، نمى إلى الجو فرفع. وكذلك ينبغي أن تكون شيم الأولياء. زيادتك في در الأيتام، أبقى ذخيرةً من الدر المعتام. ودعاء الفقير أنهض بك من رغاء العقير. وبدارك مغوثة الأرملة، خير من بدرك المكملة. وشاة في يد فقيرك، خير من شاة ترد في وقيرك، إن بقاءها في الفزر، رهن بالنوب لها أو بالوزر، للذي ملكها فلم يزكها، وأرسلها في المرتع فأبسلها. إنما هي معرضة للطارق أو السارق، سيد عمد لها بالتعذيب أو جارمة عيالٍ مثل الذئب. فإذا صارت أضحيةً كانت للناسك تحية.
وذكرٌ باقٍ خيرٌ من سعد راق. إن الذكر من الغير محروسٌ، يلبث فلا يزيله الدروس. فأعط مالك ولو من ذمك، إنه إذا كثر أهمك.
1 / 3
وقد عزمت يا خالي، أن أستودعك رسالةً إلى حضرة هذا الأمير، لتذكر بي ولاة العدل " فإن الذكرى تنفع المؤمنين ". لعل علاوةً تحط عن فودى مثقلٍ، ونزعًا بالغرب يخفف عن خابط عضه، وراحةً ينالها المتعب في النهار والظلم، وعينًا تطلق من السجن الدائم فتبصر الوضح؛ فقد بلغ نسيس الحشاشة وافتقر إلى الكلمة رب الكلمة، واضطر عارٍ إلى سحق النمرة، وألجىء مالك النخل الواعد إلى التمرة؛ ولكل ذي عمودٍ نوى. وكذلك جرت عادة الزمن بتغيير الكينة.
فيكون منك الطول بأن تصل تظلمى إلى الحضرة، فلعلي أنصف مع المظلومين. قد ترى ما أنا فيه، لا يطلب بعد عينٍ أثرٌ، ويريك بشر ما أحار مشفر. والسناسن العارية دلت على البأساء المتوارية؛ وما ظنك بدريس الأهدام؟ وكفى برغائها مناديًا. إذا " ألحت المهرية فلم يبقى عندها من سير جرية، والتلف أهون من الصلف، وموت لا يجر إلى عارٍ، خيرٌ من عيش على رق. وما عبس طأئيٌ في وجه الضيف، إلا وقد صفر وعاؤه من كل طعام. اسق رقاش إنها سقاية.
إني مع الذي ألاقيه من قلة الدعة وعنف السياق، يسوسني أجير كسلان إذا سأله الملاك: أأرويته من سويد؟ قال: نعم. أحششته بعد ذلك؟ أأوسعت له من الحسيك؟ أتفقدته من آثار الأبرار؟ قال: أجل، نعم، حوب!. ويحلف " لهم الحذاء لقد فعل، وهو بشهادة الله أكذب من الشيخ الغريب والأخيذ الصبحان، وتوهم المخفق وتخيل الوالدة، والبرق في عام سنةٍ. والله المستعان على ما بطن من أمر وما ظهر.
ومن العجائب أنه إذا كان يوم أضحى أو فطرٍ، وهم كل تفلٍ بعطرٍ، واهتم المقتر بإخضام العيلة، وسمح للنصب من البهائم بالراحة، وغسل أطماره كل قهلٍ، وضحك إلى أخيه العابس، ورجوت أني لاشتغال الزراع بصلاتهم في العيد وإصابتهم شيئًا مما صنعه الآدميون، أظفر بقسمٍ من الراحة وسهمٍ أنتفع به من الدعة، وإن كان ذلك المرجو أقصر من ظمء الحمار، فإن الظمآن يعتصر بنسيم الريح، والجائع بلوس النواة، ولا أشعر بما في الغيوب. لقد لقى أحد الشركاء في رجلٌ من جيرانه يكرم عليه، فسأله أن يعيرني ولده كي يركب مع الولدان، فأجابه إلى ذلك. فانصرف الرجل إلى ابنه بالحديث، وهو من عرمة الصبيان. فأول ما صنع أن استعار سوطًا من بعض الناس، فإن عدم ذلك أخذ قصيدةً قصيرةً يأمن كسرها عند الضرب.
وبت محدثًا نفسي بالخير، حتى إذا كان بين الفجرين قبل أن يضح منهما المستطير، أحسست ببرة الرتاج تقرع على أهل الدار. فقالوا: من؟.
قال: فلان بن فلان " أنجز حرٌ ما وعد. فقالوا: دونك.
فدخل فحلني من المربط، وذهب فركبني بأغباش الليل، ووضع في مرة سوطٍ أو صدر وبيل. فلما فرق بين الشبحين، وانتشر أضوأ الصبحين، وخرج الفتيان على دوابهم، جعل يحثني بالضرب لأحضر كإحضار الخيل الجامة والشواحج المودعة، وهو على ظهري مثوب: ويبك أما تخب؟ ويبك أما تقرب؟ هيهات هيهات! ما باللمعة حبة، ولا في الأرض المجدبة ربةٌ، ولا بالشاجنة ريةٌ، ولا عند الراعية مفرية.
وهل ترك سغب من مناص؟ إن العير عجز عن القماص؛ إن الخبب وليته الشبب فهو بوجرة أو السماوة، والتقريب أودعته السمسم فألف الجريب.
حتى إذا اليوم متع وجهد أقصى الرمق، عثرت عثرةً فإذا الغلام قد سقط على الأم البرة. فلولا أني خشيت البارىء لوطئت رأسه وطأة متثاقلٍ تلحقه بعادٍ وثمود. ولكني رهبت العاجل من العقوبة، وهبت أن تكون له أمٌ صالحةٌ فتدعو على ملك الملوك. فقام سليمًا من صرعته، يعتمد كشحى بوبيله.
ومن العني والعناء ضجك الفتيان والبهائم علي. القوائم كثيرات الوفز، والثبج لا يخلو من عفز. وقد أثر الكدان في العنق أثرًا أبيض يظنه من جهل برصًا، وليس كذلك. فلو أقمت الشهادة بين يدي قاضي البهائم لما أمنت ألا يقبلها، إن كان يحكم بما في كتاب الدعائم.
وانصرف غير شاكر ولا مشكور. فلما ردني إلى المربط، لم يلبث أن جاء الزارع فحلني للعمل. فيا لك يومًا ما أطول! كان عند غيري كإبهام القطاة، وغاداني بحمى نطاة.
1 / 4
وفي أي شقوة لا أضع معلى القداح؟ ألست في عنبرة الشتاء يأخذ عباءتي الأجير فيتدفأ بها في الليل، فأمارس قرة الأشهبين؟ وإذا نظرت الباقع الموسومة بعين أو عينين، وصار الحائل من الأمكنة نظير الحولاء، وأصبح أثر الأعمى الدار كالعبقرية ما حماه من الشقر " أبو قابوس "، ورعت الكودان الشقر ما يشبه نبت المعرفة من الشقراء، وذلك من النصي المعلول، فحوافري من العفر غبر، إنما تقع بغبراء منعها القدم والسنبك من النبات، وجحافلي من عض المصر متقريات، وأعمامي من القمر الوحشية وربائط الأهل، كأن جحافلها من الخضرة مسبدات المقتبلين.
وإذا لاح الشرطان في السدفة، واختلفت أصوات المطوقات، وهاجت أشجان المتشوقات، وذكرت الشيخ الدالف بعصور الفتيان والشمطاء الهمة بعيش الفتيات، ذكرتني أزمان أنا فلو خلف المقرفة أرتضع ضاويين مثل القرطين. ولا أحفل بوضع القرطان. أهض البهارة بسنابكي، وأفضل الحوذانة لا أبالي، وأخلف المرجقوشة وهي تذمني، وأطفيء عيون العبهر بهزل مني، ولا أكرم نور الأقحوانة لمشاكلته الأشنب من الثغور. آونة لا تعرف وسمًا عنقي، ولم تعقر الطلقة ظهري، ولم يؤثر الدأب في إهابي. لا أقف بذرًا بيطر، ولا أفرح بنزول القطر. فأما الآن فأنا أسر بالغادية من الشاب المعرس بالهدي غير الصلفة. لأنني أنال الراحة إذا الغيث قلد البلاد. وإذا رمقت أحد الفرغين أو الرشاء، دعوت الله أن يريحني من ذات الفورغ ورشاء أحصد فبلغ القتال. وإنما يبكر إلي العامل في الغبش فألمح طوالع النجوم. ولو كنت من أهل الإيمان ورصفاء الطوية لقد أجيبت الدعوة. ولكني أحلف فإذا حنثت لم أكفر، وأخاف أن يحسب ذلك طرفًا من الكفر " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ": أقسم لا رمت المعلف ولو كسر عليّ القشبار، فإذا جاء السائس وأخذني بالوبيل ألقيت الألية وخرجت ذا إران.
ولعل السامع ينسبني إلى الكفر من أجل مناسبة أبي زياد، اتباعًا لقول الناس في الرجل إذا ضربوا به المثل: هو أكفر من حمار. قال الشاعر:
وغرتني صلاةُ أَبي خُبيبٍ ... يُصلي وهو أَكفرُ من حمارِ
وإنما يعني بذلك " ح بن مويليك بن مالك بن نصر بن الأسد "، وقد قيل إنه رجل من قوم عاد. فأما الحمار الدابة فما الذي أوجب له الكفر وما برح مطية الصالحين؟ وإذا أضنى قرص المغنيات في الهجر إلى غشيان المجنونة، جلدني العسيف جلد العاهر أو القاذف، وقد علم الله براءتي من القراف. وإني لأعرف الطيرة في وجهه وهو فال.
وقد عزمت أن أنظم هذه الصفة في بيتين من الشعر أو ثلاثة، فإنه أسرع إلى حفظ المرسل، وأخصر تكلفًا من اللفظ المهمل. والموزون أذهب لما في صدر المحزون. وما سجع، دونه وإن رجع. والقول المبثوث كالبعير الأورق لا ينبعث وهو محثوث.
وحملني على ذلك، ما قد ظهر على ألسن الناس من أن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أعز الله نصره تعالى قد رفع من قدر الشعراء، يعلي مجيدهم ويكرمه، ويعطي المقصر ولا يحرمه، وينقد المنظوم السائر نقد الصيرفي ماله، ويعرف مشكله معرفة السعدي ماله.
ولقد تحدث الناس بأن رجلًا من النظمة مدحه ثم لفظ عصبه من قبل أن تخرج إليه الجائزة. فأمر بإعطائها ورثته. فأشبه فعله في ذلك ما فعله " النعمان بن المنذر " ب " شقيق " لم تمنعه المنية من الظن الحقيق. وفد على " اللخمى الجبر " فجعل حباءه على القبر، حتى جاء آخذ الحباء من أهل الدفين.
