Rights of Orphans as Stated in Surah An-Nisa
حقوق اليتامى كما جاءت في سورة النساء
Penerbit
دار العاصمة للنشر والتوزيع
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
Lokasi Penerbit
الرياض - المملكة العربية السعودية
Genre-genre
السلسلة القرآنية فِي تَفْسِير كتاب الله ﷿ وَبَيَان مَا فِيهِ من الْفَوَائِد وَالْأَحْكَام والدروس التربوية (٧)
حُقُوق الْيَتَامَى كَمَا جَاءَت فِي سُورَة النِّسَاء
إعداد
أ. د. سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله اللاحم
الْأُسْتَاذ بقسم الْقُرْآن وعلومه
بجامعة الإِمَام مُحَمَّد بن سعود الإسلامية - القصيم
دَار العاصمة للنشر والتوزيع
Halaman tidak diketahui
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن هذه السورة العظيمة سورة النساء قد عالجت كثيرًا من القضايا الاجتماعية الهامة، كقضايا المرأة والأسرة وقضايا المجتمع والدولة، والسلم والحرب، وعالجت أحوال الجاهليين وما كان فيها من جور وظلم واستبداد وعدول عن الحق والعدل، في أمور كثيرة، وأحوال متعددة، من أهمها ما كانت الجاهلية تعامل به اليتامى والنساء وبخاصة اليتيمات منهن، وقد أولت هذه السورة الكريمة هذا الجانب وهو حقوق، اليتامى اهتمامًا عظيمًا، بل إن أول وصية في السورة بعد الأمر العام بتقوى الله وتقوى الأرحام هي الوصية باليتامى والعناية بهم وحفظ أموالهم، والعدل مع اليتامى، وتوريثهم، وكشف عوار الجاهلية وتعسفها فيما تعامل به اليتامى من ظلم، يتمثل ذلك في أكل أموالهم بغير حق، بل بأكلها إسرافًا ومبادرة خوف كبرهم، ومن منع اليتيمات من الزواج لأجل أكل أموالهن، أو يزوجن من الأوصياء أو الأولياء أو من أقاربهم، ممن لا يعدلون معهن في المهور والنفقات، بل ولا في نصيبهن من الأزواج لأن زواجهم بهن ليس لرغبة فيهن وإنما رغبة في ما لهن كيلا يذهب هذا المال بعيدًا في الغرباء.
كما يتمثل هذا الظلم بالجور على الصغار والضعفاء والنساء، فلا يسلم لهم نصيبهم الحقيقي من الميراث، وإنما يستبد بالميراث أو بمعظمه الرجال الأقوياء الذين يحملون السلاح ويكسبون ويكتسبون، ولا ينال منه الضعفاء شيئًا، وإن أعطوا منه شيئًا فقليل لا يذكر، موكول إلى ضمائر قساة القلوب من الرجال الأقوياء. فيا سبحان الله كيف يحرم من هذا الميراث من هم في أشد الحاجة إليه، وهم الضعفاء ويخص به الرجال الأقوياء، إنها النظرات الجاهلية وسفاهات العقول الضالة، والتي لم تهتد بوحي السماء، وإن ذا العقل السليم المتجرد عن العصبية والهوى يلحظ
1 / 3
ولأول وهلة هذا التخبط وصدق الله العظيم ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأكثرهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (١).
ولقد ظل بعض الناس حتى بعد نزول هذه الآيات في توريث عموم الرجال والنساء يترقب ويتحرى أو يتمنى نسخ ميراث الصبيان والنساء، لتأصل هذه النظرة الجأهلية في نفوسهم.
ولقد أنزل الله ﷿ في مطلع هذه السورة وفي ثناياها عدة آيات فيها تشريعات عملية في وجوب حفظ أموال اليتامى وإيتائهم إياها بمد بلوغهم ورشدهم، والعدل مع اليتيمات، وبين النساء عمومًا، وتوريثهن مع الرجال والتوكيد على حقوق اليتامى، والوعيد الشديد لمن يعتدي على حقوقهم وأموالهم.
