Perjalanan Masa Nubia
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genre-genre
ويؤدي هذا إلى أن يتمكن القبطان من السير بباخرته في أحلك ساعات الظلمة وفي أخطر الأماكن دون قلق كثير، فهو يمضي قدما بالباخرة في الدكنة التي لم يتعودها غيره، ويطفئ الأنوار الكاشفة تماما ويحس طريقه دون وجل خلال ظلام، لا أستطيع أنا وأنت أن نميز فيه أين ينتهي النهر وأين يبدأ البر، وربما تظن أن النجوع بأنوار مصابيحها الكيروسينية تحدد مجرى النهر، ولو كان الأمر كذلك لكان المنظر أكثر من أن يكون رائعا، لكن سكان بلاد النوبة قوم ينامون مبكرين، ولا يسرفون في استخدام المصابيح كثيرا، كما أن الشبابيك مصنوعة من ألواح خشبية قطعة واحدة، لا تترك بصيصا من النور يطل على هذا الكون المظلم، الذي لا نرى فيه سوى إشعاعات ماسية ضئيلة من النجوم التي ترصع السماء بكثرة لا نلحظها في المدن، وإشعاعات هذه النجوم ثابتة قليلة التلألؤ؛ لصفاء السماء من أبخرة المدن والغازات التي تغلف جوها. وعلى هذه الأضواء الشاحبة جدا، قد نلمح على البعد أشباح التلال وحافات الهضبة تحف في سكون الأفق الرحيب أمامنا.
والخلاصة أن القباطنة ورؤساء المراكب والصنادل يسافرون وفي أذهانهم «كمبيوتر» مرسوم بالخبرة والتجربة «والباقي على الله»، والعبارة التي يرددونها دائما هي «السفر تساهيل»؛ ردا على استفسار: متى نصل المحطة التالية؟
الفصل العاشر
من المالكي إلى الدر وتوشكى
بعد شاي الصباح في مضيفة عوض أفندي ذهبنا إلى منزل الأستاذ هلالي لأخذ أغراضنا، ثم توجهنا بالقارب إلى نجع البوستة، حيث تزودنا بالوقود وأخذنا صفائح أخرى للاحتياج طوال الطريق، وفي التاسعة تحركنا بعد أن اتفقنا مع الأستاذ هلالي على زيارة السنجاري في طريق العودة، وبعد نحو ساعة ظهرت كورسكو شرق تحت أقدام جبل كورسكو المخروطي، وهو معلم من المعالم الرئيسية في الملاحة النوبية لارتفاعه - 267 مترا فوق سطح البحر و155 مترا فوق منسوب النهر - وترتفع جبال السنجاري وشاترمة إلى 290 مترا، لكنها تمتد في صورة حائط عال، بينما يقف جبل جورسكو منفردا بين جبال السنجاري وأبو حنضل.
ولكن هناك أهمية ملاحية أخرى لجبل كورسكو؛ فهو إشارة إلى بداية انحناء النهر إلى الشمال الغربي، بعد أن كان النهر يسير في اتجاه عام إلى الجنوب، ويستمر النهر في هذا الاتجاه حتى بعد الدر بقليل مسافة نحو 30 كيلومترا، هي مسافة ليست كبيرة، لكنها شديدة البأس على الملاحة، خاصة في موسم الفيضان؛ حيث تتجمع قوة تيار الماء والرياح الشمالية على إعاقة الملاحة الشراعية تماما، وهو ما يؤدي إلى استعانة مراكب الشراع بأسلوب «جر اللبان»؛ أي يجرها الملاحون بالحبال من البر، وهي عملية شاقة جدا، وبطيئة لدرجة لا توصف، وقد قابلنا في الدر مراكب قطعت المسافة من المالكي إلى الدر في ثمانية أيام، بينما قطعناها نحن في أقل من ست ساعات ، وتكون مراكب الشراع محظوظة إذا جرتها الصنادل إلى الدر.