وكيف يحجز - أعز الله نصره - عن الحزامة وقد حلب الزمان أسطره وقرأ من كتاب القدر أسطره، وأراه فهمه وفطنته أن المكرمة إذا شهدت لها القافية فهي ببقائها وافية، والمجد إذا حاطته القصيدة لم تعصف به النوب كأنه أصيدة؟ وإذا ضمن حديثًا روى، سلم لصدقه الغوي. ما سار عن " الكندي " وسرى، أبقى على الغير من أبنية كسرى:
والشعر يستنزلُ الكريم كما اسْ ... تَنْزَل رعدُ السحابةِ السَّبَلاَ
1 / 5
فما بالي يا خالي، لا أعرف فيك بشاشة للمسألة؟ لا تكن من الذين إذا طلبت منهم الحاجة سكتوا، وإذا سئلوا في الشيء المعرض نكتوا. اسق نغبة من صفنك يقيض لك ربك من يملأ مزادتك؛ وأطعم المقوي ثمرة من دجوبك يحفظ ربك حائشك؛ وأعن حاطبك بالشبم يعظم نارك، وانصر المظلوم بالكلمة تنثر باليد واللسان؛ واغد البائن أكن معليك، وكن السابق أدع مصليك. وأعر الجازر مدية يطعمك من أطايب الجزور، وأعط المورد مرسًا يور غنمك؛ ولا تضيعن حق الرحم فإنه لا يجهل: إن العامري ليحس للسعدي، وإن الرجل من بلى ينتصر للفتى من ولد مرة بن عوف، وما بينهما إلا صهر البلوية. وحسبك بما يعتقده بنو النجار في بني عبد المطلب؛ وزهرة برسول الله ﷺ أحق من بني أمية. وإن أحياء قضاعة لتعطف على أحياء مدركة، والذي أوجب ذلك ولادة " ليلى " طابخة وأخاه. عند إلياس بن مضر.
وقبلك أحبت كلب بن وبرة " عبد العزيز " ورئمت قيس " بشر بن مروان " وإن القبط لتلزمهم النصرة لولد إسماعيل، من قبل " هاجر " ﵉.
والخال أثبت نسبًا من العم، لأن الرجل يشك في نسبه من قبل أبيه، ولا يشك في نسبه من قبل أمه.
على أن سوء الحظ يرمي الحقوق بالعقوق.
وإن اصطنعتني بيد، جازيتك بثناء مخلد، قال الشاعر:
ارفعْ صديقَكَ لا يَحُرْ بِك ضعفُه ... يومًا فتُدركه العواقبُ قد نَمَى
يَجْزيك أَو يُثنى عليكَ وإنَّ مَنْ ... أثْنى عليك بما فعلت فقد جَزى
وكأني بقلة الجد قد شنعت صوتي في أذنك، وأساءت نقبتي في نظرك، وضعفت حواري في لبك، والقدر نوعان: جد وحد، فالجد يرعى النعم وربه نائم، ويحفظ بيت المكثر وقعيدته غائبة، ويحوط اللاعب وإن لمس بيده الأراقم، ويطعم الهجرس فريس الضيغم، والغراب الأبقع قنيص الباز الأشهب، ويقيم الحرة على رأس الأمة، ويجعل حجل الخدلة في ساق الكرواء، وسوار الغيل الناعم في ذراع المدشاء، ويكسو الوادع وإن غفل عن طلاب الشرف، محاسن المشمر في طلاب المجد والكرم. وينسب إلى البيطن أمطار الشرطين، وإلى الثريا نوء السماك.
والحد، يخرج الأكلة من فم الغرثان حتى يلقيها في جول القليب، ويقلد المخدرة ذات العفة قلائد الرواد المومس، ويجعل ثوب الخرص حليف الإعدام طعمة للغاضية من النيران؛ ويوهم النابل أن قرنه مملوء بالنبل وأنه قد خرس من أجل الكثرة، فإذا عيث يرجع لم يصادف من أهزع؛ ويرد الواردة عن الماء الخضرم تشتكي لهاث الحرة؛ ويعلم الوالدة عقوق الطفل الصغير، ويسلك بالدليل الخريت وادي تؤلة وطريق العنصلين؛ ويوهم صاحب الواعد أن المرجبة حضلت فيرسل عليها الجذوة.
ولا يغرنك ما تراه في الكفل والأقراب من الجلب والندوب، فإن المطر إذا جاد الأرض ضحكت بعد عبوس وخرجت إلى النعمة من البؤس.
فيجوز والله قدير، أن ينطق الصاهل - وهو " تعالى " منطق كل الحيوان فيقول: اطرقي يا ماعلة، وأطري فإنك ناعلة. وانغلي في الشاكلة فإن عليها برجدًا، وأوضعي في الجرد تحتك أجدًا. دعواك من قلة رعواك، ومن أدعى فبئس ما سعى: إن كان صادقًا فالشاهد لنفسه لا يقبل وإن كان كاذبًا فالكذب خبل وخبل:
لم تدعى الأمر لمه
ووكل بلاء بالكلمه
إن كنت يمينًا فالحنث إزاءها قائم، وإن كانت عدة فكأن الخلف عليها دائم، وإن كانت سوفية فأخلق بها ألا توجد وفية. لو ادعت العضاه أن ثمرها البرم، لوقع في نفوس بعض الشجر شك في ذلك؛ أو زعم اليربوع أن الراهطاء ملك يمينه لأمكن في قضاء الله أن ينازعه فيها عضل أو قزلاء؛ ولو خطر في نفس الدرة وهي في المحارة أنها الغريبة من الدر، جاز أن يحولها الله القادر حيوانًا لا ينتفع به، أو نطفة ليست بالمروية.
ويكفيك عيبًا للمدعين، أن رسول الله ﷺ جعل البينة على المدعي، وحسبك بتلك ظنة.
1 / 6
زعمت أني خالك؟! وأين الآفق من اللئيم ولدته غافق؟ وما بين الشربة والصربة من سهمة؟ وما قرابة البيدانة إلى الريدانة؟ ليست الرقلة عمة للشيحة ولا خالة. ما للجبس الهدان وتنسبا في عبد المدان! إن حليف الزارة قد يقرب من الفزارة ولا يكون السبد أخا لبد. فلا تغرنك الأسماء، قبل الشائم كانت السماء. ما العكرمة هتفت بدهل، ك " عكرمة " ولد أبي جهل، ولا الطلحة رعتها الإبل في الروحات، ك " طلحة الطلحات "، ولا السلمة غضبها راع، ك " سلمة " أخي القراع، ولا الثمامة ضعف عودها، مثل " ثمامة " نفس تنجر وعودها، ولا العبس المشموم عند البكرات، من " عبس " التي هي إحدى الجمارت. إنما السمة علم يهدي المكلم به والمكلم. ليس " قتادة " راوي الأخبار مثل القتادة هناتها كالإبار، ولا العوسجة ذات المصع مثل " عوسجة " فتى المصاع، ولا العرفجة صاحبة نار الزحفتين مثل عرفجة ماض منصاع. ولا الرمثة بقلت وأدبت، كرمثة الرجل إذا الفوارس نجبت؛ ولا " عفارة، صاحبة ميمون " من العفارة أتتك بالنور المخزون، ولا " عتر " من: عاد، كعتر نبت في مكان متعاد. أحسبت " النمر " وهو عكلي، مثل النمر جريحه من البر كلي. أم عندك أن " ثعالب جلهمة " كثعالب صادفت مرهمة، فوبرها بالقطر بليل، وكلها إلى قوت العيلة خليل؟ أم ظننت أن " ذئبًا، جد سطيح " كذئب يهتبل بجد نطيح؟ أم " أسدًا وهو أخو كنانة " كأسد حمى البنانة؟ أ " ثعلبة أو قيس " كأم التتفل حليف الكيس؟ أم " عمرو بن معد يكرب " مثل عمر ثنت وقرب ليس ورد ظهر في ربيع الأزمان، كورد قهر في ربيع الغدران. ربما سمى الرجل بحرًا وهو شحيح، أو داء يرهب وجسمه صحيح. أدرع الرود خلقًا أو جديدًا، مثل ما نسجه " داود " حديدًا؟ أعير في الورقة حقير، كعير في الهامة له توقير؟ ما العنتر إذا أكثر ترنمًا، ك " عنتر " في قطيعة يريد مغنمًا. أذباب السيف قطع في القراب، كذباب الصيف نعت بالإطراب؟ ما " أسامة بن زيد " أين ذهب، كأسامة في طرفاء ذعر وأرهب؟ ذلك تقى سري، وهذا الآخر هو القسوري.
أغرك أن جاهلًا من القوم كان يدعو أمك فرسًا؟ ليت لسانه من قبل ذلك أشعر خرسًا. حن شجير في الربابة، وضبح درص في الغابة. كيف تنسب الحواءة إلى السخبرة، والوبر المتوقل إلى وبرة؟ وفي الشجر دوح وسواه، وما أميل الرمل كلواه. وقد فرق أهل المعرفة بين أمك وخالك وبين الخيل العراب، فسموا أمك رمكة وأخاها كودنًا. وإن في ذلك لما يوضح أمرك.
وإذا دعا العيد سيد القوم عمه، فغير آمن أن يرجع لطيم الوجه. وإذا الأمة أرادت أن ترضع ولدها من ثدي الحرة السيدة، جاز أن يرد أملها بالنجه.
ما ظنك ب " جليلة، أخت جساس " يدعوها ابن الراعية: يا خالة؟ وما قولك في " بنت الخرشب أم الكملة " يهتف بها ابن العبد المجدع: يا أمه؟ أيرضى " كليب وائل " أن يكون خالًا لابن المحتطبة؟ أم يقر " بنو بدر على أن يكونوا للحبشة أسرة؟ انظر في ذلك فرب جناية لم تأت بكناية.
وأما شكيتك ما تلقاه من أحداث الزمان، فإن أقدار الله جرت على الأذلال. وهل يملك أحد رد الأقدار؟ ما تقول في القمر لو شكا الدأب في ليل ونهار؟. أصرف مذ عنه إلى سواه إلا أن يقضى ربك نقض المرة وتغير الفلك؟ ولو شكا " ثبير أو نعمان " ما يلاقيه من حرور القيظ وأريز الشتاء، هل كان إلى دفع ذلك عنهما سبيل للمخلوقين؟ ولو زعم القراح أنه يلقى شدة من الكراب والدبل، هل وجد آويًا له من ذلك؟ أرأيت القتادة لو ذكرت أن الشوك يبعث إليها الألم، هل قدر آس أن يداويها من ذلك حتى تنبت وليست بالشاكة؟ هذه " عين أثال وغمازة " لو شكتا ورد الوحش خبطهما بالحوافر، هل زوي عنهما ذلك بحيلة من البشر؟ وأي شيء من أصناف الحيوان لا ينصب ويقصب؟ ألا تعلم أن بني آدم ملوك الأرض، لا يعدمون هما آبًا وسهمًا من سهام القدر صائبًا؟ في كل صدر من الناس شجون، ولكل نطفة أجون.
فأما نحن معاشر الجبهة، فترمى بوادينا الغمرات وتشهد على ظهورنا الغارات. وقلما اطرد فريقان من العرب إلا وأجلى النقع الثائر عن قتيل منا وعقير. وبذلك سلفت العادة من قديم الزمن. ألم يبلغك المثل في يوم " شعب جبلة " وهو قول القائل: " كالأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر "؟ وقال " الجرمي " في " يوم الكلاب ":
فِدًى لكما رِجْلَيَّ أُمِّي وخالتي ... غداةَ الكلابِ إِذ تُحَزُّ الدوابرُ
1 / 7
كم بين معيشة في دعة، وكبد بالأسنة متصدعة! وإن كانت الشواحج في شقاء فإنها لا تهلك أوان اللقاء. إنما تحضر الهيجاء معينة على حمل الأثقال، فلا يعمد إليها الطاعن بإرقال؛ ولا تبيت من شهود الغارة وجلة، مبطئة كانت أو متعجلة. وإنما يفرق من اعتراك القوم فرس يلقى الصوارم بهاديه، ويعاين الشجب فيراديه. هل حدثت بواحد من أصحابك هلك بطعنة أو ضربة؟ فأنتم من ذلك مثل حمام الحرم إنما يأتيها الموت بيد القضاء فتموت حتف الآنف؛ فأما نحن فنباشر الشوكة إذا واجهنا الفئة، ولا نأمن حدها عند المنصرف. ورب ميت منا في الشأو المغرب، كظه الدأب والغاية إلى أن فاظ.