وسأتناول في هذا البحث الكلام عن هذه الحقوق من خلال الكلام على الآيات الواردة في هذا الموضوع في سورة النساء، وبيان ما فيها من الفوائد والأحكام والدروس التربوية. سائلًا الله ﷿ أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ... المؤلف
_________
(١) سورة المائدة، آية: ١٠٣.
1 / 4
وجوب حفظ أموال اليتامى وإيتائهم إياها
قوله تعالى: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أموالهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأكلوا أموالهُمْ إلى أموالكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ (١).
صلة الآية بما قبلها:
قوله تعالى: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أموالهُمْ﴾ (٢) وما بعده إلى نهاية السورة تفصيل وبيان لما أجمل في الآية السابقة من الأمر بتقوى الله، وتقوى الأرحام، وقد بدأ ﷿ أول وصية بعد هذين الإجمالين بالأمر بإيتاء اليتامى أموالهم مما يدل على وجوب حفظ أموال اليتامى والعناية بهم ورعايتهم نظرًا لشدة حاجتهم إلى العناية والرعاية، حيث فقدوا آباءهم الذين يقومون برعايتهم (٣).
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أموالهُمْ﴾.
وآتوا: الخطاب عام لكل من عنده مال لليتامى، سواء كان وصيًّا (٤) عليهم أو وليًّا (٥)، أو ممن يتولى قسمة الميراث، أو ممن أخذ أموالهم بغيرحق.
(وآتوا) فعل أمر ينصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، الأول في هذا الموضع «اليتامى» والثاني «أموالهم».
ومعنى «آتوا» أعطوا.
_________
(١) سورة النساء، آية: ٢.
(٢) سورة النساء، آية: ٢.
(٣) روي عن سعيد بن جبير في سبب نزول قوله ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أموالهُمْ﴾ أن رجلًا من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما كبر طلب ماله فأبي أن يعطيه إياه، فنزلت هذه الآية. أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» ١/ ٨٥٤، الأثر ٤٧٢٨.
(٤) الوصي هو الذي يعهد إليه بالتصرف بعد الموت. وانظر «لسان العرب» مادة «وصي».
(٥) الولي هو الذي يتولى مال غيره بغير إذن منه، بل بإذن من الشرع بأن يوليه القاضي ونحو ذلك. وانظر «لسان العرب» مادة «ولي».
1 / 5
و«اليتامى»: جمه يتيم ويتيمة، والأيتام جمع يتيم (١) واليتيمات جمع يتيمة، وهو مأخوذ من اليُتم وهو الانفراد، فاليتيم: الفرد، ومنه سميت «الدرة اليتيمة» (٢).
واليتيم في اصطلاح الشرع: من مات أبوه (٣) وهو صغير، دون البلوغ (٤)
ذكرًا كان أو أنثى، فإذا بلغ زال عنه اليتم واستقل بنفسه، لقوله ﷺ: «لا يتم بعد احتلام» (٥).
قوله: (أموالهم): أموال: جمع مال، وهو كل ما يتمول من نقد أو عين من أثاث
_________
(١) انظر «مدارك التنزيل» ١/ ٢٨٩.
(٢) انظر «أحكام القرآن للجصاص» ١/ ٣٣٠، «الكشاف» ١/ ٢٤٢، «أحكام القرآن» لابن العربي ١/ ٣٠٨، «المحرر الوجيز» ٤/ ١١، «التفسير الكبير» ٩/ ١٣٦.
