Perjalanan Masa Nubia
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genre-genre
كذلك كنا نتذكر أن قرشة تقع على منحنى نهري، يراه القادم من الشمال امتدادا طويلا يسد على الناظر بقية مجرى النهر، لذلك أخطأنا حين تركنا مرواو وظهرت ماريا أمامنا على انحناءة للنيل تشابه كثيرا حنية قرشة، وقد ساعدنا على الخطأ أننا لم نكن قدرنا بعد سرعة قاربنا «لندا»، فمعروف أن سرعتها وقت الخزان 12 كيلومترا/ساعة، فكم تنخفض السرعة في الصيف ضد التيار؟ لقد افترضنا أنها ستكون بين 8 أو 9كم/ساعة، والمسافة بين محطة كلابشة وقرشة هي 40كم، ولما كان قد مضى على ركوبنا النيل من كلابشة ست ساعات، ينقص منها حوالي ساعتين للغداء في مرواو والتوقف عند عوامة مصلحة الآثار عند معبد دندور للتزود بماء شرب نظيف مبرد، فمعنى ذلك أننا وصلنا إلى انحناء النيل عند قرشة، وأخذنا نجوب المنظر بأعيننا بحثا عن جامع قرشة فلم نجده، ومع ذلك فقد توقفنا وصعد رياض وأسعد إلى البر للسؤال عن اسم المكان فعرفا - بعد مسيرة نحو نصف ساعة ذهابا وجيئة - أننا ما زلنا في ماريا.
عاودنا التحرك جنوبا لنحو الساعة إلى أن انتهت نجوع ماريا وظهرت ثنية قرشة على البعد، وفيما بين ماريا وقرشة منطقة صخرية وعرة لا تترك سوى مكان ضيق لمرور الراجلين بينها وبين ضفة النهر، وبعد قرابة ثلث ساعة أخذت الحافة الصخرية في التباعد بسرعة عن النهر تاركة سهلا يزداد اتساعا ترعى فيه قطعان من الإبل والأغنام بهدوء وصمت، وبعد عشر دقائق أخرى ظهر مسجد قرشة على البعد شامخا فوق الحائط الصخري.
وكانت الساعة قاربت السادسة حينما ربطنا القارب إلى الشاطئ في محطة نجع البوستة، وبعملية حسابية بسيطة أدركنا أن «لندا» تسير بسرعة متوسطة تتراوح بين خمسة وستة كيلومترات في الساعة ضد التيار، وهي ضئيلة لكننا روحنا عن أنفسنا أن هذه، وإن كانت سرعة إنسان أو دابة على الأرض، إلا أنها سوف تعطينا فرصة عظيمة للمشاهدة والتقصي والتصوير.
الفصل السابع
قرشة
نزلنا إلى البر وعلى بضعة أمتار رأينا رجلا ينحني إلى الأرض وفوق رأسه قبعة عريضة، وحين تبينا وجهه كان عمره لا يقل عن ثمانين عاما، كان يجمع حشائش خضراء في «قفة» إلى جواره، سألناه عن مكتب بريد قرشة، فأشار إلينا بيد معرورقة إلى مكان إلى أعلى، وسألناه ماذا يفعل فقال إنه الدكتور؛ أي الدكتور الذي يعالج بالأعشاب، وسألناه عن عدد من الأشخاص كنا نعرف أن أبناءهم يعملون في القاهرة، فأجاب: إنهم في نجع بعيد عن نجع البوستة الذي نحن فيه.
سرنا في سهل متسع نبتت فيه الأعشاب فأكسبته خضرة يانعة، وعلى البعد ارتفعت كتل مفردة من الصخر هنا وهناك كمقدمات للحافة الصخرية العالية التي ترتفع عن السهل قرابة 30 إلى 40 مترا، وتنتشر فوقها البيوت البيضاء في صورة أعادت إلى الذاكرة مناظر في جزر اليونان، وعبرنا جسرا صغيرا فوق مجرى مائي تكون نتيجة نشع المياه، فأصبح بحيرة طويلة تنعكس على صفحة مائها الرائق السماء شديدة الزرقة مختلطة مع الحافة الصخرية البنية اللون، ونبات الذرة يتطاول على ما عداه من مزروعات وأعشاب أخرى، ومررنا وسط الذرة في طريق ملتو حتى وصلنا إلى الصخور، فدار بنا الدرب إلى أعلى وسط أكوام من الحجرة، فتذكرنا صورة قرشة في الشتاء حين تغطي مياه خزان أسوان كل هذا النابض بالحياة، ولا تترك سوى الحجر القاسي والبيوت البيضاء.