وقد افتخر " الجعدي " فقال:
وإِنا لَحَيُّ ما نعوِّدُ خَيْلَنا ... إذا ما التقينا أَن تَحيدَ وتنفِرا
ونُنكِرُ يومَ الروع أَلوانَ خيلِنا ... من الطعنِ حتى نَحسَب الجوْنَ أَشقرا
فليس بمعروفٍ لنا أَن نردَّها ... صِحَاحًا ولا مُستَنكرا أَن تُعَقَّرا
وقال " عامر بن الطفيل " وعقر فرسه:
ونعم أَخو الصعلوكِ أَمسِ تركتُه ... بتُضروعَ يَمْرِى باليدين ويَعسِفُ
وقال " عروة بن الورد ":
أَقِيه بنفسي في الحروب وأَتَّقي ... بهادِيه، إِني للخَليلِ وَصُولُ
فمتى أصاب أحدًا من رهطك سنان بشر، أو قتل في كر وفر؟ وهل حدثت عن بعض أسرتك أن مهندًا أفرى عنقه، أو أصاب المفصل فطبقه؟ وأكل أبناء أبيك محرم في الملة، فقد أمن كلها حد المدية وغليان المرجل، وأن تهرأ بضيعه الإرة. ونحن لسنا كذلك، بل كانت العرب تأكل لحومنا في الجاهلية، وتركها الشرع الوارد، على تلك السكنة. أليس " حاتم " والمثل به مضروب في الكرم، عقر فرسه لامرأة طرقته معها أيتام؟ ولعل " اليحموم " وهو لركاب " النعمان " ما فقد أذية من الدهر، وإنه لطرف الملك، فما ظنك بطرف المتصعلك؟ وبنو آدم، كما علمت، لا يحفظون الخلة ولا يراعون الخدمة. أليس أعمامك وأبوك من أعظم دوابهم نفعًا وأقلها شماسًا ونفرًا؟ يركبهن الشيخ الهرم والطفل المتعرم وهما آمنان من السقطة وسوء العاقبة، وتردها للحاجة الكبيرة المهترة والكعاب المتسترة، ما لقيت في ذلك عنتًا ولا عنفًا. وقد يكون بعضها عند المقتر أبي السلفان، فإذا كان الأفق كالمريب من بياض الضريب، وكان ذلك في عين البائس المعود أقبح من الوضح في عين المتهود، حطب عياله عليه فجاءهم بأجدال الشجر وجزل القطيل، فأوسعهم من جمر يتلهب، ودون في صرف القر الذهب. فإذا حطبهم الكفاية عدل بالعضد إلى المبتاعين فباع بالدرهمين مرة أو الدرهم، وجعله في الأمر الأهم: من شراء جابر بن حبة والمضيء بن الضروة وإذا كان زمن الرقاع نقل إلى مكان الشغلة ما هذ بمخالب العالمين من لغيف وأرنيف وإذا ركى القوم نكز، جلب عليه الشرب الناقع فأروى الدردق وشرب منه الصادون، ومن رغب في غسل وطهور. وهو في ذلك إذا عثر على بعد لعنه، وإن كان مكثبًا تناله اليد، وكزه بالمطرق أو طعنه. وليس في الحنادس المظلمة بتارك له من استعمال فيما عد بقليل من المصلحة، أو يمتهنه في بعض الأرجاء، حتى يكون ما كسبه المجترح من الحبوب طحنًا يقدر على استعماله باشر أو باكل، هو لجشب الطعام آكل.
ولم يكف ولد الإنسان ما أحلوا بأسرتك من الكد والهون، حتى أتبعوا ذلك قبيح المقال، فضربوا المثل بهن في الذل، وقرنوا إليهن في التشبيه من يستغبون من الرجال. وقال قائلهم على وجه الدهر:
إِنَّ الهوانَ، حِمارُ الأَهلِ يَعرفُه ... والطِّرْفُ يُنكرُه والجَسْرةُ الأُجُدُ
وقال الشاعر:
وما المولَى وإِن عَرُضَتْ قَفاه ... بأَحْمَلَ للملاوِم من حِمَارِ
وشر من ذلك ما فعله " الدارمي " من السوءة الباقية على الأيام: لما سب " جريرًا " وقومه، قذفهم بالذي يكنى عنه فقال:
لعلك في حدراءَ لُمْتَ على الذي ... تخيرت المِعْزَى على كلِّ حالبِ
عطيةَ، أَو عبدٍ سواه كأَنه ... عطيةُ زوجٍ للأَتانِ وراكبِ
إلى غير ذلك مما ثبت في الصحف ودون، وتناقلته الرواة في عصر بعد عصر.
وتلك الآبدة، لا وسم في العلباء وتوقيع في الملبد، ونعوذ بربنا من خزي الأبد.
1 / 8
سب صاحبك وكل خيزبته، ولا تذكر في ذلك معرفته. اضرب عسيفك واغصبه قبضه، واحذر أن تقذف ربضه. جعل في النساء ما ليس هو من أمر النساء. يغفر لك ظلم الأيام ولا يغفر قبيح الشتام. من قذف بكلمة في المنطق أخف من حصاة الخذف، فهي أثقل من الهضبة عظمت عن نزع وقذف. إذا عرفت من عبدك ملأمة، فلا تعيبن امرأته الأمة.
لا تصبر الأجمال الوانية إن قيل إن الناقة زانية. ولكن الأنيس إذا عرفوا ذلة ذليل طمعوا، وإذا لقوا بالعزة نقضوا الذي أجمعوا، لا تفرق رءوس العيدان من وطء الناقذ ولا الهدان؛ والقمر لا يلحق به الغمر. ولا تشد الرحالة على ثبج بحر زاخر، ولا تناط الخزامة بأنف جمل قفاخر؛ ولا يلعب صبي بالصل ولا بالمرمة بنت الظل؛ إنما توطأ مغاريد القاع ويخزم أنف جمل وقاع، ويجترأ على ظهر ذلول، ويلعب الطفل بولد العكرشة، ما أهون دمه من مطلول.
وفي الحرملة طمع الأرملة. والصدق أنبأ عنك صاحبك، ونهاه أن يناحبك.
والإنس لا تحفظ محارم الإنس فما ظنك بغير ذلك؟ العرب غزت الروم فقلدت بناتها الكروم، وما ذلك لكرم المسبية بل لحاجة في الصدر خبية. والروم غزت العرب فلقيت البأس والحرب. وإذا كان الإنسى لا يعرف قرابة إنسى فهل ترجوه للحفاظ راعية ذبح بالبسى؟ وإذا رأيت النمر لا يبر النمر فلن يبر الظبي الخمر. وإذا أضحى الأسد غير مشفق على الشبل فما يشفق على أولاد الإبل. وإذا نشأت الحجر العربية ترمح عن الظبي المهر، فهل ترضع جآذر الصوار الزهر؟ وإذا غدت السعدانة لا تغر جوازل أختها الفقيدة، فالنسر وإن ضرب به المثل في البر، أجدر أن لا يلتفت إلى غربج للورقاء المصيدة. إن الصورة توجب مودة مصورة، واختلاف الصور لا يلام أهله على الزور. ألا ترى ما فعله بنو آدم في أولاد " الجديل " وغيره من فحول الإبل؟ حملتهم في كل سفر فلم يرعوا ذلك لبنات " العيد ". وقضوا على ظهورها ما صعب من مآرب النفوس، فما عرفوا تلك العارفة لطليح معكوس. تحمل الرجل ناقة مالعة ما هي في سيره والعة، ويكون قصده بها أرض الحرم آملًا أن تغفر ذنوبه، وقد كثرت في الآثام عيوبه، فتلقى تحته من الظمإ ومراس الخنتار ما يهون عليها الشجب.
تحمل المزادة المروية وكبدها صادية، وتصمت عن اقتضائه بالمأربة والحاجة بادية. حتى إذا أتهم بها المغذ، خطىء فرمي صيدًا، فعقر تلك الناجية فيدًا فيدًا. فلا إله إلا الله، يتحرج ابن آدم من إلحاق المخشي بحيوان وحشي، فيغسل حوبه فيما يزعم بقتل حيوان قد صحبه وفعل معه خيرًا واستوجبه: حمل رحله وزاده حتى آب من السفر بلاده. فأي أقرب وسيلة: أربداء تصاحب حسيلة، أم وجناء أذهبت نقيها لسيرك وكان لبنها من ميرك، وقتها فيما غبرك من الدهر مثل ما تقوت عيلتك؟.