والدرة اليتيمة: في النحو نظم لابن نبهان سعيد بن سعد الحضرمي، طبع مع كتاب الآجرومية في المطبعة الميمنية سنة ١٣٣٣ هـ، وهناك الدرة اليتيمة في التجويد طبع في الآستانة سنة ١٢٥٢ هـ لزين الدين محمد بن بير علي محيي الدين المشهور باسم بيركلي أو بركلي أو بركوي (٩٢٩ - ٩٨١) م انظر «العقد المنظوم في ذكر أفاضل الروم» ٢/ ٤٣٠. وهناك الدرة في الأمثال القديمة لإبراهيم بن خطار سركيس اللبناني طبع في بيروت سنة ١٨٧١ في ١٧٣ صفحة، وهناك الدرة اليتيمة في طاعى الملوك لابن المقفع م ١٤٣ هـ طبع عدة طبعات منها طبعة القاهرة بتحقيق شكيب أرسلان وطبعة بيروت سنة ١٨٩٧ م وغيرهما.
(٣) والعجي من ماتت أمه، واللطيم من مات أبوه وأمه قبل بلوغه. واليتيم في البهيمة من ماتت أمه وهو صغير. انظر «المفردات» مادة «يتم»، «المحرر الوجيز» ٤/ ١١، «لسان العرب» مادة «يتم».
(٤) انظر «أحكام القرآن» للجصاص ١/ ٣٣٠، «معالم التنزيل» ١/ ٣٩٠، «أحكام القرآن» لابن العربي ١/ ٣٠٨، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ٨.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتأوى» ١٤/ ١٠٨ - ١١٠: «اليتيم في الآدميين من فقد أباه، لأن أباه هو الذي يهذبه ويرزقه وينصره بموجب الطبع المخلوق، ولهذا كان تابعًا في الدين لوالده، وكانت نفقته عليه، وحضانته عليه، والإنفاق هو الرزق، والحضانة هي النصر، لأنها الإيواء ودفع الأذى، فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه، لأن الإنسان ظلوم جهول، والمظلوم عاجز ضعيف، فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضي ومن جهة ضعف المانع، ولهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة ...»
(٥) أخرجه أبو دأود في الوصايا الحديث ٢٨٧٣ من حديث علي بن أبي طالب ﵁ عن النبي ﷺ قال: «لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل» وصححه الألباني وله شاهد من حديث جابر وأنس ﵄. والصمات: السكوت.
1 / 6
وغيره، وضمير الهاء عائد على اليتامى.
والمعنى أعطوا التيامى أموالهم التي هي ملك لهم، مما عُهد إليكم بحفظه، أو مما توليتم حفظه أو مما يستحقونه من الميراث، أو مما أخذتموه منها بغير حق.
وإذا كان الخطاب للأولياء على اليتامى فالمراد بإيتاء اليتامى أموالهم في هذا الموضع حفظها لهم، لكي تؤدى إليهم كاملة إذا بلغوا ورشدوا (١).
أي: احفظوها لهم لكي تؤدوها إليهم كاملة بعد بلوغهم ورشدهم من غير أكل شيء منها أو كتمانه أو تعريضها للفساد أو الضياع، قال تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أموالهُمْ﴾ (٢).
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.
قوله: (ولا تتبدلوا): التبدل والاستبدال: أخذ شيء مكان شيء آخر غيره (٣).
قوله: (الخبيث بالطيب): الخبث والطيب: وصفان يطلق كل منهما على ما يتصف به من الأشخاص والأقوال والأعمال والأعيان كالأموال وغيرها (٤). قال تعالى: ﴿قُلْ لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ (٥) أي لا يستوي الخبيث والطيب من كل شيء، وقال تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾، إلى قوله: ﴿وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ (٦)، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ (٧)، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ (٨)، وقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
_________
(١) انظر «جامع البيان» ٧/ ٥٢٤، «الكشاف» ١/ ٢٤٢، «أحكام القرآن» لابن العربي ١/ ٣٠٨، «المحرر الوجيز» ٤/ ١١، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ٨، «فتح القدير» ١/ ٤١٩.
(٢) سورة النساء، آية: ٦.
(٣) انظر «جامع البيان» ٧/ ٥٢٧.
(٤) انظر ما نقله الخطابي عن ابن الأعرابي «سنن أبي دأود مع معالم السنن» ١/ ١٦.
(٥) سورة المائدة، آية: ١٠٠.
