مهرجان من الألوان والأضواء والناس سائرون على الأقدام أو جالسون على المقاهي يشربون ويأكلون ويتحدثون، أوراق الشجر تلمع وتهتز، السماء تبرق بالأنوار، مياه نهر السين تتراقص تحت اللمبات الملونة، نسمة الهواء باردة منعشة خالية من التراب، الوجوه نضرة تبدو عليها الراحة، المقاهي والمطاعم أنيقة تسبح في الضوء، أعمدة الأبنية ضخمة تزينها التماثيل، قباب الكنائس والقصور، الحدائق ومساحات الخضرة، الشوارع نظيفة لامعة، الملابس أنيقة متعددة الألوان والأشكال، النساء تمشي ببساطة وحرية وتلقائية. لا أحد ينظر إلى أحد، ولا رجل يعاكس امرأة، الأتوبيس يقف في المحطة والناس تهبط وتصعد في صفوف منتظمة. لا أحد يدفع أحدا من الخلف. لا يجري أحد وراء الأتوبيس، ولا يصعد أحد فوق ظهر الأتوبيس، أو يركب على السلم، وليس هناك رجل يلتصق بامرأة من الخلف ، وليس هناك كمساري ينضغط بين أجساد الناس ويدق على صندوقه الخشبي المعلق على كتفه مناديا: تذاكر! تذاكر!
كنت أرقبه قبل أن يصل إلي وهو يشق الطريق بين الركاب، فإذا ما أصبح بينه وبيني مسافة ذراع هبطت بسرعة من الأتوبيس، ولم تكن ذراعه تطولني، مرة واحدة هبط ورائي بسرعة، وجعلني أدفع التذكرة، ولم يكن ثمن التذكرة حينئذ إلا عشرة مليمات. لكنها كانت تبدو لي وأنا طفلة كأنها عشرة جنيهات. •••
أمامي فنجان القهوة باللبن، وأنا جالسة على الرصيف في ذلك المقهى المواجه لحديقة اللوكسمبورج، العالم كله يمر أمام عيني كالنهر المتدفق، وجوه من جميع أنحاء العالم وجميع اللغات واللهجات.
أمدد ساقي في ارتخاء وأرتشف القهوة ببطء ولذة، منذ الزيارة الأولى لباريس وأنا أحب الجلوس في المقاهي على الرصيف، وفي الزيارات الأخرى ظل مقعدي الصغير في المقهى هو مكاني المفضل، والحي اللاتيني هو أجمل الأحياء، وغرفتي في ذلك الفندق الصغير الأنيق في بوليفار سان جرمان، والمكتبات والمسارح ودور السينما الصغيرة، حيث أجلس في المقعد الدافئ المريح وأمدد ساقي وأتابع المشاهد لأي مؤلف في العالم: من شكسبير وأبسن المريح وبرنارد شو وتشيكوف إلى موليير وسارتر وجان جينيه.
لا زلت أجلس في المقهى، الساعة الثالثة وأمامي ساعتان حتى أذهب إلى المطار لأغادر باريس، الشمس ناعمة كالقطيفة، دقات الكعوب فوق الأرض مرحة نشطة.
ضحكة تنطلق من حين إلى حين ثم تذوب في الهواء، شاب يجلس إلى جواري يقرأ في كتاب ويرشف البيرة، رجل عجوز داخل معطف صوفي يحملق في الشارع ويمص القهوة من فنجان ملون، امرأتان تسيران متعانقتين تضحكان بصوت عال وتقفزان لحظة في الهواء ثم تواصلان السير، أوراق الشجر تهتز مع الهواء وتلمع تحت أشعة الشمس، ومن خلال سور الحديقة أرى أحواض الزهور متعددة الألوان والأشكال.
الساعة الثالثة والربع ولا أزال أمامي الوقت، طلبت كوبا كبيرا من البيرة وشرائح رقيقة من البطاطس المحمرة، رائحة البيرة وملمسها المثلج في جوفي يملؤني بالانتعاش، أترك جسمي يسترخي أكثر في المقعد، وأغمض عيني، أشعة الشمس أحسها دافئة فوق جفني أفتح عيني فجأة باندهاش: أين أنا؟ وأدرك أنني جالسة في المقعد على رصيف المقهى، جالسة وحدي وأمامي كوب ضخم من البيرة، والناس تمر، والرجال يمرون، ولا أحد يقذفني بكلمة أو يرمقني بنظرة.
لم أستمتع بجلسة في مقاهي الوطن؛ فالمقاهي في بلادنا للرجال، يجلسون على المقاعد، ويرمقون النساء السائرات، من الأمام ومن الخلف، من الرأس حتى الصدر، ثم تدور عيونهم لتفحص السيقان من الخلف والردفين.
وفي يوم جلست في المقهى المواجه لوزارة المالية في ميدان لاظوغلي. كانت لي بعض الأوراق في الوزارة وتأخر الموظف المسئول، وقررت انتظاره في المقهى، طلبت كوبا من الشاي وجلست، لكن عيون الرجال ظلت ترمقني، من داخل المقهى وخارجه، ثم اقترب مني رجل وجلس إلى المنضدة المجاورة لي وهمس ببضع كلمات لم أسمعها، وسألته بدهشة: ماذا تريد؟
لم أكن أعرف حينئذ أن مثل هذا السؤال يعد في نظر الرجال قبولا لفتح الحوار أو على الأقل عدم الرفض، فإذا به ينتقل بسرعة إلى المقعد المجاور لي ويقول بصوت لزج: تشرب إيه يا جميل؟ ولم أستطع التخلص منه إلا حين رفعت صوتي الغاضب عاليا، وبدأ الرجال الجالسون في المقهى يضحكون ويقهقهون، ووجدتني أترك الكوب دون أن أكمله وخرجت مسرعة من المقهى والعيون تلاحقني ومعها النكات والقفشات النابية.
Halaman tidak diketahui