كانت الرياح الشمالية في مواجهتنا وتيار الماء القوي يتسبب في بطء حركة القارب، فضلا عن وجود دوامات كثيرة تدفعنا إلى تغيير مسار القارب في صورة مستمرة لتجنبها، وعبرنا النهر إلى الضفة الشرقية بعد أن تجاوزنا كورسكو شرق بقليل، وبدأت أجمات خضراء تظهر بكثرة ابتداء من أبو حنضل، متكونة من أشجار السنط ونخيل الدوم جميل الشكل ونخيل البلح سامق الطول، وفي الحادية عشرة مررنا بسفينة البوستة أمامنا على البر الغربي، والنيل في هذه المنطقة يبدو ضيقا؛ لوجود جزيرة غاطسة أمام أبو حنضل تهدئ من سرعة التيار، وتجعل المياه في الجزء بين الشاطئ والجزيرة الغارقة ساكنة رائقة كما لو كنا في فترة الخزان الشتوي، تنعكس عليها صورة الجبل وخضار الأشجار، بينما الشاطئ الغربي تنعكس عليه ألوان حمرة الرمال القادمة من آلاف السنين من الصحراء الغربية.
وهنا يجب أن نوضح أن الغرب والشرق في المنطقة من كورسكو حتى الدر هي تسميات محلية ليس لها صلة بالتوجيه الجغرافي، بل هي العكس تماما؛ فمصطلاح غرب وشرق عند أهالي المنطقة هو استكمال لنفس التوجه في بقية النوبة، حيث الشرق شرق والغرب غرب، أما هنا في هذه المنطقة فإن التسمية شرق هي في الحقيقة غرب، والغرب هو في الحقيقة شرق حسب اتجاه البوصلة؛ والسبب في هذا راجع إلى النهر يقلب اتجاهه العام؛ فبدلا من الاتجاه إلى الشمال والشمال الشرقي، يتجه إلى الجنوب والجنوب الشرقي من الدر إلى كورسكو، ولكن بالنسبة للأهالي فإن الضفة اليمنى هي شرق واليسرى هي غرب، بغض النظر عن حقيقة التوجه بالنسبة إلى الجهات الأصلية.
وفي أثناء سيرنا كان الريس محمد جالسا في مؤخرة القارب يدندن بأغان نوبية، ورياض يقود القارب ويتطلع من حين إلى آخر إلى كروكي رسمناه للمنطقة موضح عليه معلومات ملاحية نقلا عن سكان المالكي والسنجاري: علي أي بر نسير في منطقة كذا، وأين تكثر الدوامات والتيارات القوية والعقبات ... إلخ؛ لهذا كثر انتقالنا من الضفة الشرقية إلى الغربية وبالعكس، وفي الحادية عشرة والنصف نزلنا البر الشرقي «الأيمن» لنغير خزانات الوقود، وصادفنا سيدة قالت لنا إننا على الحدود بين أبو حنضل والديوان، ونبهتنا إلى أن النيل على هذا البر خطر وتياره شديد جارف، وحين عبورنا النهر - كما أشارت السيدة - وجدنا فعلا أن المياه الملساء ثقيلة على المحركات، وبعد أن ابتعدنا أخذ القارب يسرع على الماء الذي تظهر على صفحته بعض الحركة والموجات الخفيفة.
منطقة الديوان على البر الشرقي منبسطة في امتداد طويل، لا يفصل بين نجوعها العديدة فواصل طبيعية كالألسنة الجبلية التي تفصل النجوع في معظم بلاد الكنوز والعليقات، والحافة الهضبية في الديوان تظهر بعيدة في الأفق، والسهل الفيضي تغطيه خضرة المزروعات والأشجار الكثيرة، أما البر الغربي فإنه كان قليل السكن، بالرغم من وجود سهل كبير الامتداد، لكنه متأثر بتراكم الرمال، وبعد الظهر بقليل أرسينا على البر الغربي، وتناولنا غداء سريعا مما لدينا من أغذية محفوظة، بالإضافة إلى شمامة أهداها لنا أحد الأشخاص في المالكي، واستأنفنا السير قبيل الواحدة. البر الغربي مقفر موحش في منطقة معبد «عمدا»، بينما البر الشرقي حي بالخضرة والنخيل في زمام النجوع التابعة لعمديتي الديوان والدر اللتين لا يكاد يفصلهما فاصل. وفي نحو الثانية انتقلنا إلى البر الشرقي، وبعد أقل من نصف ساعة رسونا في ميناء الدر، نقول ميناء؛ لأنه أول مرسى نراه مبنيا في صورة رصيف من الحجارة، وخلفه كانت هناك مبان حكومية الشكل، ذلك أن الدر لفترة كانت مركز بلاد النوبة، ربما لنحو خمسة قرون أيام حكم الكشاف والدولة المصرية، منذ محمد علي إلى أوائل القرن الحالي، حين انتقل المركز إلى عنيبة التي تقع جنوب الدر بنحو 35 كيلومترا، ولكن كان ما زال في الدر نقطة للشرطة.
Halaman tidak diketahui