(٦) سورة النور، آية: ٢٦.
(٧) سورة البقرة، آية: ٢٦٧.
(٨) سورة إبراهيم، آية: ٢٤.
1 / 7
كَشَجَرَةٍ﴾ (١)، وقال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ (٢)، وقال تعالى: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ (٣).
والمراد بالخبيث والطيب في الآية: الحرام والحلال، أو الرديء والجيد.
أي لا تتبدلوا الخبيث، أي: المحرم عليكم وهو مال اليتامى، بالطيب أي بالحلال الذي أحله الله لكم من أموالكم (٤)، أي كلوا من مالكم الذي أحله الله لكم ودعوا مال اليتامى المحرم عليكم، أو لا تتبدلوا الخبيث أي: الرديء من أموالكم بالطيب أي بالجيد من أموال اليتامى (٥)، فتأخذوا مالهم الطيب وتعطونهم بدله رديئًا.
وكلا القولين صحيح تحتمله الآية (٦)، والأول منهما أعم وأشمل فهو ينتظم القول الثاني لأن استبدال مال اليتيم بغيره منهي عنه، سواء رد بدله جيدًا أو رديئًا أو لم يرد بدله شيئًا.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأكلوا أموالهُمْ إلى أموالكُمْ﴾.
قوله: ﴿وَلَا تَأكلوا أموالهُمْ﴾: خص النهي في الآية بالنهي عن أكل أموالهم لأن الهدف من جمع المال غالبًا هو الأكل، وهو أوفي أنواع التمتع بالمال (٧) لأنه كسوة الباطن، فلو خلا البطن من الأكل مات الإنسان.
لكن غيره من وجوه الانتفاع بأموال اليتامى والتصرف بها لمصلحة الولي مثله في النهي، فلا يجوز للولي مثلًا: أن يشتري له بمال اليتيم سيارة أو عقارًا أو غير ذلك.
_________
(١) سورة إبراهيم، آية: ٢٦.
(٢) سورة الأعراف، آية: ٥٨.
(٣) سورة سبأ، آية: ١٥.
(٤) انظر «جامع البيان» ٧/ ٥٢٥، «المحرر الوجيز» ٤/ ١١.
(٥) انظر «جامع البيان» ٧/ ٥٢٥، ٥٢٦، «تفسير ابن أبي حاتم» ١/ ٨٥٥، ٨٥٦، «أحكام القرآن» «لابن العربي» ١/ ٣٠٨، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ٩.
(٦) انظر «جامع البيان» ٧/ ٥٢٦.
(٧) انظر «أحكام القرآن» للكيا الهراسي ١/ ٣٢٥، «البحر المحيط» ٣/ ١٧٢.
1 / 8
قوله: (إلى أموالكم): «إلى» على بابها والفعل «تأكلوا» مضمن معنى «الضم»، أي: لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم.
وقيل «إلى» بمعنى «مع». أي: لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم (١) والأول أولى (٢) لأن تضمين فعل معنى فعل آخر أكثر ورودًا في القرآن الكريم من تضمين «إلى» معنى «مع» بل أولى من تضمين حرف معنى حرف آخرمطلقًا (٣)،
وحمل الآية على المعنى الكثير في القرآن أولى من حملها على المعنى القليل، لأنها إذا كانت هي الكثير في القرآن صارت هي اصطلاح القرآن وهو قول جمهور النحويين واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (٤).
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ أي عند الله، وفي حكمه كما قال تعالى: ﴿فَأولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (٥) والجملة تعليل للنهي في الجملتين
_________
(١) انظر «النكت والعيون» ١/ ٣٩، «أحكام القرآن» لابن العربي ١/ ٣٠٨، «البحر المحيط» ٣/ ١٦٠.
(٢) انظر «الوجيز» ١/ ٢٥١، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٢، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٠، «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٨٠، «فتح القدير» ١/ ٤١٩.