ومن عجائب فعال الإنس أنهم إذا أرادوا سلوك بلد معطشة ظمئوا الإبل عشرًا حتى إذا لم يترك الظمأ لها أوردوها الرفه، ثم سلكوا بها المفاور فإذا " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " الماء بقروا بطونها فشربوا الفظ. وقد وصفوا ذلك وتناقلوه، فقال " علقمة بن عبدة ":
وقد أُصاحبُ أَقوامًا طعامُهمُ ... خُضْرُ المَزادِ ولحمٌ فيه تَنشِيمُ
وقال الشاعر:
سَقَيناهن رِفْهًا بعد عِشْرٍ ... وأَوْكرنا المزادَ من الكُبودِ
وقطَّعنا مشافِرَها وخِفنا ... تجرُّرَها، فما اجترتْ بِعُودِ
وأنشد " أبو عمران الكلابي ":
أَوْنًا فقد إِنَّا على الطُّلُحِ ... أَيْنًا كأَيْنِ الحافرِ المُوَكَّحِ
نرمي بها كلَّ تنوفية ... غبراءَ مثل الأَنجمِ اللُّمَّحِ
مَزادةُ الراكب فيها إِذا ... لم ينتضِ المخصفَ لم تُفتح
وقال الشاعر:
ضمِنَتْ لهم أَرماقَهم إِسآدُها ... وجُرومُها كأَهِلَّةِ النحل
ورَدوا بأَرشية الحديد ففرَّجوا ... عن ثائر الجنَبات كالغِسْلِ
وشربوا دماءها فصدًا في الجدب، وأكلها فقراؤهم ميتة، وقالوا في المثل: " لم يجزم من فزد له " - يريدون: فصد له، فسكنوا الصاد على لغة ربيعة، ثم أبدلوا منها الزاي - فسبحان الله، قضوا عليها من قبل التلف أمورًا، وجعلوا بطونهم لها من بعد قبورًا! وليس ذلك من كرامتها عليهم. كان لبعض لأعراب جمل فكان يعمل عليه ويتعبه، فتنبل، فجعل يأكل لحمه ويقول:
1 / 9
إِن السعيدَ من يموتُ جَمَلُه
يأكلُ لحمًا ويَقِلُّ عمَلُه
ثم رئي بعد أيام، وقد ساءت حاله لفقد كد ذلك الجمل، وهو يقول:
من يشإِ الرحمنُ يُقَلِّلْ خيْرَه
ما وجد الموتُ بعيرًا غيره
ومت صبر شيء من البهائم على عنت بني حواء، ما صبرته الإبل: أنضوها سيرًا، وقروها في التنوفة سباعًا وطيرًا. قال " أبو زبيد الطائي " يذكر مساحي حفر بها قبر:
لها صواهلُ في صُمِّ السِّلامِ كما ... صاح القَسِيَّاتُ في أَيدي الصياريف
كأَنهن بأَيدي القومِ في كَبَدٍ ... طيرٌ تعيفُ على جُنٍ مَزاحيفِ
وقال " ذو الرمة ":
ومثلُكِ أَو خيرٌ تركتُ رَذِيَّةً ... تُقَلِّب عينيها إِذا طار طائرُ
وأشنع من ذلك كله، ما ذكره " الفزاري جويرية بن أسماء " مفتخرًا به، من أن ذئبًا تعرض له في السفر فعقر له راحلته، وقال يتكثر بذلك:
ولقد أَلَمَّ بنا لنقريه ... بادِي الشقاء محارَفَ الكسبِ
يدعو الفنا إن نال عُلْقتَه ... من مَطْعَمٍ غِبًّا إِلى غِبِّ
وطوَى ثَميلتَه فأَلحقها ... بالصلبِ بعد لدونةِ الصلْب
يا ضلَّ سعيُكَ ما صنعتَ بما ... جمَّعت من شبٍّ إِلى دبِّ
فجَعلتَ صالحَ ما احترشتَ وما ... جمَّعت من نَهْبٍ إِلى نَهْبِ
وأَظَنَّهُ شغْبٌ يُدلُّ به ... فلقد مُنِيتَ بِغَايَةِ الشغْبِ
إِذ ليس غير مَنَاصلٍ نعصى بها ... ورحالِنا وركائبِ الركبِ
فاعمِدْ إِلى أَهل الوقير فإِنما ... يَخشى شَذاكَ مُقرقصُ الزَّرْبِ
أَحَسِبْتَنا ممن تُطيف به ... فاخترتَنا لِلأَمْنِ والخِصْبِ
وبغيرِ معرفةٍ ولا نَسَبٍ ... إِنَّا وشعبَكَ ليس من شعبِ
لما رأَى أَنْ ليس نافعُه ... جِدًّا، تهاوَن صادقَ الإِرْبِ
وأَلَحَّ إِلحاحًا بحاجتِه ... شكوى الضريكِ ومزجَرَ الكلب
ولَوى التكلُّحَ يشتكي سغَبًا ... وأَنا ابنُ قاتلِ شدةِ السغبِ
فرأَيتُ أَن قد نِلتُه بأَذى ... من عَذْمِ مَثْلَبةٍ ومن سَبِّ
ورأَيتُ حقًّا أَن أُضَيِّفَه ... إِذ رامَ سَلْمِي واتقى حَرْبي
فرمقتُ مُعتامًا أزاوِلُها ... بمهنَّدٍ ذي رونقٍ عضْب
فعرضتُه في سَاقِ أَسمنِها ... فاحتاذ بين الحاذِ والكعب
فتركتُها لعيالِه جَزَرًا ... عمدًا، وعلَّق رحْلَها صحبي
فهذا أحق بمطيته من السري تعذيبًا، ثم قراها بعد العنت ذيبًا.
أليس في حكم الشرع أن راحتله أوجب عليه حقًا من السيد، كما أن مناسبه أوجب عليه حرمة من البعيد؟ ولو أنه ضيف إنسي، لعذر أنه جنسي.
وأما المثيرات الكوارب، فاستعملوهن ثم أكلوهن! وإنك لترى الحنتر من بني آدم يملك الصغير من أولاد النخة فيشفق عليه إشفاقه على الولد، حتى إذا أمكن أن يعمل عليه، أدناه للأرعوة والغبقة والعيان، فابتغى من رزق الله عليه ريع أرضه في كل الربوع. حتى إذا أسن وعلم أنه لم يبق عنده غناء في العمل، جمع له سفير الضرف والسروع.
1 / 10
وإذا تنفس عرنين البرد جعله في بيت كنين وأوسع له من العلف. وليس ذلك من كرامة أبي المزاحم - أعني الثور - شد في مثل القطب وجمع له جماح العطب، ولا نزعت فروة أبي الطيب - أعني الجمل - من خيفة الكرب عليه، إنما ذلك لإفراء جنبيه. ولا ربطت أم الكيك فلبك لها أجود نقي، شفقة عليها من عيش شقي، ولا توديعًا لرجلها من ذهبا ومجي، ولا أحمى لها وطيس القوم لتدفأ به من قر الشتاء؛ وإنما غر الطائر بحبة ملتقطة لتصبر عنقه في السطة. وليس من رهبة المآثم على العترفان جمع له سبع من الحلائل أو ثمان؛ واسأل خلط الجرار لم عطف على ابن المعزة ظئران. لو دري ضب العرارة ما الذي قصد بثمرات يطرحن له عند الأمرات، لأقسم أه لا يذوق ثمرًا حيرى الدهر. وليس من خوف الجوع على السمكة جعل لها طعم في الشبكة. وإنما أوثر المهر بصبوح وغبوق، ليفيء على أهله كرائم النوق. وقل ما جاءك إحسان ساعفك به الإنسان إلا وهو يأمل جزاء عليه أكثر مما نالك منه وأسر. جاد ناسك بالبرة ليسمح له بملء الجرة. وتتبع الراعي بالصبة أنيق الكلإ فأمعن طلبًا، لترويه بعد حلبًا. وأضاف الرجل مضيف لأمرين: إما لثناء يكتسبه، وإما دفعًا لمذمة تجدبه. على أنه لا تخلوا البسيطة من قوم يكرمون بالطبع وينفعون العالم لغير نفع.
ثم أعود إلى ذكر الثور: فلما شرج لحم أبي المزاحم بالني، أبرز إلى سوق عامر فدعى له الفعفعاني فأمر الصلت على مريه، واقتسم اللحم غني وفقير، واقتدروه على مقدار الشهوات، ونسيت الصحبة وقديم العهد، وما لقيه من طول نصب وجهد.
وأما بنات بعرة وبنات خورة، فحسبك بما لقين: كم أشكل ابن آدم الثائجة على قرير، فباتت عينها ضد قريرة من غير جريرة؛ وكم روع بذات الحزأة من أم منحلان، وليس في سر النفس لكن صرح به في العلان! واحتذى أدمة هذه الأجناس فوطيء بها أمعز حزيزًا، واتخذ من جليمها دفئًا في الشبم حريزًا! وكم غرب صنع منها وسلم، وصفن للسفر دائم الحزم.
ولم يكفه ما فعل في البهائم الأهلية حتى عمد للوحش الباهلة. يا نار، أما يقتصر شرارك على أن يحترق به جارك، حتى يسافر إلى أبعد؛ ما أعظم أذاتكّ لولا ضوء لك ظهر في العنك لا نتقم خالقك منك. ماله وللثور الوحشي، ملمع الرأس بالجدد موشى! بات ليلة على العراء بعد ما رتع نهاره في الثداء، وبات المطر يبله ويصرده، ينشر عليه الفطر وبرده، وأمنيته المبتغاة الملتمسة عند الله أن يضح له ضياء الصبح. قد احتفر عند أرطاة وسدرة. يكاد ينطق بشكوى القرة. حتى إذا أعقب ذنب السرحان صديع. وظهر فأوضح من الفجر بديع، رمق بعينيه الغيوب ولا يرهب هنالك السيوب، فبدا له موسد كلاب هو طول الأبد للقنص في طلاب. فراع الشبب ما رآه من ضوار تبتدر مقلدات، يجرين في الجشع على العادات. ففزع فزعًا بالطبع، وانصرف عن ذلك الربع. يقطع رمالًا بعد رمال، والسلامة له أقصى الآمال. وغريت به ذوات العذب معذبات، مسرعات في الطلق مهذبات، يأخذن بنساه والساق، وهو بنطفة الأسلة من حمام وساق. فأدركته عند ذلك حمية الغضب، فانعطف بإقدام غير المقتضب. يذود البائس برمحين، ما نزل به من الحين. فوهب الله له النصر فانتظم بروقيه خائفة، وبإهابه منهن كلوم؛ أظالم الشبب أم مظلوم؟ لقد رمى بزول نكر، لا يزال منه حتى يهلك على ذكر، فهو يرقب طلوعها في كل غداة ويعتقد لها أشنأ معاداة. ويحدث نفسه بالهرب من أرض إلى أرض، وأين المعقل من التلف وهو كالفرض؟ فما يفتأ مروعًا من الصبح، يعد حسن الفجر من القبح.
وأما الأرطي، فدينها في ذلك على دين الأخنس، وهي في العناء المنصب من الأنس. يفعل بها ما فعل بالذيال، ولا يشفق على ظلًا من إعيال فلا تأمن هي وحلها الشبوب، نبلًا ربها للصيد ربوب. وقد أكثرت الشعراء في ذلك فقال " أبو ذؤيب ":
والدهرُ لا يبقى على حَدَثانِه ... شَبَبٌ أَفَزَّتْه الكلابُ مُروَّعُ
شغَبَ الكلابُ الضارياتُ فؤادَه ... فإِذا يرى الصبحَ المصَدَّق يفزع
ويَعوذُ بالأَرْطَى إِذا ما شَفَّه ... قَطْرٌ، وراحتْه بَلِيلٌ زَعْزَعُ
فغَدا يُشرِّقُ مَتْنَه فبدا له ... أُولى سوابِقِها قريبًا توزَعُ
فانصاع من فَرَقٍ وسدَّ فروجَه ... غَضْفٌ ضَوَارٍ: وافِيان وأَجْدَعُ
1 / 11
ينهشَنْه ويذودُهن ويحتمي ... عبل الشَّوَى بالطُّرَّتين مُوَلَّعُ
فَحَنا لها بمُذَلَّقَينٍ كأَنما ... بهما من النَّضْحِ المُجَدَّح أَيَدعُ
حتى إِذا ما الثورُ أَقصدَ عُصْبةً ... منها وقام شريدُها يتضرع
وبدا له ربُّ الكلابِ بِكفِّه ... بِيضٌ رِهَابٌ رِيشُهنَّ مُقَزَّعُ
فرمَى لِيُنقِذَ فَرَّها فهوَى له ... سهمٌ فأَنقذ طُرَّتَيه المِنزَعُ
فكبا كما يكبو فنِيقٌ تارِزٌ ... بالخَبْتِ إِلا أَنه هو أَبرَعُ
فكأَن سَفُّودَينِ لمَّا يقترا ... عَجِلاَ له بشِواءِ شَرْبٍ يُنزَعُ
فإن سلم من النوابح أخو الربل، فما يؤمنه بعد ذلك من النبل.
قال " زهير ":
فجالتْ على وحْشِيِّها وكأَنها ... مُسَرْبلَةٌ في رازقيِّ مُعَضدِ
وتنفُضُ عنها غيبَ كلِّ خميلةٍ ... وتَخشَى رُماةَ الغوثِ من كلِّ مَرْصَدِ
ولم تَخشَ وشكَ البَيْنِ حتى رأَتْهمُ ... وقد قعدوا أَنفاقَها كلَّ مَقْعَدِ
وثاروا لها من جانبيها كليهما ... وجالت، وإِن يُجشِمْنَها الشَّدَّ تَجهدِ
تَبُذُّ الأُلَى يأتينها من ورائها ... وإن تتقدمْها السوابقُ تُصطَدِ
فأَنقذها من غمرة الموتِ بعد ما ... رأَت أَنها إِن تنظر النَّبْلَ تُقصَدِ
نَجَاءٌ مُجِدٌّ ليس فيه وتيرةٌ ... وتذبيبُها عنها بأَسحمَ مِذْوَدِ
وهذا في شعر العرب أكثر من أن تقام الأدلة عليه.
