ولا بد أن نذكر هنا فضل العقل اليوناني على الحضارة، فإنه هو الذي حارب الخرافة وتحلل من قيود الماضي، وألقى نظرة شاملة على الإنسان والوجود، وبحث في كيفية الخلق وطبيعة الخالق، ثم حقق في ماهية الروح، والعقل اليوناني أول من أثار الحوار واستعمل الجدل، وأول من نقل الفلسفة من بروجها العاجية إلى الطرق والأسواق والأماكن العامة. ثم إن العقل اليوناني أول من ناقش أنظمة الحكم المتعددة، واستقر على أن الديمقراطية أحسنها مهما يكن بها من عيوب.
لماذا انهارت هاتان الحضارتان؟
ليست هناك حضارة تستطيع البقاء إذا احتفظت بالحضارة بين ربوعها هي فقط، كيف تعتصم الواحة، وأين تختبئ من رمال الصحراء حولها إذا ثارت عاصفة؟ هذا بالضبط ما حدث للحضارات القديمة التي طمست، فإن الهمج أغاروا على اليونان، والهكسوس أغاروا على مصر، معنى ذلك أن الذين يتمتعون بنعمة الحضارة لا يجب أن تحبسهم أنانيتهم ضمن جدران ضيقة، بل عليهم أن يكونوا بدورهم ممدنين للعالم.
والآن، لماذا يساورنا الخوف على حضارتنا الحالية؟
إن حضارتنا الحالية يجب أن تستند دعائمها المتنوعة على العدالة الاجتماعية، وهي نوعان: عدالة سياسية يضمنها القانون، وعدالة اقتصادية معناها حسن توزيع الأقوات.
لقد أصبح الناس اليوم متساوين أمام القانون، وصار لهم في كثير من البلاد صوت مسموع في نظام الحكم الذي يخضعون له وفي اختيار حكامهم، ولكن توزيع الأقوات لا يزال ينطوي على كثير من الظلم، فالجزء الأكبر من الثروة التي تحصل عليها الأمة في كل عام يذهب إلى جيوب أقلية ضئيلة من الأفراد، في حين أن الكثرة الغالبة لا تحصل إلا على القليل الذي لا يغني، فهؤلاء يكدحون ليل نهار في سبيل الرزق، حتى إن هذا الكدح لا يدع لهم وقتا للتعلم ولا يدع لهم مجالا للمحافظة على صحتهم، ولا يتيح لهم فرصة للإنتاج الفني. فإذا انصرف البؤساء منهم إلى إنتاج فني فهو إنتاج مبتور ناقص حادث تحت إلحاح الحاجة وضرورات الفقر، ومؤثرات الخوف والفزع، ولا شك أن الحضارة منهارة طالما فيها تلك الصدوع الظاهرة في أعمدتها.
والغالب أن الضيق الداخلي الحادث في أمة من الأمم من سوء التوزيع الاقتصادي يؤدي إلى التنفيس الخارجي بواسطة الحرب، ويزيد هذا الميل خطورة أن العالم لم يعد وحدة متماسكة، فإن الحواجز خفية وظاهرة قائمة قياما حقيقيا بين الأمم.
أما عن عقلية الحرب فمن الطرائف أن الملك «أمان الله خان» عندما زار إنجلترا، أطلعوه على جميع الاستعدادات الحربية ولم يزر متحفا واحدا ولا استمع لشاعر واحد.
هذا الجيل جيل حرب واستعداد للحرب، ولم تغير الكوارث المتوالية عقول الساسة؛ لأن من وراء عقولهم آلات التدمير، تلك الآلات التي اخترعها الإنسان ليصير بها سيد الطبيعة فصارت هي سيدته، فنحن نقضي العمر في السهر عليها وتنميتها وتحسينها وتنميقها وتنظيفها، وجعلها مستعدة؛ أي إننا نصرف عمرنا في استرضائها، وفي صنع آلات جديدة.
وللأسف إن ما توفره لنا الآلات لا يزيل البؤس والضنك؛ لأن توزيع الخيرات التي تنتجها توزيع غير عادل، فيكثر عدد المتعطلين والفقراء.
Halaman tidak diketahui