(٣) اختلف أهل العلم في الفعل إذا تعدى إلى ما لا يتعدى به، فذهب جمهور النحويين من البصريين وغيرهم إلى أن الفعل يضمن معنى يناسب الحرف الذي يتعدى به، كقوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ سورة الإنسان الآية: ٦ فضمن الفعل «يشرب» معنى «يروى» ولهذا عدي بالباء ولم يقل «يشرب منها» وكقوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ سورة المعارج الآية: (١) ضمن الفعل «سأل» معنى «أجيب» أي: سأل سائل فأجيب بعذاب واقع، ولهذا عي بالباء ولم يقل «عن عذاب واقع»: وقد ذهب الكوفيون إلى أن الحرف يفسر بمعنى الحرف المناسب، فيقال: «عينا يشرب بها» أي: منها، و(سأل سائل بعذاب واقع) أي: عن عذاب واقع. انظر «مجموعة الفتأوى» ٢٠/ ٤٧٤، ٢١/ ١٢٤، وانظر «جامع البيان» ١٢/ ٣٥٨ طبعة الحلبي، «مغني اللبيب» ١/ ١٧٨، «ضياء السالك» ٢/ ٢٥٩ ..
(٤) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر يتعدى بتعديته كقوله: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ﴾ وقوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا﴾ وقوله: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ وأمثال ذلك كثير في القرآن، وهو يغني عند البصريين من النحاة عما يتكلفه الكوفيون من دعوى الاشتراك في الحروف «مجموع الفتأوى» ٢١/ ١٢٣ - ١٢٤.
(٥) سورة النور، آية: ١٣.
1 / 9
السابقتين. فالضمير «إنه» يعود على مصدر الفعلين السابقين وهما تبديل الطيب من أموال اليتامى بالخبيث من أموال المخاطبين، وأكل أموال اليتامى مضمومة إلى أموال المخاطبين (١).
«وكان» مسلوبة الزمن تفيد تحقيق الوصف (٢).
(حوبًا) أي: ذنبًا وإثمًا (٣).
وروي في الحديث: «اغفر لنا حوبنا وخطايانا» (٤).
وفيه «رب تقبل توبتي واغسل حوبتي» (٥) أي ذنبي.
_________
(١) انظر «البحر المحيط» ٣/ ١٦١.
(٢) راجع ص ٥٩ - ٦٠ في الكلام عن الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ الآية الأولى من هذه السورة.
(٣) راجع «جامع البيان» ٧/ ٥٢٩ - ٥٣٠، «المفردات في غريب القرآن» مادة «حوب»، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٢، «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٨٠ - ١٨١ ويطلق الحوب على زجر الإبل وعلى المسكنة وعلى الحاجة ومنه: «إليك أرفع حوبتي» أي: حاجتي. ويطلق الحوب على الوحشة. وفي الأثر «إن طلاق أم أيوب لحوب» انظر «التفسير الكبير» ٩/ ١٣٩، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٠، «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٨١، «البحر المحيط» ٣/ ١٥٠، «فتح القدير» ١/ ٤١٩، وانظر مادة «حوب» في «المفردات»، «لسان العرب».
(٤) أخرجه أبو دأود في الطب ٣٨٩٢ من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول ﷺ يقول: «من اشتكى منكم شيئًا، أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايأنا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع. فيبرأ» وضعفه الألباني، وقد أخرجه الإمام أحمد في المسند ٦/ ٢١ من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري قال: «علمني النبي ﷺ رقية، وأمرني أن أرقي بها من بدالي قال قل: ربنا الله الذي في السموات تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، اللهم كما أمرك في السماء فاجعل رحمتك علينا في الأرض، اللهم رب الطيبين اغفر لنا حوبنا وذنوبنا وخطايأنا ونزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على ما بفلان من شكوى. فيبرأ. قال: وقيل ذلك ثلاثًا ثم تعوذ بالمعوذتين ثلاث مرات».
