فقد وقع حضرة أحمد شفيق في خطأ مبين أرى من الواجب علي التنبيه عليه واستلفات الأنظار إليه، وذلك أنه خلط النصرانية - أعني التعاليم المسيحية النصرانية - بالشرائع التي لاقاها في طريقة دين المسيح في أوساط مختلفة وأعصار متوالية.
قال مؤسس هذه الديانة: «أعط لقيصر ما لقيصر، وأعط لله ما لله.» وبناء على ذلك التزمت الكنيسة التي هي أمينة ومفسرة لعقائد الإيمان ووصايا الأدب الآتي عن طريق الوحي، بأن ترتضي بشرائع الهيئة الاجتماعية المنظمة لأحوال الناس، كما أنها ارتضت في كل مكان وزمان بالنظامات الحكومية السياسية المتنوعة من ملوكية وجمهورية، ومن مطلقة ودستورية، وبديهي أن الاعتراف بالشرائع المعمول بها وبالحكومات المنظمة المشكلة، لا يعتبر إقرارا على الأصول والقواعد التي روعيت في سن تلكم الشرائع، وتنظيم هاتيكم الحكومات، وقد صدرت من البابا لاوون الثالث عشر براءة عامة في هذه الأيام الأخيرة تذكر بهذا المعنى، ولم يقصد القديس بولس وغيره من آباء الكنيسة الذين ذكروا لنا بتوصية العبيد بالإذعان والامتثال لحالتهم إلا تخفيف شدائد هذه الحالة عليهم، واتخذ آباء الكنيسة لذلك وسيلة فعالة موافقة للطبيعة وللاعتقاد، وهي أن المساكين الذين صاروا ملكا لمواليهم وشيئا من أشيائهم إذا قبلوا وتحملوا مضض الأيام ومحن الزمان وهم صابرون يصيرون أهلا لسكنى الجنان والتمتع بالنعيم في دار البقاء، فهل يمكن الإنسان أن يعتبر الشفقة التي كان موضوعها العبيد باسم دين مواس كانوا هم في الغالب أول من يقبل عليه ويدين به بمنزلة تثبيت للاسترقاق وتقديس له وإقرار عليه؟ وهل يصح القول بأن الملة التي تقول بأن جميع أفراد الإنسان هم أبناء الخالق، وأنه يجب عليهم أن يعتبروا بعضهم إخوانا لبعض ليست هي الملة المنفردة بمناقضة الاسترقاق؟ ألا إن النصرانية قد رفعت مقام الإنسانية في أقدس أسرارها إلى أسمى الدرجات ولم تقر قط بجواز الاسترقاق ، بل يصح لها أن تطالب بحصة عظيمة من السعي في إلغائه من الوجود، فإنها لم تفتر عن بث محبة الله والقريب (الأخ في الآدمية) في الأفئدة والقلوب، ولا عن التأثير في سريرة الأفراد والأمم، ولا عن المناداة بمبادئ الحرية والإخاء، ولنا في العدد العديد من القوانين الكنائسية والنظامات الصادرة من مقام البابوية دليل صادق وبرهان ناطق بعناية الكنيسة عناية خصوصية بشأن الأرقاء، مثال ذلك من ابتداء سنة 1842، رسائل البابا بيوس الثاني وبولس الثالث وأوربانوس الثامن وبنوا الرابع عشر وغريغوريوس السادس عشر، ولذلك ظهر للكنيسة تأثير قوي في بلاد النصرانية، حتى إن هذه البلاد قد أخذت تدريجا في تخفيف حالة أولئك الأفراد من بني الإنسان المحرومين من حريتهم وشخصيتهم القانونية، حتى آل بها الأمر إلى إعادة حقوقهم الطبيعية الأساسية الأولية إليهم.
وقد رأينا من الذين لم ينكروا العمل الإحساني الذي قامت به الكنيسة فريقا يلومها على شدة بطئها في إنجازه وكثرة توانيها في إنفاذه، ولكن ألم تكن الكنيسة نفسها منفية مهددة مضطهدة مدة أجيال طوال؟ وهل كان في وسعها أمام العدد العديد من العبيد في الدولة الرومانية وفي ممالك القرون الوسطى وفي المستعمرات لهذا العهد أن تحث على عتقهم وتدعو إلى تحريرهم من غير أن يترتب على صنيعها هذا ارتجاج عام في نظام المجتمع الإنساني؟
ولنذكر أن سبارتاكوس على رأس جيش من الأرقاء قد أزعج رومة وخرب إيطاليا، وأن العنف الذي حصل في أيامنا هذه في تحرير الأرقاء بأمريكا قد أجج نيران حرب الانشقاق، ألا إن الكنيسة لو تطرفت في عملها لجعلت الهيئة الاجتماعية تحتفظ منها، ولذلك انتظرت بحزم وحكمة حلول الأجل المحتوم، فوصلت إلى غايتها وهي محافظة على شأنها واختصاصها.
ورب معترض يقول: إن تقدم المدنية وارتقاء الحضارة هو الذي أوجب بالضرورة إلغاء الاسترقاق، ولم يكن للدين في ذلك دخل. فأقول: إني أحترم أفكار غيري احتراما شديدا يوجب علي عدم الإفاضة في تصويب فكري، الذي هو فكر المذهب المعبر عنه في ألمانيا بالتاريخي، ومن مقتضى هذا المذهب أن الديانة النصرانية هي الدعامة الأولى للتمدن العصري، ولكن لي الأمل في أني لا أرى أحدا يناقضني إذا قلت إن نفس سلوك رئيس الأساقفة بالجزائر (يعني الكردينال لافيجري) الذي يجهد نفسه جهدا كريما في الأخذ بناصر أرقاء أفريقيا هو أوفى دليل على ما اتصفت به الديانة النصرانية في هذا الموضوع.
فأجاب حضرة أحمد شفيق على ملاحظة حضرة الكونت زالوسكي بأنه مستعد لبيان الأصول التي نقل منها ما ألقاه على الجمعية، ثم أراد أن يسترسل في الرد عليه، فرأى الرئيس أن التوسع في الجدال ربما يخرج عن موضوع الخطبة، ودعا حضرة شفيق بك لإتمام تلاوة مبحثه، فأطال حضرته، حتى إذا لم يعد الوقت كافيا تأجلت تلاوة القسم الأخير إلى جلسة أخرى، ولما حضر فيها حضرة المؤلف أحضر معه نسخا مطبوعة فيها أسماء الكتب المسيحية التي نقل عنها ما نقل مع بيان أسماء مؤلفيها وتواريخ طبعها والمدائن التي طبعت فيها، وخلاصة ما جاء فيها مما له ارتباط بهذا الموضوع.
1
الملحق الثاني
نشرت جريدة الأجبسيان غازت جملة بمناسبة هذه الخطبة جاء فيها:
إن المحاضرة التي ألقاها شفيق كانت كثيرة الفائدة، إلا أنها كانت عدوانية، فالاختلافات والمقارنات اللاهوتية، يلزم اجتنابها في المحاضرات العامة، وبالأخص في البلاد التي يوجد بين سكانها عدد كبير من أديان مختلفة، وفي الحق إن نظرية شفيق كانت في موضعها، ولكنها من الوجهة العملية تختلف كثيرا عن أحكام القرآن.
Halaman tidak diketahui