ولكن إصرار الزملاء وملاحقتهم دفعاه إلى التخلي عن موقفه والجري وراء العباءة.
وغادر صاحبنا مخبأه الإجباري والغضب الهائل لا يزال يجتاحه ويمتقع له وجهه كما لم يمتقع بالخوف أو رهبة الدفاع عن النفس .
وكان الجمهور أيضا قد بدأ يغضب لغضبته، ويقف معه وإن كان بالقلب وحده ضد غريمه المجرم الذي عقد العزم على الفتك به.
وبدأ جو ثان غريب يسيطر على الساحة، وخيم على الناس صمت كان له صوت لا أثر مادي له، ولكنه أعلى من كل صوت.
ولا أدري لماذا شعرنا جميعا ونحن في مقاعدنا بتحفز مفاجئ؟ لم تكن المحاورات والمناورات بين الثور والمصارع قد تغيرت، إنها هي نفسها التي كانت دائرة قبل عملية الطعن الفاشل، ولكن وقعها كان مختلفا، وكان الثور يؤدي دوره بشراسة أكثر، وبدا في رد المصارع نوع من فقدان الأعصاب، ذلك الذي ينتج حين تشد الأعصاب وتتوتر إلى آخرها حتى يبدأ بعضها يتمزق وتبدأ طاقات الصبر تنفد واحدة وراء الأخرى.
وكذلك بدأ وجهه يصبح أكثر شحوبا وتصميما.
ومن الصعب المستحيل أن أصف اللحظات القليلة التي سبقت ما حدث؛ فنحن لا يمكننا وصف ما يسبق الحادث إلا إذا كنا على معرفة سابقة بحدوثه أو على الأقل نتوقع حدوثه. كل ما أستطيع قوله إن المحاورة ظلت دائرة، وكلما طال استمرارها ظهر التخبط الأعمى في حركات الثور، والاضطراب الذي لا مبرر له في تحركات الميتادور. قال البعض إنه التعب، لقد استنفدا كل قواهما وإلى آخر قطرة. قال آخرون إن الثور بسبب النزيف المستمر قد أصيب بالعمى، وإنه لم يعد يرى فقد أصبح يهاجم بلا سبب ويتوقف بلا سبب، وتطيش هجمته مرة ويرتد مرة أخرى فجأة، وبلا توقع فيكاد يأتي على الميتادور، ولكنه كان يفعل هذا كله بدافع بدا مختلفا تماما وكأنه الحقد، الحقد الدفين المبيت، الحقد الذي يشعل في الكائنات العليا نار الحرب ويجعل الأخ يذبح أخاه.
وفجأة، أجل فجأة! هكذا تحل الأحداث دائما فجأة، فجأة! ولغير ما سبب معلوم أو مرئي انزلقت قدمه وسقط، لم يعرف أحد لماذا انزلقت قدمه أو السبب الحقيقي لسقوطه؛ فقد وجدناه فجأة ممددا على الأرض.
كان الثور قريبا منه ورأسه في اتجاهه أيضا، ورغم أن سقطته المفاجئة أعقبتها في الحال وقفة مفاجئة منا ، من الثلاثين ألف متفرج، وقفة خوف إلا أنه خوف يشوبه اطمئنان كثير؛ فقد خدعتنا نجاته السابقة، واعتقدنا جميعا وبلا استثناء واحد أنه لا بد سيحدث كما حدث في المرة الأولى، وسيهب حالا من وقفته ويستأنف الصراع. ولكن الثور في تلك اللحظات كان مقبلا عليه إقبالا أسرع من الزمن - هكذا بدا لنا - أسرع من خواطرنا، أسرع من حساباتنا، أسرع من أي شيء في الوجود؛ إذ كان له سرعة النكبة والكارثة والقضاء حين يحم.
ولكن سرعته تلك لا تنفي أبدا أنه لم يكن هناك وقت، ليس وقتا كثيرا، ولكنه ذلك الحد الأدنى من الوقت، ذلك الذي تستطيع بالكاد أن تلمحه وتحس وجوده أو مروره، وقت كان يكفي على الأقل ليعتدل الشاب، ولو أوتي نفس قدرته الأولى لكان قد استطاع أن يقف ويتفادى من الثور القادم.
Halaman tidak diketahui