وإنما جئت به كما يشير المحدث إلى أم شملة، ويريك راكب ليله الساهرة.
وأما الجربة من العانات، فما تدفع شرور الصادة بمساناة. بينا هي ترتع في روضٍ أنقٍ وتكرع في غديرٍ ليس برنق، أتيح لها - والقدر أتاحه - فارس يقصر لقاحه، على قباء من الخيل المضمرة، ليست في شرب الرسل بمغمرة يسقيها المحض ويشر السمار، لتقيد له الأوابد ولا ضمار؛ أو سابح في الطلق غمر، أعانت به الأقضية على إدراك الأمر. فربه يهين الإبل ويكرمه، ويحرم عياله ولا يحرمه. وإنما يأمل به أمورًا ليس هو إذا بلغها مقمورًا: يعده لطلب ثأر يحسب أخذه أسنى الآثار، أو غارة يصبح بها عدوًا، فيلطع مع الأشقر غدوًا، أو نجاء في المأزق من سيف وسنان، إذا جشأت النفس الكاذبة لرعب الجنان؛ أو صيد يشبع به أطفالًا، ولا يوجد رأيه فيما صنع فالًا. حتى إذا أنفض عياله وفنى قوته لولا احتياله، عرضت له في آخر السبرة أتن وعلج، وما يطرح بقدره الفلج. فركب فرسه واثقًا به فحمله على العير وقبه، فطعنه في الفائل أو القرب، فروى من دمه صادي الترب.
وربما كان ابن أخدر في عذاة قد بعد بها عن الأذاة، حتى إذا العطش حرقه وأمره بالمورد ليطرقه، ورد آملًا برد الماء يطفيء به ما استعر من لهب الأظماء. وقد سبقه إلى الشريعة أخو قوس ما يلتمس بها من أوس.
1 / 12
بصر بها في المنبت وكأنها حظوة نبال، فوقعت الحظوة بها في البال، فجعل يتعهدها على انفراد، ويحمل إليها ريًا في الشعوب ليصل بها إلى المراد. ويخاف أن يصل إليها غيره فتسنح له بشر طيره. وهي في شقب بين جبلين جارة نبع أعيا الثقلين. حتى إذا علم أنها تصلح لما رجاه، عمد لعودها بالكرزن فنجاه. وما برح إليها ينغل، والسفن مرارًا ينفل، حتى نال البغية وثوبه شبارق، وقد خرق كله خارق. فجذل بها يستأنس مناه، وأيقن أنه ظفر بغناه. ومظعها ماء لحائها زمانًا وأشعرها من الندى الساقط أمانًا، ثم أنحى بعد ذلك عليها الطريدة، فجاءت من ذات الأوتاد فريدة. ثم قرن بها مربوعًا فكانت للأجل ينبوعًا، واتخذ لها سهامًا صيغة، تظل يده بها الأنفس مريغة. وحملها بعد وذهب فاتخذ لها بيتًا من صفيح لعله يظفر بغير السفيح. فهو في دجى ليست بالمنجلية، صاحب نفس بالأهوال متخلية، قد دمر وما تدميره؟ إنما ذلك ليحسن عذيره. يخاف أن تجد ريحه قمر واردة، فترجع من الجزع وهي الشاردة. وله في ذلك المنهل جارة، إذا شحط عنها فالشحط تجارة. يسمع لها كشيشًا في الحندس وفحيحًا، ويردد من الخيفة والفرق نحيحًا. بعدًا لها في الأرض من مجاورة؛ يروعه في الظلم زمالها، ولا تحدي للظعن حمالها. تأكل في مشتاها ترابًا، وتهتبل في المصيف آرابًا، تنفخ كدأب الملهوف، إن ذلك لتر من الهوف.
وعنده قيان رمد، وهن لما كره حقًا عمد، يشربن دمه ولا يسقينه، وينفين عنه المهجع ولا يقينه، وكيف يهجع البائس على حذاره؟ أم كيف يئوب إلى أهله باعتذاره؟ حتى إذا الحقب وردن، وسوس فدعا ربه يسأله أن يكشف كربه، ويشبع من الوشيق سلقعًا لا يعرف غير الصيد شبعًا. فرمى والله رزقه، فصادف نضيه فريصًا خرقه. وذعرت الوحش الظامئة فانصرفت عن عين طامية. فكر بين المدرك أجله، والصادر ولم يقض منهله. وربما أحسسن بالقانص فنفرن، خائفات من التلف وما تغمرن.
وهذا القصص قائم به الشاهد من الشعر الأول. ولا ريب أنه يفعل إلى اليوم، إذ كان خلقًا للصعاليك، وما حظره عليهم الإسلام ولا تبعهم فيه ملامٌ. قال " صخر الغي " يصف حمارين:
ولا عِلْجانِ ينتابان رَوضًا ... نضيرًا نبتُه، عُمًّا تؤاما
كلا العلجين أَصعَرُ صَيعَريٌّ ... تخالُ نَسِيلَ مَتنيه الثَّغَاما
فباتا يأْمُلان مياهَ بَدْرٍ ... وخافا رامِيًا عنه فخاما
فَرَاغا ناجِيَين وقام يرمي ... فآبَتْ نَبلهُ قِصَدًا حُطامًا
كأَنهما إِذا علَوا وَجِينًا ... ومقطَعَ حَرَّةٍ بعثا رِجَاما
يُثيرانِ الجنادِلَ كابِياتٍ ... إِذا جارا معًا وإذا استقاما
فباتا يحُييان الليلَ حتى ... أَضاءَ الصبحُ منبلجًا وقاما
فإِمَّا ينجوا من خوفِ أَرضٍ ... فقد لَقيا حُتوفَهما لزاما
وقد لَقِيا مع الإِشراقِ خَيْلًا ... تسوفُ الوحشَ تحسَبُها خياما
بكلِّ مُقلِّصٍ ذكَرٍ عَنُودٍ ... يَبُذُّ يدَ العَشَنَّقِ واللجاما
فشامَتْ في صدورِهما رماحًا ... من الخَطِّيِّ أُشرِبَت السماما
وقال " امرؤ القيس ":
رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... مُخرِجٍ كفَّيْه من سُتَرِهْ
عارضٍ زوراءَ من نَشَمٍ ... غيرَ باناةٍ على وتَرِه
فأَتتْه الوحشُ واردةً ... فتَمتَّى القَزْعُ في يَسَرِه
فرمَاها في فرائصِها ... من إِزاءِ الحوضِ أَو عُقُرِه
بِرَهيشٍ من كِنانتِه ... كتلظِّى الجمرِ في شَرَرِه
راشه من ريش ناهضةٍ ... ثم أَمهاه على حَجَرِه
فهْو لا تَنمِى رمِيَّتُه ... مالَهُ، لا عُدَّ من نَفَرِه
وقال " الرعي " وذكر صائدًا:
وفي بيتِ الصفيح أَخو عيال ... قليلُ المالِ يغتبقُ السَّمَارا
يَبِيتُ الحَيَّةُ النضناضُ منه ... مكانَ الحِبِّ يستمعُ السِّرارا
فصادَفَ سَهْمُه أَحجارَ قُفٍّ ... كسَرْنَ الفُوقَ منه والغِرارا
1 / 13
فجالا جولةً لو لم يكونا ... ذَوَيْ أَيْدٍ تَمَسُّ الأَرضَ طارا
وأما الأوعال العاقلة فقعدوا لها بالأسهم يقينًا ليس بتوهم، يرمون الشواكل ويجعلونها مآكل، ويطرفان من أشجار الجبال حيث لا يفرق من الليث الرئبال، ويردان ما جادت به السحب في إخاذ وقلات، وينصلتان المنبأة المستمعة أيما انصلات. قال " النمر بن تولب " وذكر الوعل:
بِإِسْبِيلَ أَلقَتْ به أمُّه ... على رأْسِ ذي شُرَفٍ أَقْتَما
إِذا شاءَ طالَع مسجورةً ... ترى حولها النبعَ والسَّأسَما
تكونُ لأَعدائه مَجْهَلا ... مُضِلًاّ وكانت له مَعْلَما
سقَتْه الرواعِدُ مِن صَيِّفٍ ... وإِنْ من خريفٍ فلن يَعدَما
أَتاح له الدهرُ ذا وَفْضةٍ ... يُقلِّبُ في كَفِّه أَسهُمَا
فأَهوَى إليه بِحَشْرٍ له ... ولن يرهبَ المرءُ أَن يَكْلِمَا
فأَخرج من نَبْلِه أَهْزَعًا ... فشَكَّ نواهِقَه والفَمَا
فظلَّ شبيبًا كأَن الوَلو ... عَ كان بغِرَّتِه مُتْئِما
أَتى حِصْنَه ما أَتى تُبَّعًا ... وأَبْرهةَ المَلِكَ الأَشْرَما
وقال " ساعدة بن جوية ":
تاللهِ يَبقى على الأَيام ذو حَيَدٍ ... أَدفَى صَلودٌ من الأَوعالِ ذو خدَمِ
من دونِهِ شعَفٌ قَرٌّ وأسفلَه ... جِيٌّ تنَطَّقُ بالظَّيَّانِ والعُتُمِ
يرودُ فيها نهارًا ثم مَورِدُه ... طامٍ عليه فروعُ القانِ والنَّشم
موَكَّلٌ بِشُدوفِ الصَّومِ يَرقُبها ... من المغارب مخطوفُ الحَشَى زَرِمُ
ثم يَنوشُ إِذا آدَ النهارُ له ... مع الترقُّبِ من نِيمٍ ومن كتَمِ
حتى أَتيح له رامٍ بمُحدِلة ... جَشْءٍ وبِيضٍ نواحيهن كالسَّجَمِ
دَلَّى يديه له قصرًا فأَلزمَه ... نَفَّاحَةً غيرَ إِخطاءٍ ولا شَرَمٍ
فجال منه بأَعلى الرَّيْدِ ثم كبا ... على نَضِيٍّ خِلالَ الجوفِ منحطمِ
وقال آخر يصف رجلًا متصعلكًا:
لا مالَ إِلا العِطافُ تُؤزِرُه ... أمُّ ثمانينَ وابنةُ الجَبَلِ
لا يرتقى النَّزُّ في ذلاذِلِه ... ولا يُعَدِّي نَعلَيه من بَلَلِ
عُصْرَتُه نُطفةٌ إِلى لَصَبٍ ... مما تناهَى له من السبَلِ
ومُضْغَةٌ من بَناتِ شاكِلَةٍ ... لو لم يُرِغْها بالقوسِ لم تُنَلِ
والنعام، ركب عليها الفارس فإذا سنانه وارس. حمل على خيط راتعلها في النهار الماتع، ونعم في خصيب العشرق، فعاد كله بجرض الشرق فرق بين ربداء وظليم، ولم يكن في المقارنة بمليم. وطعن أم الرأل فهوت بين الأجرال. وكانت صاحبة أدحى قد نأت عن أهل الحي. وتلك الودائع، شهد الله، في ضمائر الزعر المتأبدات، أنفس من الغرائب البحرية عند الغيد المتقلدات. وربما راحت وهي زعلة تواجه إليه ريحًا ومطرًا وقد وضعته في المقفرة سطرًا، كما قال " ابن أحمر ":
فما بيضاتُ ذي لِبَدٍ هِجَفٍّ ... سُقِينَ بِزاجلٍ حتى رَوِينا
وُضِعْنَ وكُلُّهن على غِرارٍ ... هجانَ اللونِ قد وُسِقَتْ جَنينًا
وقد يصادف ثفلها جاني كمأة أو راع، فيفجعها غير مراع. فتجزع لذلك الأمرين، والهًا تحرب بزهاء العشرين. كيف لها، والله عليم، أن يجعل خالقك ريشها نبلًا فترمى بها من سعر فؤادها تبلًا؛ ومنقارها النابي جرازًا أو لهذمًا، لتخلف حبل من عادته جذمها؟ قال:
فيومًا على بُقْعٍ دِقاقٍ صدورُه ... ويوْمًا على سُفعِ المدامع رَبْرَبِ
وقال " ذو الرمة ":
وبيضاء لا تَنحاشُ مِنا وأمُّها ... إِذا ما رأَتنا زِيلَ منا زَوِيلُها
نَتُوجٍ ولم تُقرَفْ لما يُمتَنَى له ... إِذا نُتِجتْ ماتتْ وحَيَّ سَليلُها
وقال " الشماخ ":
وبيضاءَ من سوداءَ قد صِدْتُ صاحبي ... ولادةَ صِعْوَنَّينِ حُمْشٍ شَوَاهُما
وقال آخر:
1 / 14
وبيضاءَ قد رفَّعتُ عنها بقَفْرةٍ ... سماوةَ صَعْلٍ كالخِباءِ المُقوَّضِ
هجومٍ عليها نفسَه غير أنه ... متى يُرْمَ في عينيه بالشبْحِ ينهضِ
وأما أدم الظباء الراتعة وعفرها، فما أنجاها من بني آدم نفرها. كم جرة تنصب لأدماء حرة، وحبالة جعلت الظبي وشيقًا في بالة؟ واتخذوا أهبها للخير مواطن: ففيها تسطر كتب الله عزت كلمته، فهل تصيب من أجل ذلك نوارها رحمته؟ وفيها تكتب صدقات النساء وأوصار الأمم في العاجل والنساء. ما رق الصائد لطرف ما هو من الكحل بخلي، وجيد حسن وإن عطل من الحلي. والكلاب لصيدها معدة، وإذا توسد فإنها مرمدة، وقد يجمعون - والله عليم - لأذاتها المعلمة من الكلاب والطير، فلا إليه إلا الله، ما لقيت النافرة من الضير! إن بعد بها عن الناب الشد، فإنها بالصقر تحد. والعقاب الشغواء اتخذها بعض الناس، لتروع أظبى الكناس.