ظللنا نرتقي الدرب الصاعد بين بيوت مهدمة مهجورة ولا نجد أحدا يرشدنا إلى مكتب البريد، وهذه البيوت المهجورة هي بيوت قرشة قبل تعلية خزان أسوان عام 1933، وارتقينا أخيرا حافة الهضبة علنا نكتشف مكان المكتب، لكننا لم نوفق، فنادينا بأعلى صوت: أستاذ صالحين، يا أستاذ صالحين. وبعد فترة رد علينا صوت من بعيد، وتلفتنا إليه ووجدناه على البعد يقول إن الأستاذ صالحين في أحد البيوت خلفنا، ودخلنا بيتا حسبما أشار وأخذنا نصفق لكن أحدا لم يرد، وكان الشخص الذي كلمنا لا يزال يرقبنا، فصاح بنا أن هذا بيت مهجور، وعلينا أن نخترق هذه الساحة إلى الساحة التالية، ثم نهبط قليلا حيث نجد بيتا أبيض اللون هو بيت صالحين، وحينما فعلنا لم يكن أحد جالسا أمام البيت المغلق، نادينا وطرقنا الباب ولا من مجيب من داخل هذا البيت أو البيوت المجاورة، وفي اللحظة التي يئسنا فيها واستدرنا للعودة، سمعنا صوتا ضعيفا من الداخل يسأل من الطارق، وبعد فترة فتح الباب: نحن ضيوف من القاهرة، أين نجد الأستاذ صالحين؟ - أنا هو، ماذا يمكن أن أؤديه لكم من خدمة؟ - نحن معارف الأستاذ عبد المطلب مفتش البريد في أسوان، وقد جئنا بتوصية منه، نحن أساتذة في جامعة عين شمس، ونقوم بأبحاث جغرافية واجتماعية في النوبة، ومعنا قارب صغير، وكنا قد شحنا صفائح بنزين من أسوان إلى قرشة وغيرها من المحطات، فهل وصلت شحنة البنزين إليكم؟ - تفضلوا إلى المكتب، لا لم تصلني مثل هذه الصفائح، وهذه أول مرة أعرف أن البنزين سيصل إلي، فعلى أي ناقلة شحنتم الصفائح؟ - على الناقلة «بيومي»، وقد شاهدناها تعبر هويس السد أثناء تحركنا إلى دهميت، فلا بد أنها قد وصلت قبلنا؛ لأننا بتنا ليلتين في دهميت وكلابشة، ثم ألم يتصل بك المفتش عبد المطلب من أسوان؟ - لا لم يتصل، ولكن زميلي وكيل بريد سيالة كان قد طلبني ولم أكن موجودا، كما أن إحدى الناقلات قد مرت أمس صباحا أمام قرشة ولم تتوقف، فلعلها أنزلت شحنتها خطأ في سيالة بدلا من قرشة! - نعم إن الناقلة سوف تنزل صفائح أخرى في سيالة والمالكي ... إلخ. - سأتصل الآن بسيالة لأعرف الخبر.
ورفع صالحين السماعة وطلب سيالة ودار حديث طويل لم نفهم منه شيئا، ثم قال لنا: إن المفتش كان قد اتصل بي ولم أكن موجودا، واتصل بسيالة وطلب منه أن يتصل بي ليخبرني عن حضوركم وحضور البنزين، ووكيل سيالة يقول إن الناقلة «بيومي» لم تصله بعد، أهلا وسهلا في قرشة، أين القارب؟ ودعانا للدخول في بيته مؤكدا سعادته بوجودنا.
وسواء كان البنزين قد وصل أو لم يصل، فقد كان في نيتنا أن نقضي بضعة أيام للدراسة والمشاهدة في قرشة باعتبارها عمدية مهمة من بلاد الكنوز، وكذلك كنا نعرف عددا من العاملين في معهد الدراسات الأفريقية - السودانية سابقا - من أهل قرشة، وبذلك كانت هذه بمثابة توصية للتعارف والبحث والتقصي؛ لهذا رحبنا شاكرين بدعوة الأستاذ صالحين للإقامة.
Halaman tidak diketahui