ولم يبق خارج السجون من أعوان الإمبراطور إلا خادمه وكلبه الأمين، وكف الإمبراطور عن لعب الجمباز في الحديقة؛ فقد اختفى الحراس من حول القصر، وأصبح البقر يدخل الحديقة ليأكل العشب.
كان العام هو 1974. وقد استفاد منجستو الجديد من تجربة منجستو القديم عام 1960، وقطع أسلاك التليفون داخل القصر، فلم يعد يسمع الإمبراطور رنين جرس التليفون، ولم يعد يفعل شيئا سوى ارتداء الزي العسكري كل صباح، والجلوس بجوار النافذة أو الباب، وقد يأخذ خادمه إلى الكنيسة حيث يصلي ويقرأ كلام الله.
حتى جاء يوم 11 سبتمبر 1974 حين سمع الإمبراطور أصوات المظاهرات في الشارع تطلب شنقه، ودخل إليه رجال الجيش، وبعد أداء التحية العسكرية قرءوا عليه قرار خلعه عن العرش، ثم أركبوه إحدى السيارات المصفحة، وتساءل الإمبراطور في هلع: إلى أين تأخذونني؟ وقالوا له: نأخذك إلى مكان أمين.
وكان المكان الأمين هو السجن بلغة الأحباش، وأخذ منهم السادات هذا الاصطلاح. وفي السجن عاش هيلاسلاسي اثني عشر شهرا ثم مات .
وقبض منجستو ورجاله على أعوان الإمبراطور، وبعضهم هرب خارج الحبشة، وبعضهم تنكر في زي الرهبان في الأديرة، وبعضهم فر إلى الجبال؛ ليعود من حين إلى حين إلى أديس أبابا، يتخفى في الليل ويطلق الرصاص على رجال الثورة.
وفي الليل نسمع سيارات الجيش وهي تجوب الشوارع في أديس أبابا تبحث عن أعوان هيلاسلاسي ورجال الثورة المضادة، وتدوي طلقات الرصاص في الليل. •••
بيتي نوافذه عريضة من الزجاج، أرى الجبال الخضراء وأنا راقدة في سريري. في الصباح الباكر أخرج إلى حمام السباحة في فندق الهيلتون على الهضبة العالية في مواجهة قصر هيلاسلاسي، مياه حمام السباحة ساخنة يتصاعد منها البخار، رذاذ المطر يتساقط فوق رأسي، أرى الشمس والقمر في السماء، ومدينة أديس أبابا لا تزال نائمة إلا بعض الشباب يتدربون على السلاح، صفوف من الفتيات والفتيان يؤدون التدريبات الساعة السادسة صباحا، دقات كعوبهم فوق الأسفلت وأنفاسهم منتظمة متصلة كالنشيد الصامت، وفي الميدان الكبير ترتفع الصور الثلاث: ماركس وإنجلز ولينين، في صدر كل منهم عدد من الرصاصات، بالأمس سمعت الطلقات وأنا نائمة، وفي الصباح عرفت أن بعض أعوان هيلاسلاسي أطلقوا الرصاص على الصور الثلاث في منتصف الليل.
لا زالت الصور معلقة على الأعمدة، تقاوم الرصاص وسيول المطر ولهيب الشمس، رجل ولد منذ مائتي عام نطق باللغة الألمانية على بعد أربعة آلاف كيلومتر وصوته لا يزال فوق هذه الهضبة التي تنطق باللغة الأمهرية في وسط أفريقيا.
مبنى الأمم المتحدة يواجه الميدان، ومكتبي في اللحظة الاقتصادية الدور الثالث حيث قسم المرأة الأفريقية، رئيس اللجنة له مساعد، والمساعد له سكرتيرة إثيوبية، وهو من شمال أوروبا، أبيض تشوبه حمرة كبشرة البرص، وهي سمراء كالكاكاو أو البن المحروق، شمال يحن إلى جنوب، وتسري الإشاعات في المبنى الضخم عن قصص العشق بين السكرتيرات والمديرين، تبدأ القصة عادة في رحلة إلى مؤتمر، وتنتهي في رحلة أخرى إلى مؤتمر آخر، والتخطيط لعقد المؤتمرات يبدأ مع بداية اللقاء في الربيع، ينعقد المؤتمر في أي مكان من العالم إلا موطن المدير؛ فهناك زوجته وأولاده، ورصيد في البنك بالرقم السري الخطير.
منذ تخرجت واشتغلت وبيني وبين المديرين عداء؛ مفهومهم للإدارة عجيب، وعلاقة الرئيس بالمرءوس كالسيد بالعبد، طاعة مطلقة للأوامر بغير مناقشة، والرؤساء في الحكومة المصرية فراعنة. لكنهم في الأمم المتحدة آلهة مقدسة، والمرءوس في الحكومة إذا تمرد وفصل فلن يخسر إلا الملاليم، لكن الخسارة في الأمم المتحدة بالآلاف والملايين؛ لهذا يسود الهدوء المكاتب، ويسيرون فوق الأرض بخطى خفيفة حذرة. لا يدخلون إلى حجرة الرئيس أو المدير إلا بعد استئذان، وإذا أذن لهم يطرقون الباب برقة بالغة، وإذا فتح الباب فلا يدخلون دفعة واحدة، وإنما على أجزاء، الرأس أولا تطل من الباب بأدب، ويتبعها الكتفان ثم الذراعان وبقية الجسم، والجزء الأخير الذي يدخل هو القدمان، تدلفان من الباب بهدوء شديد داخل حذاء لامع مصقول.
Halaman tidak diketahui