وأما الخزز والعكرشة والسمسم - ويحه! - والثرملة، فلقين أصناف البرجين مما كلب ولد الإنسان. كان: الخزز في أنيق أرض، مرازمًا في العيش بين خلة وحمض، فبكر عليه القانص بأجر أو بارز، وكلب يرتبط أباز. وكانت العكرشة حابلًا أو خروسًا قاعدًا عن الولد عروسًا، فجاءها الضاري والجارح بما يسلب حليلة من حليل ويذهل الخليل المشفق عن الخليل.
فإما أن تغدو أيمًا وإما أن يكون ولدها موتمًا.
وأما الصيدن، فما ينقذه من ذلك أريب احتيال، ولا يفلت من القنص بالإيال. خرج يكتسب لصغار، فحيل بينه وبين الغار. وقد تكون الثرملة مرضعًا فيعود السوذق لها مبضعًا.
وكل ذلك بقدر من الله. وليس ابن آدم فيما فعله بالذميم، إنما أجرى من الشيم إلى ما هو مباح حل، وأطلقه للعبد الإل.
وقد عمد إلى ذوات الجناح، بمثل ما قصد به ذوات الأربع من الجناح. فأعد لخشاشهن ما يلحق بن أظفار المنية من المنسر أو المخلب، والشرور أردأ المجتلب. كم فجعوا فرخًا بحمامة كانت تنزل على السمامة، فتركوا جوزلها وهو مضاع، إذا سمع حسًا ينضاع! وكم منعوا الحاضنة من النتلة، فاجتثوا أصلها من غير عتلة! وأما الضب، فما وأل بطول التجربة، من أيد للأجل مقربة. وقد حذر الحسلة من الحرش، فما ودى ذبيحها بأرش، ولا عصمه أمثال مضروبة هي إليه فيما تزعم العرب منسوبة، وأكلوا مكنه من غير تحرج، وحالوا بين الضبة وبين التبرج. وصادوه حائلًا وساحيًا، وحفرت الكدية على ضاحيًا ووجدوا في عنقه أطواقًا بيضاء شهدت له بذهاب الحقب وبقائه من بعد قبيضًا. ما تركوه لاهيًا بالعترة ولا العرارة والعرفجة خاليًا من الشرارة.
وقال " أبو وائل شفيق بن سلمة ": " ضب مكوى أحب إلى من دجاجة سمينة " فإذا قال مثل ذلك أحد التابعين، فما ظنك بأشابة راثعين؟ قال الشاعر:
ذكرتُكِ ذكرةً فاصطدتُ ضَبًّا ... وكنتُ إِذا ذكرتُكِ لا أَخيبُ
وقال الشاعر:
بَشِّرْ يرابيعَ المَلاَ وضِبابَها ... أَنْ قد غدا حَمَلُ بنُ زيدٍ ثاويا
قد كان يُذلِقُها ويُعْجِلُ بعضَها ... عَبْطَ المنِيَّةِ رائحًا ومغاديا
وأنشد " أبو السراج " في كتاب المعاني:
تناولتُه من بيتِه أَحْرَشَ القَرا ... أَرَشَّتْ عليه المُدجِناتُ الهواضِبُ
تخاطَأَه المقدارُ حتى أَصبتُه ... وخُرطومُه في منقعِ الماءِ راسبُ
وأنشد " الشيباني " أبياتًا وفيها إقواء وخرم في غير البيت الأول، والأبيات:
أَرَّى بكَفَّيه وأَقعس رأْسَه ... وحَظْرَبَ نَفخًا مَسْكُه فهو حاظِبُ
فلما وجدتُ القَبْصَ يزدادُ فترةً ... وأَيقنتُ أَن الضبَّ لا بد ذاهبُ
قُمتُ وعِيدانُ السليخةِ قد جذَتْ ... جُذُوَّ المرامي بين بادٍ وغائبِ
وآخَرُ أَبْدَى عن ضُلوعيَ خَدْشُه ... ومستمسِكٌ نضنضتُه فهو ناشب
ودَبَّ على صدري دبيبًا فليتني ... مع البُرْصِ الزرْقِ العيونِ الحناظبِ
خليل عراب بين حَزْمَينِ يرتعي ... أَعاشيبَ مَوْليٍّ سقَتْه الهضائبُ
وقالوا في الحث على أكل الضب:
إِنك لو ذُقتَ الكُشَى بالأكبادْ
لَما تركتَ الضبّ يعدو بِالوَادْ
وقالوا:
أَطْعِمْ أَخاكَ من عَقَنقَل الضَّب
1 / 15
إِنك إِنْ لا تُطعِمَنْه يَغضَب
وقالوا:
عندي دواءُ الهُدَبِدْ
كُشْيَة ضَبٍّ بكَبِدْ
وقال رجل من بني سعد أتى جبلًا يقال له طمرة فأرك به وأكل من ضبابه:
واللهِ لولا أَكلةٌ بِمِرَّهْ ... بِكُشْيَةٍ بكَبِدٍ بظَهْرَه
لقد خَلا مِنَّا قَفَا طِمِرَّه
وأما اليربوع، فهو في الوطن مسبوع. نفق ورهط وعنق لنفسه وقصع، واتخذ لنفسه دممة وسابياء، وكل ذلك هرب مما قدر وهيهات! " ببقة قضى الأمر ". " لا المرء في شيء ولا اليربوع ".
ومشهور عند رواة الأخبار أن طوائف من العرب تأكل الفأر. وقد ادعوا ذلك على " أبي وجزة السعدي " وكان أحد القراء والمجيدين من الشعراء.
وقيل لبعض الأعراب: ما تقول في لحوم الحيات؟ قال: أنا منها بين شواء وقدير، وما أكره نيئها إن أعجلني سفر! وهم الذين عمدوا لبنات اللجة بالحيل، فرموها من المأمن بالغيل.
وأي شيء من أحناش الأرض لم تنزل به من القوم شصية! إنهم إما أكلوه وإما قتلوه. وكثير من الهوام يتخذونها في الأشفية، وخطوبهم ليست بالمصفية. يحرقون الشبوات في بعض الهنوات، ويستعملونها في الأدوية، وإنما ذلك لحكمة غير المغوية.
فهذا كله تأسية لك على ما تلقاه في دأبك من أين، والله محصي الأثر وبادي العين. ألست رائيًا ما نزل الجوارس في الأيام الومدة والقوارس؟ بكرت في كحلاء وسحاء تكتسب من غير لحاء، ما رزقها ربها لغرض مطلوب، وقضاء الصمد غير مغلوب. جمعت الضرب من شت، وأيقنت أن الأمل غير منبت، لأنها سمت بالأرى المكتسب إلى جبال سامقة، تشحط عن العيون الوامقة. فلما ظنت أن القدر عنها غافل، أشب لها من الشارة غوى قافل. فلما طلع بالمسأب وخرصه، وهجم على التلف الناس حرصه، جلاها بالإيام فتفرقت، وفجع الثول بقوت، وأصبح إلى الخشرم جد ممقوت وكم قتل قبل ذلك من الدبر، وما أذاتك صاحبك بخسيس من الشبر.