(٥) أخرجه أبو دأود في الصلاة ١٥١٠، والترمذي في الدعوات ٣٥٥١، وقال: «حديث حسن صحيح»، وابن ماجه في الدعاء ٣٨٣٠، عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ يدعو: «رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مطواعًا، إليك مخبتًا أو منيبًا، رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة قلبي» وصححه الألباني.
1 / 10
كبيرًا: أي: إثمًا كبيرًا؛ وذنبا عظيمًا (١) من كبائر الذنوب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكلونَ أموال الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّما يَأكلونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (٢).
الفوائد والأحكام:
١ - رحمة الله تعالى باليتامى ورأفته بهم، حيث أوصى بالعناية بهم وبأموالهم بل جعل ﷾ الوصية بهم أول وصية أوصى بها من حقوق الخلق في هذه السورة (٣)، بعد أن أجمل ﷾ الأمر بتقواه، وتقوى الأرحام.
وذلك لأن اليتيم فقدكافله وكاسبه، فهو مكسور الخاطرمهيض الجناح.
(٢) - وجوب إصلاح أموال اليتامى والحفاظ عليها، لأن ذلك من تمام إيتائهم أموالهم (٤) الذي أمر الله به في قوله: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أموالهُمْ﴾ وقدم الله في هذه الآية الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم قبل الأمر باختبارهم وتحقق بلوغهم ورشدهم، تأكيدًا على وجوب إصلاحها وحفظها والاحتياط في ذلك.
كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (٥).
(٣) - ثبوت الولاية على اليتيم، لأن من لازم إيتائه ماله ثبوت ولاية المؤتي عليه (٦).
(٤) - أن اليتيم يملك وملكه تام ثابت، لأن الله أضاف الأموال إلى اليتامى في قوله:
_________
(١) انظر «معاني القرآن» للفراء ١/ ٢٥٣، «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٨١.
(٢) سورة النساء، آية: ١٠.
(٣) انظر «تيسير الكريم الرحمن» ٢/ ٧.
(٤) انظر المصدر السابق ٢/ ٨.
(٥) سورة الإسراء، آية: ٣٤.
(٦) انظر المصدر السابق ٢/ ٧.
1 / 11
﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أموالهُمْ﴾.
وفي هذا دليل على وجوب النفقات التي تتعلق بعين المال في أموال اليتامى كالزكاة والنفقة على من تجب على اليتيم النفقة عليه من أقاربه الفقراء.
خلافًا لمن قال بعدم وجوب ذلك في أموال اليتامى والمجانين لأنهم ي مكلفين.
(٥) - جواز إطلاق الخبيث على الرديء على أحد المعنيين في تفسير الآية ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ (١) أي: لا تقصدوا الرديء منه تنفقون.
٦ - أنه يحرم على الأولياء أن يستبدلوا أموال اليتامى بأموالهم، سواء كان ذلك بأخذ أموال اليتامى دون مقابل والاستغناء بها وتوفير أموالهم، أو بإعطاء اليتامى الرديء وأخذ الجيد من أموالهم أو العكس بإعطائهم الجيد وأخذ الرديء، ومع أن هذا قد يبعد إلا أنه أيضًا لا يجوز لأن مال اليتيم في يد الوصي أو الولي بحكم الأمانة يجب عدم التعرض له وتركه بحاله لقوله: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.
(٧) - تحريم أكل أموال اليتامى وضمها إلى أموال الأوصياء والأولياء بقصد أكلها، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأكلوا أموالهُمْ إلى أموالكُمْ﴾.
وليس في الاية نهي عن الضم (٢) إذا كان لقصد الإصلاح، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (٣).
فدلت هذه الآية على جواز خلط مال اليتيم مع مال الولي إذا كان ذلك لقصد
_________
(١) سورة البقرة، أية: ٢٦٧.
(٢) كما قيل: إن الآية تنهي عن ضم أموال اليتامى إلى أموال الأوصياء والأولياء وأنها نسخت بقوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ سورة البقرة الآية (٢٢٠)، وهذا ليس بصحيح، انظر «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٠.
