كان ينمو بسرعة ويأكل بشهية، طعام الأطفال داخل علب زجاجية صغيرة، مطهي جاهز ولذيذ الطعم، على الرفوف في المحلات والأسواق تطل العلب بألوانها وأشكالها المتعددة: فواكه وخضر وأسماك وبيض وبقول من كل نوع، على علبة التفاح ترسم تفاحة حمراء، وعلى علبة السمك سمكة ملونة في يد طفل يلعب، وعلى علبة الأرز باللبن وعاء أبيض مملوء بالمهلبية.
كم من الوقت كانت تقف أمي أمام الموقد تقلب اللبن مع مسحوق الأرز لتصنع المهلبية؟ وكم من الوقت كنت أنفقه لأصنع لابنتي طعامها وهي طفلة؟ ولكني هنا أمد يدي وأسحب علب طعام الأطفال ما أشاء.
وتآلف مع حياتي الجديد، أصبحت أحب الكلية والمحاضرات وصداقات جديدة تربطني بالزميلات والزملاء ، والأساتذة يندهشون حين يرون أنني أقدم البحوث في موعدها وأحصل في الامتحانات على أعلى الدرجات، ولم أتغيب طوال العام إلا أربعة أيام.
أحد الأبحاث التي قدمتها كان عن مستشفى «هارلم»، وهارلم هو حي الزنوج في نيويورك، زرت المستشفى عدة مرات مع ماريون، قاعة انتظار المرضى تذكرني بقاعات الانتظار في مستشفى قصر العيني، والطابور يشبه الطابور الذي كان يقف أمامي كل صباح، الوجوه الشاحبة الذابلة، عيون ضامرة حزينة، ينتظرون اللحظة التي تناديهم فيها الممرضة ليمثلوا بين يدي الطبيب أو الطبيبة، بعضهم ينزف، بعضهم في شبه غيبوبة أو إغماءة، مكدسون في القاعة منذ ساعات طويلة.
وتساءلت: لماذا ينتظرون كل هذه الساعات؟
قالت ماريون: نقص في عدد الأطباء، والطبيب الواحد يكشف على مائة مريض في اليوم.
في مفكرتي عام 1956 حين كنت طبيبة امتياز بقصر العيني كنت أدون عدد المرضى الذين أفحصهم في العيادة الخارجية في اليوم الواحد، بلغ الرقم في أحد الأيام مائة وثلاثة وعشرين مريضا، وحين انتقلت للعمل بوزارة الصحة لم تعد هناك وسيلة لمعرفة عدد الطابور الممتد بامتداد البصر.
عنابر المرضى في مستشفى هارلم تشبه عنابر قصر العيني، لكن الطرقات في قصر العيني كانت خالية، وهنا أرى المرضى يرقدون على أسرة إضافية في الطرقات، والممرات الضيقة في المستشفى، والرائحة هي الرائحة التي كنت أشمها وأنا أمر على المرضى، عفونة الدم والصديد والجروح المتقيحة، ودورات المياه تفوح منها رائحة نتنة كالمجاري الطافحة، وصراصير حمراء وسوداء كبيرة وصغيرة تجري حول البالوعات.
وضعت ماريون على أنفها منديلها الأبيض وهي تقول: يلقون الفائض من علب الطعام في مياه المحيط وهؤلاء الناس يمرضون من الجوع.
وسألتها: ولماذا يحدث هذا؟ أمريكا بلد غني!
Halaman tidak diketahui