إن خطب الزمان لجلى، تكسب النحل ويشتار " الهذلي " قدر من ربك بدي، تجنى الأرية عن الأنوار، ما يلسب فقير أزدي، - " يعقوب " يختار السين فيقول: أسدي - وقد وصف ذلك جماعة من القالة، وذكروا ما يلقى دون ذلك من سوء الآلة. قال " أبو ذؤيب ":
وما ضَرَبٌ بيضاءُ يأْوِي مَليكُها ... إِلى طُنُفٍ أَعيا بِرَاقٍ ونازِل
تُهالُ العُقَابُ أَن تَمُرَّ بِرَيْدِه ... وترمِي درُوءٌ دونَه بالأَجَادِل
تَنَمَّى بها اليعسوبُ حتى أَقَرَّها ... إِلى عَطَنٍ رَحْبِ المَباءَةِ عاسِل
تدَلَّى عليها بالحِبَالِ مُوَثقًا ... شديدُ الوَصاةِ نابلٌ وابنُ نابِلِ
إِذا كان حَبْلٌ من ثمانينَ قامةً ... وخمسينَ باعًا، نالَها بالأَناملِ
فَحَطَّ عليها والضلوعُ كأَنها ... من الخوفِ أَمثالُ السهامِ النَّواصِل
إِذا لَسعتْه النحلُ لم يرجُ لَسْعَها ... وخالَفها في بيتِ نوبٍ عَواملِ
فشَرَّجَها من نطفةٍ رجَبِيةٍ ... سُلاسِلةٍ من ماءِ لَصْب سُلاسِل
وقال " ساعدة بن جوية ":
فما ضَرَبٌ بيضاءُ يسقى دبوبهَا ... دَفاقٌ فعروانُ الكَراثِ فضِيمُها
أُتيحَ لها شَثْنُ البنانِ مُكدَّمٌ ... أَخو حُزَنٍ قد وقَّرتْه كُلومُها
رأَى عارضًا يَهوِي إلى مُسْبطِرَّةٍ ... قد احجَمَ عنها كلُّ شيءٍ يرومُها
قليلُ الأَتاءِ غيرَ قوسٍ وأَسهمٍ ... وأَخراصه يغدو بها ويُقيمها
فما بَرِحَ الأَسبابُ حتى وضعنه ... إلى الثوْلِ يَنْفِي جَثَّها ويَؤومُها
فلما دنا الإبرادُ حَطَّ بِشَوْرِه ... إِلى فَضَلاتٍ مستحيرٍ جُمومُها
إِلى فَضَلاتٍ من حَبِيٍّ مُجَلْجَلٍ ... أَضَرَّتْ به أَضواجُها وهُضومُها
فَشَرَّجَها حتى استمرَّ بنُطفةٍ ... وكان شِفاءً شَوْبُها وصَميمُها
فذلك ما شبَّهت يا أُمَّ مَعْمَرِ ... إِذا ما توالى الليلُ غارت نجومُها
وقال " نابغة بني جعدة ":
وكأَنما أَنيابُها اغتبقتْ ... بعد الكَرَى من طيِّبِ الخمْرِ
1 / 16
شرِكًا بماءِ الذَّوبِ تجمعه ... في طَوْدِ أَيْمَنَ من قُرى قَسْرِ
قُرْعُ الرءُوسِ لِصَوتِها جَرَسٌ ... في النبْعِ والكَحْلاءِ والسِّدْرِ
ولِلَيْلِها جَلَبٌ إِذا عَتَمتْ ... وتَبِيتُ عاذبةً كذِي النذْرِ
بَكرتْ تَبَغيَّ الرزقَ في مُسُلٍ ... مخروفَةٍ ومساربٍ خُضْرٍ
لبِثتْ قليلًا ثم خالَفها ... متسربِلٌ أَدَمًا على النحْرِ
صَدَعٌ أُسَيِّدُ من شنوءَةَ مش ... اءُ قتَلْنَ أَباه في الدهر
يمشِي بقِرْبَتِه ومِحْجَنِه ... مُتلطفًا كتَلَطُّفِ الوَبْرِ
يَحْبُو إِذا خافَ القِيامَ على ... رَصَفٍ يَزِلُّ بِأَكرُعِ الغُفْرِ
فسما إِليها في مراتبِها ... فأَتى بسَبْعِ ضَوائنٍ وُفْرِ
فأَصابَ غِرَّتَها ولو علِمتْ ... حَدِبْتْ عليه بِضَيِّق وَعْرِ
وأما دعواك نظام الشعر، فخلة لا تفتقد معها زلة. إذا جاء الروى فضح الغوى. ولو قيل إن القافية لأنها تقفوا الجاهل بها، أي تعيبه، لكان ذلك مذهبًا من القول. والقريض ماشه أم أدراص، ومن سلكها غير خبير فكأنما سقط من ثبير.
نحن معاشر الجبهة أولى بالعرب من كل الحيوان. وفينا ورد جيد الشعر العتيق، وإيانا ذكرت الفرسان السالفة والفصحاء المفتخرة، بالإيثار على العيال: الولد والأم والعرس. قال " الأخطل ":
إِذا ما الخيلُ ضيَّعها أناسٌ ... ربطناها فشاركت العيالا
نُهِينُ لها الطعام إِذا اشتوينا ... ونكسوها البراقعَ والجِلالا
وقال " عنترة " - ويروى لغيره -:
لا تذكري فرَسي وما أَطعمتُه ... فيكونَ جلدُكِ مثلَ جِلْدِ الأَجربِ
َذَبَ العتيقُ وماءُ شَنٍّ باردٍ ... إِن كنتِ سائلتي غبوقًا فاشربي
وقال " أبو داود الإيادي ":
عَلِقَتْ هامتي بعض ما يم ... نَعُ مني الأَعنةَ الأَقدارُ
وانجرادي بهن نحو عدوِّي ... وارتحالي البلادَ والتسيارُ
تلكمُ لذتي إلى يومِ موتي ... إِنَّ موتًا وإِن عمرتُ قُصارُ
وقال " العبدي ":
أَلاَ هَلْ أَتَاها أَنَّ شِكَّة حَازمٍ ... لديَّ وأني قد صنعتُ الشَّموسَا
وداويتُها حتى شَتَتْ حَبشيةً ... كأَنَّ عليها سندسًا وسدوسًا
قصرتُ عليها بالمَقِيطِ لقاحَنا ... رباعية وبازلًا وسدِيسًا
فآضَتْ كتَيْسِ الرَّبْلِ تنزو إِذا نزتْ ... على رَبذاتٍ يبتدرْن خنوسًا
وقال آخر:
ويترك قيسًا وقَيْسٌ له ... عناجيجُ آخِذَةٌ بالنَّفَسْ
يُقرِّبُها دونَ أَبنائه ... ويُلحِفُها بُرْدَه في القَرَسْ
وقال " الضبي ":
نُوَلِّيها الصريحَ إِذا شَتونا ... على علاتِها ونَلِي السَّمارا
وتُمكِنُنا إِذا نحن التقَيْنا ... من الأَذْوادِ نَهْبًا واقتِسارا
وقال " الجعفي ":
باعُوا جوادَهُم لِتسمَنَ أُمُّهم ... ولكي يكونَ على فِراشهمُ فَتَى
لكنْ قعيدةُ بيتِنا مجفُوَّةٌ ... بادٍ جناجنُ صدرِها ولها غِنَى
راحوا بصائرُهم على أَكتافِهم ... وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وَأي
وقال " طفيل ":
إِني وإِن قلَّ مالي لا يفارقُني ... مِثلُ النعامةِ في أَوصالِه طولُ
تقريبُه المَرَطى، والجَوْزُ معتدلٌ ... كأَنه سُبَدٌ بالماء مغسول
ومثل هذا كثير لا يدرك. وروى أن رسول الله ﷺ، مسح وجه فرسه بثوبه..
نكون حجبًا للطرف، ونشم أرج المعرس، وتنشق أنوفنا دخان الرمث وتنظر عيوننا إلى نار الزحفتين؛ ونشاهد ما تدحوه النعائم لتريكها النضيد، والمكاء يتخذ عشه في اليعضيد؛ ونسمه زمار النعامة وعرار الظليم وترنم القائل إذا جلس في خبائه مع الخريدة؛ وارتجاز المتلبب للقاء الكريهة. ونحن بعد شركاء القوم في الطعام والكسوة ومحل الأجسام.
وليس فينا من يزعم أنه يقدر على موزون القول، وإنما ذلك فضيلة للإنس.
1 / 17
أرأيت السالف من الخيل المتقدمة، ك: أعوج والوجيه ومذهب وقيد وبذوة وحلاء وسبل وذي الصوفة والخزز وزاد الركب، وغيرهن من فحول الخيل وإناثها، لم يرو لفرس منها شعر. وأولاها بارتجال الأوزان واقتضاب الرجز والقصيد، ما كان منها في ملك الشعراء. لأنها تأذن لشدوهم بالأشعار وهم جلوس فوق الصهوات، كخيل: " الكندي، وعدي وأبي داود، وطفيل ".
ولم يأت عنها بيت من ذلك ولا مصراع.
وتلا خيل العرب في التكرمة، إبلها السائمة والمستعملة. وإنما جمهور الموزون الذي نقل عن العرب، في الخيل والإبل والنساء. فهل سمعت أحدًا من الرواة نسب إلى الناقة أو الجمل بيتًا أو بيتين؟ والمنثور من الكلم جنس للمنظوم. وعلى حسب ما يتسع في القول المتكلم، يتصرف لدى النظم الشاعر. ولذلك صح أن العرب أوفر الأمم حظًا في الموزون، لأن لغتهم تستبحر وإن لم تبن منها أوزان الشعر.
وقد علمت أن صوتك له نوعان: الحمحمة والشحيج، وكلاهما لا مسلك له في الموزونات، لأن الكلمة إذا اجتمع فيها ساكنان يتوسطانها لم يمكن أن تنظم في حشو البيت العربي إلا في موضع واحد، كقوله:
فَرُمْنا القِصاصَ وكان التَّقاصُّ ... فرضًا وحَتْمًا على المُسلمينا
وليس ذلك بمعروف ولكنه شاذ مرفوض. وما شذ من كل الأسماء فإنه لا ينكسر به القياس. وإذا كان الساكنان جمع بينهما في آخر الكلمة وقف وسكوت، فإنما يستعمل ذلك في أواخر أوزان معروفة، تسعة أو عشرة، كقول القائل:
جاءَ شقيقٌ عارضًا رمْحَه ... إِن بني عَمِّكَ فيهم رماحْ
هل أَحْدَثَ الدهرُ لنا ضُؤلةً ... أَم هل رَقَتْ أمّ شَقيقٍ سلاحْ
وكقول " عمرو بن شاس ":
وكأسٍ كمُستدمي الغزالِ مَزجتُها ... لأَبيضَ عصَّاءِ العواذلِ مِفضالْ
كآدمَ لم يُؤثِرْ بعِرنينِه الشَّبَا ... ولا الحبْلُ، تخشاه القَرومُ إِذا صالْ
في أشباه لذلك.
والإبل أكثر افتنانًا في الأصوات، لأن من أصواتها: الحنين والأطيط والسجع والتحوب والعجيج والجرجرة، والهدر وأصنافه وهي: الفحيح والكتيت والكشيش والقصف والقرقرة والزغد والشحشحة والقلخ. ومن أصواتها الرغاء والبغام. وكل ذلك، على اختلافه، لا تتألف منه الأوزان.
وكذلك أكثر أصوات الحيوان، لا تعتدل ولا يمكن دخولها في المنظوم، لأنها تقطع الأجراس أو تمد، فيكون كالذي جمع بين ساكنين أو أكثر.
ألا ترى أن العصفور أقصر أوصاته إذا حكى، حرف متحرك بعده ساكن، ولو تابع ذلك مقطعًا لعرف لصوته حد، ولكنه يواصل بغير فصل فيخرج قريه إلى غير أصوات الآدميين. والغراب إذا حكوا صوته قالوا: غاق. وذلك متحرك بعده ساكنان، إلا أن تكسر القاف فيصير ساكنًا بين متحركين.
ومن تأمل صياح الغربان وجدها في بعض الأوقات تبدأ بمتحركين بعدهما ساكن، ثم تمد فيصير ذلك في الحكاية أربعة أحرف. وقد يجوز أن تختلف أصوات الغربان يحسب اختلاف الأرضين والأحيان.
وهذا الأمير - أعز الله نصره - الذي أومأت إليه، عارف بغوامض القريض، فإنما يحمل التمر من حضرته إلى " هجر " وتهدي الزهرة من مجلسه إلى الروضة العميمة، ويسافر بالنغبة من علمه إلى البحر الزاخر. وما أغناك أيها البائس أن يضحك منك في الآدميين، وأن تصير هزأة في جنسك!.
