Lelaki yang Saya Kenal
رجال عرفتهم
Genre-genre
وكنت قد عرفته من كتاباته زمنا قبل أن أعرفه رأى العين، ولكنني بعد أن صاحبته في مكتب الدستور من يوم إنشائه إلى يوم تعطيله - إلا فترات من الزمن لا تحسب - أراني أستطيع أن أقول إنني كنت أعرفه من كتاباته كذلك وأنا معه في دار واحدة؛ لأنه كان يعمل في مسكنه بالدار ولا ينتقل إلى مكتبه إلا للقاء طارئ من الزوار، أو للاجتماع بلجنة من لجان الصحيفة لمراجعة أحوال الإدارة والتحرير والتوزيع، وكان يعفيني من إطلاعه على ما أكتب قبل إرساله إلى المطبعة، فربما مضى الأسبوع ولم ألقه، إلا إذا طرأ من شئون الصحيفة ما يدعو إلى مشورته أو تبليغه عنه ليتصرف فيه بما يراه.
قرأت إعلانه عن طلب محرر للصحيفة، فكتبت إليه أخبره بأنني أرشح نفسي للعمل في الصحافة لأول مرة، فجاءني الرد منه بعد يوم أو يومين يسألني أن ألقاه بدار مطبعة الواعظ لصاحبها الكاتب المعروف - يومئذ - «محمود سلامة»، وكنت أقرأ مقالاته النقدية، ويعجبني منه ما يعجبني من مدرسته كلها: وهي مدرسة «عبد الله نديم» و«أحمد سمير»، وكنت أعرف مكان مطبعة الواعظ؛ لأنني فكرت زمنا في إصدار صحيفة على مثالها وفي مثل حجمها، قبل أن أستقيل من وظيفتي الحكومية.
فلما ذهبت إلى الموعد - بالدقيقة - أخرج الساعة من جيبه ونظر فيها، وسكت هنيهة ثم سألني عما اطلعت عليه من مؤلفاته التي أشرت إليها في الخطاب، ثم اختار صحيفة من الصحف التي كانت على مكتب صاحب الواعظ وقال لي: هل قرأت هذا؟ فنظرت في الصحيفة فعلمت أنه يشير إلى مقال عن رحلة لكاتب المقال في العاصمة الفرنسية، كنت قد اطلعت عليه قبل ذلك، فرددت الصحيفة إليه وأنا أقول: إنني لم أذهب إلى باريس، ولكن موضع العجب عندي أن الكاتب لم يطرق منها غير الحي اللاتيني، ولم يعرف في الحي اللاتيني غير معارض الخلاعة والمجون، فهل هذه هي باريس؟ فضحك صاحبنا ضحكة تنم على كل ما في طوية نفسه من براءة طيبة كبراءة الطفولة، وقال: هذه هي باريس كلها، إذا كانت القاهرة كلها هي ما تراه الساعة. هل لك في رحلة قصيرة نقضي بها رياضة اليوم؟
وسرت معه حيث سار، فلاح لي أنه كان كأنما يسير معي ولا يوجهني إلى مكان مقصود بعينه، أو كأنني كنت أوجهه كما كان يوجهني على السواء.
وقال لي في صراحة لا تكلف فيها، إنه عرض علي مقال الصحيفة عن رحلة باريس امتحانا لرأيي بعد أن أغناه أسلوب خطابي عن امتحاني في الكتابة، وبعد أن أغناه حضوري إلى الموعد - بالدقيقة - عن امتحان نظامي في العمل، فلي أن أعتبر نفسي محررا بصحيفة الدستور منذ تلك اللحظة، ولي أن أسأله عما أشاء عن نظام العمل المطلوب.
ولم أسأله عن شيء من ذلك، ولكنه هو قد مضى يسهب في بيان مقصده من إنشاء الصحيفة وبيان خطتها في السياسة والوطنية، ثم مضت الأيام بعد الأيام في هذا العمل المشترك بيني وبينه، لا يعاوننا فيه أحد غير أخيه «أحمد» الطالب بكلية الحقوق، وغير آحاد من زملائه الطلبة ومن وكلاء الصحيفة في الأقاليم، ولم ينقطع عملي في الدستور غير بضعة أسابيع، تركت الصحيفة فيها لخلاف وقع بيني وبين أخيه، لاعتراضه على بعض آرائي في السياسة الحزبية، والحق أنه اعتراض لم يكن فيه ما يسوء، لولا أنني استكثرته من الأخ، وهو يعلم أن أخاه الأكبر لا يبدي على ما أكتب مثل هذا الاعتراض فيما يخالفه أو يناقضه من الآراء السياسية.
ولم ألق «محمد فريد وجدي» بعد تعطيل الدستور غير مرات معدودات، وكنت قد برحت «القاهرة» إلى «أسوان» ثم عدت إلى «القاهرة» للعلاج من وعكة قطعتني عن العمل بضعة أشهر.
وفي حديث من أحاديث الرياضة على الأقدام كان لقائي الأول له بعد عودتي إلى «القاهرة»، فإنني عرفت مسكنه بعد انتقاله إليه من مسكنه بدار الصحيفة، فقصدت إليه على أثر رياضة في الخلاء وبيدي كتاب من كتب الفلسفة الاجتماعية، فقال لي وقد نظر في الكتاب ولمح على وجهي أعراض السقم: وفي مثل هذا الكتاب تقرأ وأنت ترتاض للاستشفاء؟
وأذكر أنني فاتحته باعتقادي قصر العمر وقلة الجدوى من الاستشفاء، فابتسم ابتسامته الأبوية، وفتح الصفحة الأولى من الكتاب وهو يقول لي: اكتب هنا. ثم أملى علي كلاما فحواه أنني سأعود إلى هذه الأسطر وأنا شيخ معمر، لكي أعرف أنني كنت على خطأ كبير حين قدرت لنفسي نهاية العمر القصير.
رحم «الله» ذلك القلب الطهور، وذلك الروح الكريم، وذلك الحق الفريد.
Halaman tidak diketahui