لا أقصد هنا العين أو الرؤية فقط ولكني أقصد الإحساس أيضا، فقد أدركت منذ هبطت على أرض الهند أن إحساسا عميقا بالراحة والسلام والطمأنينة غمرني. لم أعرف سبب ذلك، هل هي ابتسامة الناس المستسلمة الوديعة، هل هي السماء الزرقاء الصافية والشمس، هل هو ذلك الرجل العجوز الجالس فوق الرصيف ينظر إلى الناس والحياة بإشفاق وزهد يشبه إشفاق وزهد غاندي؟ أم هي تلك العصافير التي تشدو في كل مكان وتهبط في أي مكان تلتقط طعامها من وسط الناس؟ أم هذه الأبقار التي ترعى في الشوارع إلى جوار السيارات والموتوسيكلات والعجلات تأكل من أي مكان دون أن يتعرض لها أحد؟
قلت لنفسي إذا كانت العصافير والأبقار آمنة في الهند فهذا هو سبب شعوري بالأمان والسلام، ولكني عرفت بعد ذلك أن الهنود يحترمون الحياة في أي شكل من أشكالها، وأن الفلسفة الهندية قائمة على تقديس الحياة وعدم قتل أي كائن حي وإن كان بعوضة، بل إن إحدى الديانات الهندية واسمها الديانة «الجينية» تفرض على الناسك منها أن يرتدي فوق أنفه قناعا، وأن يمشي على الأرض حافيا وبخطوات خفيفة، والهدف من ذلك هو حماية النمل والحشرات البريئة من أن تدوسها قدم الناسك. أما القناع فهو لحماية الباعوض أو الهاموش الصغير البريء من أن يدخل مع الهواء إلى أنف الناسك ويموت في صدره.
كنت قد أعجبت كثيرا بموقف الهنود من الحياة واحترامهم لها، لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك على هؤلاء الرجال الحفاة ذوي الأقنعة الذين كنت ألتقي بهم في الشارع أحيانا، وكنت أندهش لمنظرهم وأظن من ملابسهم البيضاء والقناع الأبيض أنهم أطباء خرجوا لتوهم من حجرة العلميات بحثا عن مريض هارب، أو أنهم مصابون بمرض في الأنف، أو أنهم مصابون بمرض الوسوسة ويغطون أنوفهم خوفا من الجراثيم في الجو، أو أنهم نزلاء أحد المستشفيات العقلية، وحينما عرفت أنهم الناسكون في الديانة الجينية، وأنهم يغطون أنوفهم ليس حماية لأنفسهم من الجراثيم وإنما حماية للجراثيم منهم قلت لنفسي: كم ينقلب المبدأ العظيم أحيانا إلى نوع من الهلوسة والجنون! وكم تنطوي الأديان أحيانا على تناقضات ومبالغات وخزعبلات!
من الصعب أن تعرف البلد من عاصمته؛ فعواصم البلاد في معظم الأحيان ليست إلا مدنا كبيرة متشابهة، تسكنها السفارات ودواوين الحكومة، شوارعها فسيحة نظيفة، تزداد مساحة ونظافة باقترابك من بيوت الحكام أو مكاتبهم أو حيث ينشط مندوبوهم أو ممثلوهم أو ما شابه ذلك. والعاصمة نيودلهي لا تختلف عن أية عاصمة في ذلك. وكم تندهش لبعض البيوت الفاخرة ذات الطراز الحديث المحوطة بالحدائق اليانعة، وتلك الشوارع الفسيحة الجميلة التي تقودك إلى الأحياء الراقية حيث يعيش أثرياء الهنود والأجانب والسياح.
ولكن سرعان ما تدخل إلى «دلهي» القديمة كما يسمونها، وتضيق الشوارع وتزدحم بالأجسام والأنفاس، ولا تكاد تعرف الرصيف من الشارع، ولا تكاد تفصل بين تلك المركبات التي تجري فوق الأرض، مركبات تعرف أنها سيارة أو موتوسيكل أو عجلة، ومركبات لا تعرف ما إذا كانت سيارة أو موتوسيكلا أو عجلة أو مزيجا من كل هذا، في الهند تستطيع أن ترى بعينيك جميع أنواع المركبات منذ اكتشاف العجلة وابتداء من الفيل أو الجمل أو البقرة أو الخنزير. كل أنواع الحيوانات هنا تجر أية عربة في أية شارع، وكل أنواع العجل منذ تطور من عجلة تحركها قدما الإنسان، إلى عجلة يحركها موتور، إلى موتوسيكل، ثم إلى سيارة، كل ذلك تراه في الشارع الواحد يجري ويتسابق، ويمكنك أن تميز الطبقات وأنت سائر في الشارع؛ الذين يركبون السيارات هم طبقة الحكام والأثرياء من الهنود والأجانب وذوي المهن المربحة العالية. الذين يركبون الموتوسيكلات هم طبقة صغار التجار وصغار الموظفين. الذين يركبون العجلات هم أبناء الطبقة الفقيرة والطبقة العاملة. أما أدنى طبقة في الهند فهم الذين لا يركبون شيئا وإنما هم الذين يجرون العجلات (كما يجرها البقر أو الحمير). ومن المناظر المألوفة في الهند هي أن ترى ذلك الرجل النحيف الهزيل الذي يلهث ويتصبب العرق من وجهه وجسده وهو يجر على عجلته ثلاثة أو أربعة من الأشخاص. هذه العجلة التي يجرها الإنسان اسمها «الريكشا» وهي منتشرة في الهند، وكم ترى أحيانا ذلك السائح الأبيض السمين وإلى جواره زوجته السمينة يجلسان في سعادة يتفرجان، بينما راح الرجل الهزيل الأسمر يجرهما فوق عجلته وهو يلهث.