ومن بديع ما خطر لك، توهمك أن إلى إفهام بني آدم سبيلًا للحيوان: إنما يعلم الرجل ظمء فرسه بصوت يسمعه لم تجر العادة بمثله في حال الري. وكذلك يعرف طلبه للقضيم أو المرتع، ونزاعه إلى ما فرق من الخيل.
فأما أن يقول حيوان ليس بالناطق كلامًا يفهمه عنه الإنس فمتعذر ذلك. وكل ما تسمعه من دعوى العرب، فإنما هو على معنى المجاز وتصور الشيء بالصورة التي ليست له.
وإنما مثلك فيما سألتني من إبلاغ مدحتك إلى حضرة " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " مثل الذئب لما وصفه " الحارثي " وذكر ماء ورده فقال:
وماءٍ كأَن الطحلبَ الجَوْنَ فوقَه ... طروقًا على أَرجائه ثائرُ الغِسْلِ
وجدتُ عليه الذئبَ يَعوِي كأَنه ... خليعٌ خَلا عن كلِّ مالٍ ومن أَهْلِ
فقلتُ له: يا ذئبُ هل لك في أَخٍ ... يُجازِي بلا غُرْمٍ عليكَ ولا خَذْلِ
فقال: هداكَ اللهُ إِنك إِنما ... دعوتَ لما لم يأْتِه سَبُعٌ قبلي
1 / 18
فلستُ بآتيه، ولا أَستطيعُه ... ولاَكِ اسقِني إِن كان ماؤك ذا فَضْلِ
فيجوز أن ينطق الله تعالى الشاحج فيقول: الإكثار مظنة العثار. ومثلي ومثلك، مثل متخذة النؤور والسيطل، قرعته قرعة خفية فأجابها بصوت طال واتصل، ودخل في السمع بقوة فأفرط وقد حان منصرفي الليلة، ولولا ذلك لكان جوابك أقرب من البرة إلى الناقة ومن المرضع إلى الإفاقة. وإن كانت لك إقامة إلى الغد، أجبتك جوابًا مرضيًا إن شاء الله، على أن المثل السائر: " ربما كان السكوت جوابًا "؛ لا سيما إذا كان القول إزراء بالمستمع وطعنًا من القائل. والعي أبأس من الشلل، واللسان يبين عن الإنسان مثل ما انبأك عن لون طرف، وخبرك عن روض عرف.
فيمضي الشاحج إلى مربطه، ويبيت الصاهل بمكانه.
حتى إذا الصبح وضح، عاد الشاحج على الأدراج، حتى إذا كان من الصاهل بالمرأى والمسمع، أنطقه الله، إن شاء الله، فقال: أي التحيتين أحب إليك: أتحية الجاهلية؟ . فنعم صباحك. أم تحية الإسلام؟ فسلام عليك.
فيرد الصاهل بتكرهٍ.
ثم يقول الشاحج: أما أنفتك من خئولتي، فإن الأنف أخو الشنف، وكل متكبر مقيت، ورب عبد هو أزكى من سيده. وأمةٍ برئت من الآمة، أفضل من الحرة لحقت بها الملامة. وأنساب الحيوان أمر مخبوء. وما يدريك لعل " المرتجز " خالي، و" الدلدل " من أسرتي، و" يعفورًا " أبي أو عمي؟.
والجسد على النفس كريم، ولعل في ظن المننة أن ابنتها أحق بالحلى من الفتاة الحسنة. ولعل في نفوس الكروان أنها أحسن من الطواويس. ولولا الإسلام لم تسلم أدقاء العرب الشرف إلى بني عبد مناف. و" سلمان " عند الميزان أرجح من الهرمزان، و" خباب بن الأرت " وإن كان ينتسب إلى النبط، قد قرع من ينتسب في القبائل ذوات الحسب. وما تعترف الحبشة في ديراها أن أمة من الأمم أفضل منها في السؤدد. و" بلال بن حمامة " لا يدعى ل: " كعب بن مامة " و" صهيب بن سنان " لا يقر بالمنة ل: " زيد بن جدعان " والأراكة في نفس الظبية التهامية، أشرف من الرقلة عند حرة يمامية. والسدرة للعالقة أنفع من السحوق السامقة. والسائس في الجمازة وهي من اللبد، يحس الدابة ويرى أه أولى بناصيتها من مالكها. ويغدو الهاجري بالمسجة على المجدل، وما يرتاب في أنه أحق بالطارقة من الربيب.
وعلى ذلك جرت العصور السالفة.
وغرائز الحيوان قلما تعترف بالفضيلة، بل تجد أدنياء العالم يدعون الفضل على أهل الأقدار، والمنغمسين في الضعة تلهج ألسنتهم بالافتخار. وربما صورت الغريزة لصاحبها ما يقع الإجماع على بطلانه. تظن السمجة أنها جميلة، والقصيرة أنها فارعة، واليد البخيلة أنها سمحة؛ وإنما يحمل على ذلك قلة التمكن من المعقول. ومن كان ذا وفارة من اللب كان بالعكس من هذه الصفة، لأن علقه يعلمه أن الله تعالى قادر على أن يخلق من يفضله. والحازم يرى التواضع فرضًا لازمًا، والأخرق يرى التكبر حظًا جزيلًا.
وكل شجرة لا تقدر على عدوان الثمرة: فشجرة العفز لا تثمر بلسًا، والسلمة لا يمكنها أن تجنيك ثعدًا، والأراكة لا تونع إلا بمرد وبرير. ولو تكبر سنان الرمح فقال في نفسه: إن الله رفعني فوق أدوات الحرب، لجاز أن يطعن غب ذلك فينحطم فيصير إلى الهالكي، فيجعله مسمارًا في حافر هجين مقرف، ولعل النسر تكبر وهو في أعلى اللوح وأعجب بأنه ارتفع إلى مكان لا يبلغه كثير من الطير، فلم يلبث فنظر فإذا مكانه أخفض من أماكن خشاش الطير. ولعل الماء تواضع وهو في قعر البحر فبعث الله " تعالى " لسانًا من السحب فرفعه إلى حوض المزن؛ ثم إنه تكبر فنزل لوقته إلى القرارة المنخفضة، فصار طوفًا كديرًا تخبطه أخفاف الإبل ويعافه الصادي والعطشان.
وأما زعمك أني ادعيت قرابتك، فلون الحبشي شهيد أنه حامي، وتحطم الدرين أخبرك أنه عامي، ومشى الدابة على أربع يعلم أنها بهيمة، وصئي المقعد ينسبه إلى العكرمة دون كل قربى.
فالجنسية قرابة بين المتجانسات. ثم يتفرع ذلك إلى ترتيب الأنواع: فالحيوان كله جنس بينه تقارب بالجنسية، فقد جمعتني وإياك الحيوانية وكوننا من ذوات الأربع قرابة ثانية. وأخص ذلك أننا من ذوات الحافر.
1 / 19
وجائز في المنطق أن يقول " العبسي عنترة " للرجل من ولد حام لا تضمه وأم العبسي قبيلة من قبائل الحبشة ولا بلد من بلادهم: يا خالي. وقد جاء عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول للرجل من هلال بن عامر: " يا خالي " لأن بعض نسائهم ولدت بعض أجداده ﷺ. وقد يقول الشاب المقتبل للشيخ المسن، وليس بينهما قرابة ولا معرفة: يا عم. وهو يريد التقرب منه والتحنن. وكذلك يقول الشيخ الكبير للفتى الناشيء: يا ابن أخي. وجار على ألسنة العامة والخاصة، أن يقول أحد المتجاورين للآخر: يا أخي؛ وأحدهما رومي والآخر فارسي أو عربي. وإنما الغرض في ذلك التودد، وأن آدم ﷺ ولد البشر كلهم، فكما أنه يقال للرجل: ابن آدم، وبينهما من الآباء ما الله به عليم، فكذلك يكون الرجلان أخوين للآدمية.
وذوات الجناح كلها إخوة لمكان الريش، وإن كان بعضها يعدو على بعض، وسباعها تقتنص بغاثها، غير حافلة بقرابة الجنس.
وما أفقر العلج الوحشي إلى دعوى الصليانة وهي في فيه! وهل يقيم الظبي الراتع بينة على تلك الحلية وقد جعلها بين فكيه؟ وليس بالضب حاجة إلى إدعاء العترة النابتة عند الكدية، وهي تشمى شجرة الضب.
والله تعالى جعلني وإياك قرنين فقال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها ".
والأتن في أكفها لا تسلم الفضل إلى الخيل في سروجها. والعتارف على السباطة لا تقر للظلمان بالمفازة. ولو تنافر ديك وظليم لجاز أن يقضي لديك.
وأما أمرك إياي الصبر، فإن فضل ربنا لا يحظر، والفرج من عنده ينتظر. وكيف لا تأمر نفسك بذلك إذ تبحث بيديك تطلب الشعير وقد علمت أن من أجلك حمل على البعير وأنه آتيك لا محالة؟ فهلا صبرت ساعة حتى يأتيك به سائسك من قبل ظهور جشعك وحرصك؟ وكذلك تحمحم تريد الماء، وربك ما بسط لك الأظماء، وقد اشترى الشعيب الموثقة ليرويك بها من بارد النزوع؛ وقد رأتيه يؤثرك بلبن صراح، أفحسبته ممنعك من القراح؟ إن ذلك لظن أفين.
وإنما مثلي ومثلك، مثل رجل سأل آخر أن يرشده إلى الطريق فأراه الفرقد أو الجدي، لقد أبعد عن الهدى! أو مثل ظمآن استسقى في المقيظ فقيل له: إن بمكان كذا مدهنًا يمتليء من وسمي الربيع، وأني له بذلك ومطلع الذراع ما كان، لا غيرها من النجوم الأسدية، وإنما يرجي برد الليل بعد مطلع سهيل؟ ومثل رجل آخر استطعم رجلًا من لحم جزوره، فقال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ إن جبل كذا من أجبال السراة، وهو منا على ست أو سبع، ينبت النبع، فاذهب إليه فاختر حظوة على عينك، ثم اصنع لك منها قوسًا، فاقعد بها على موارد الأراوي، فإن لحمها رخص؛ وقد قال الأول:
أَقولُ لِعَمْرٍو إِذ مرَرْنَ بَوارِحًا ... وهُنَّ لنا الإِكثابُ والصَّيْدُ مُخلِقُ
أَلا إِنما التمرُ الذي أَنتَ آكِلٌ ... هوَ الأُهْبُ والمستَرخَصُ المتمزِّق
فَعِنْهنَّ أَو فاسبُبْ فتلك رِمايةٌ ... لها عند دَبَّاغِي تهامةَ مَنفقُ
فأحسن الله جزاءه على بعد الإرشاد! من حسن عمله حسن قوله. وأبى حفل الناقة المعذرة، ومراح السوام لن ينجي الباخل من لذع اللوام. اضرب العراقيب فأشبع ضيفك وأطعم اليعاقيب. واحلب في إنائك للعيمان إذا نزل بفنائك، فركب يشكرها لديك أولى بما في صحنك ورفديك من نساء يشربن المحض ويقين، ولا تعرف من خبرهن اليقين. ولعل ما جمعنه في العضد والساق عن ألبان لقح مناق، كان متعة معاديك، ولا يشكر ما فرط من أياديك.
1 / 20