(٣) سورة البقرة، آية: ٢٢٠.
1 / 12
الإصلاح كالاتجار به أو المحافظة عليه ونحو ذلك. بل إن الضم قد يتعين جلبًا لمصلحة مال اليتيم ودفعًا للمشقة عن الولي في عزل مال اليتيم عن ماله، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ أي لشق عليكم فمنعكم من مخالطتهم. لكن ينبغي على الولي إذا ضم مال اليتيم إلى ماله أن يحتاط بكتابة ذلك والإشهاد عليه (١).
٨ - الإشارة إلى ان بعض الأولياء قد يتستر إذا أراد أن يأكل مال يتيمه بضم مال اليتيم إليه، ويأكله مع غناه عنه، لقوله: ﴿إِلَى أموالكُمْ﴾. وفي ذلك تنبيه على قبح هذا الفعل وشناعته (٢).
٩ - إن التعدي عل أموال اليتامى باستبدالها بالخبيث أو أكلها أو ضمها إلى أموال الأولياء بقصد أكلها من كبائر الذنوب، لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ (٣).
بل ذهب بعض أهل العلم أي ان أكل مال اليتيم بغير حق اكبر الكبائر بعد الشرك بالله.
****
_________
(١) انظر كلام الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذه الآية في دروس التفسير.
(٢) انظر «التفسير الكبير» ٩/ ١٣٨.
(٣) انظر «العلل» للإمام أحمد ص ١٦٩، «مرويات الإمام أحمد في التفسير» ١/ ٣٣٢.
1 / 13
إباحة تعدد الزوجات ووجوب العدل بين النساء
قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾.
صله الآية بما قبلها:
لما امر تعالى بحفظ أموال اليتامى والعناية بها أتبع ذلك بذكر وجوب الإقساط في اليتيمات والعدل بين النساء، فالآية الأولى في أموال اليتامى، والثانية في أبضاع اليتيمات وغيرهن من النساء.
سبب النزول:
عن عروه بن الزبير ﵄ قال: سألت عائشة- ﵂ عن قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾.
فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحهوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروه قالت عائشة: وأن الناس استفتوا رسول الله صلى الله علية وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ (١).
وفي رواية عن عروة عن عائشة ﵂: «أن رجلًا كانت له يتيمه فنكحها، وكان لها عذق وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شئ فنزلت فيه ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ (٢).
_________
(١) أخرجه البخاري في التفسير٤٥٧٤، ومسلم في الفسير٣٠١٨ وأبو دأود في النكاح٢٠٦٨، والنسائى في النكاح٣٣٤٦، والدارقطني في سننه٣/ ٢٦٥، والطبري الآثار٨٤٥٦ - ٨٤٦١ والواحدي في أسباب النزول ص١٢٣.
(٢) أخرجه البخاري في «التفسير» ٤٥٧٣.
1 / 14
معاني المفردات والجمل:
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾.
قوله ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الوأو للاستئناف.
و«إن» شرطية.
«خفتم» فعل الشرط، وجوابه (فانكحوا).
والخوف هنا على بابه (١)، أي: أن غلب الظن ألا تقسطوا.
وقيل «خفتم» بمعنى علمتم، وأيقنتم (٢)، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا﴾ (٣) أي: من علم من موصٍ حنفًا.
والصحيح أن الخوف هنا على معناه (٤) فمتى وجد الخوف من عدم الإقساط مع اليتامى وجب العدول عنهن وترك نكاحهن إلى غيرهن، وإن لم يكن عدم الإقساط أمرًا معلومًا متيقنًا، لأن هذا في الغالب لا تتم معرفته إلا بعد الزواج بهن، أي: بعد العقد والدخول.
قوله: ألا تقسطوا. أي ألا تعدلوا، من «أقسط» الرباعي. بمعنى «عدل» (٥) ومنه قوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ (٦). واسم الفاعل منه «مقسط» ومنه قوله
_________
(١) قال الراغب الأصفةاني: «الخوف توقع مكروه عن أماره مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أماره مظنونة أو معلومة. ويضاد الخوف الأمن» «المفردات» مادة «خوف».