على أن هذا الرجل النحيل اللاهث أحسن حالا من غيره؛ لأنه لا زال يملك القوة التي يجر بها شيئا، وهناك من فقد تلك القوة، ولم يعد يملك إلا الرقاد على الرصيف في انتظار الأجل المحتوم. وعلى الأرصفة في أي مكان في الهند ترى هؤلاء الرجال والنساء والأطفال الذين لا مأوى لهم إلا قطعة الرصيف التي يرقدون فوقها.
بعض السياح في الهند ينظرون إلى هذا الفقر نظرة رومانتيكية، بعضهم يقف مذهولا يتألم دون أن يدرك السبب الحقيقي لهذا الفقر، بعضهم يتهم الفقراء بالكسل أو الغباء، بعضهم يقول: إن هذه هي إرادة الله، والله هو الذي يوزع الرزق على من يشاء ويحرم من يشاء. بعضهم يظن أن الفقر فلسفة هندية ونوع إرادي من العزوف عن متع الحياة. كل شيء ممكن أن يفكر فيه السياح إلا السبب الحقيقي؛ ذلك أن المال الذي ينفقه السائح الواحد منهم في اليوم يكفي لإعالة أسرة هندية لمدة شهر، وذلك أن ثروات الهند الطائلة لم تكن تذهب إلى أصحاب البلد وإنما إلى جيوب الغزاة الأجانب، بل إن جزءا منها حتى الآن لا تزال تنهبه الشركات الإنجليزية والأجنبية. •••
لا أدري لماذا تذكرت طفولتي وأنا في الهند، ليس تذكرا عاديا بأن أتذكر حوادث ما، ولكنه إحساس قوي طاغ يستولى علي حين أنظر في وجوه الأطفال الهنود فإذا بي أحس كأنما هذا الطفل الواقف أمامي هو أنا حينما كنت طفلة، وأن تلك النظرة في عينيه هي بالضبط نظرة عيني وأنا طفلة، وأن الطريقة التي ينبهر بها أو يجري أو يلعب بها، أو يحمل بها أخاه الأصغر هي نفسها طريقتي وأنا طفلة.
من المناظر المألوفة في الهند أن ترى الأطفال يلعبون وقد حمل الواحد منهم أخاه أو أخته الأصغر بطريقة معينة؛ ذلك أن يركب الطفل الأصغر فوق خصر الطفل الأكبر وتتدلى ساقاه، هؤلاء هم الأطفال المحظوظون الذين خرجوا من بيوتهم ليلعبوا في الشوارع أو الحدائق، أما معظم الأطفال فإنهم لا يعرفون شيئا اسمه اللعب وإنما يشتغلون ويكدون سعيا وراء الرزق سواء في الحقول أو المصانع أو الدكاكين الصغيرة، وهناك أيضا الأطفال الذين يعترضون طريقك في أي شارع باسطين أيديهم النحيلة وهم يقولون باللغة الإنجليزية: أعطني بقشيشا. لكن المنظر الذي لا يمكن أن تنساه هو هؤلاء الأطفال الذين لا يعترضون طريقك، ولا يقولون شيئا وإنما ينظرون إليك بعينين صامتتين ليس فيهما إلا معنى واحد ملح وصارخ يهتف بغير صوت: نحن جوعى! •••
إحساس غريب أصبح يلازمني في الهند كلما رأيت طفلا أو دخلت بيتا أو معبدا أو مكتبا أو مدرسة أو مستشفى أو مصنعا، إحساس غريب كأنما أنا لست في الهند وإنما في مصر، رغم الاختلاف الظاهري هناك نوع من التشابه الغريب، كأنما الجذور واحدة، وأصبحت وأنا أكتشف الهند كأنما أكتشف مصر، وبدأت أتفهم تاريخ مصر من تاريخ الهند، وأرى حقائق عن مصر لم أرها وأنا في مصر. ليس ذلك فقط لأن الإنسان لا يعرف بلده إلا وهو خارجه أو لا يرى الشيء إلا من مسافة، وإنما لأن الملامح العامة في الهند تشبه الملامح العامة في مصر، بل إن رائحة الهواء ورائحة التراب تكاد تشبه هواء وتراب مصر.
Halaman tidak diketahui