(٢) انظر «مجاز القرآن» ١/ ١١٤.
(٣) سورة البقرة، آية: ١٨٢.
(٤) انظر «أحكام القرآن» لابن العربي١/ ٣١٠، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٣، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٢.
(٥) انظر «معاني القرآن» للأخفش١/ ٤٣١، «جامع البيان» ٧/ ٥٤١، «المفردات» مادة «قسط»، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٣، «التفسير الكبير» ٩/ ١٣٩، الجامع لحكام القرآن» ٥/ ١٢.
(٦) سورة النساء، آية: ١٣٥.
1 / 15
تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (١) وقوله ﷺ: «المقسطون على منابر من نور» (٢).
وأما الفعل الثلاثي «قسط» فمعناه: جار وظلم (٣)، واسم الفاعل منه «قاسط» (٤) ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ (٥).
و«اليتامى» جمع يتيم ويتيمه.
والمراد باليتامى هنا اليتامى من النساء (٦)، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ﴾ (٧).
أي: إن خفتم ألا تعدلوا مع التيمات إذا تزوجتموهن بعدم إعطائهن مثل غيرهن من المهور والنفقات، أو بالإمساك لهن لأجل مالهن من غير حاجه بكم لهن، ومن غير بذل حقوق الزوجية لهن (٨)، أو بإجبارهن على الزواج منكموهن كارهات ونحو ذلك (٩).
قوله تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾.
الفاء واقعه في جواب الشرط، والجملة جواب الشرط المتقدم في قوله: ﴿وَإِنْ
_________
(١) سورة الحجرات، آية:٩.
(٢) أخرجه مسلم في الإماره١٨٢٧، والنسائي في أداء القضاء٥٣٧٩ من حديث عبد الله بن عمرو ﵄.
(٣) انظر «معاني القرآن» للأخفش٢/ ٤٣١، «جامع البيان» ٧/ ٥٤١، «المفردات» مادة «قسط»، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٣، «التفسير الكبير» ٩/ ١٣٩، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٢.
(٤) انظر «صحيح البخاري مع الفتح» ١٣/ ٥٣٧.
(٥) سورة الجن، آية:١٥.
(٦) حمل الطبري في تفسيره٧/ ٥٤١: «اليتامى» هنا على ما يشمل ذكران اليتامى وإناثهم - والله أعلم - لشمل ذلك الأقوال التي قيلت في معنى الآية كما سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية.
(٧) سورة النساء، آية:١٢٧.
(٨) كما دلت عليه روايتا سبب النزول.
(٩) كما كان تفعله أهل الجاهلية، واستر عليه يعض جهله الأعراب وجفاتهم يحجر الواحد منهم ابنة عمه في حياة عمه.
1 / 16
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، واقترن الجواب بالفاء لأنه جملة طلبية (١)، ولم يات الجواب بالنهي عن نكاح اليتيمات أو بالأمر بترك نكاحهن إذا خيف عدم الإقساط فيهن - وإنما جاء الأمر بنكاح ما طاب لهم من النساء إرشادًا لهم وتوجيهًا إلى البديل، وأن النساء غير اليتيمات كثير، وأن الأمر واسع ولم يضيق الله عليهم.
قال الحافظ ابن كثير (٢) ﵀: «أي إذا كانت تحت حجر أحدكم يتيمه، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه (٣)».
فالمعنى: فإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فاتركوهن وجوبًا، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن استحبابًا، أو جوازًا (٤).
قوله (انكحوا) النكاح معناه لغة الضم والجمع، لأنه بعقد النكاح يكون اجتماع الزوج والزوجة، واجتماع الأصهار بعضهم إلى بعض، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي
_________
(١) يقترن جواب الشرط بالفاء في عدة مواضع قال الناظم:
اسمية طلبية وبجامد ... وبما ولن وبقد وبالتنفيس
ذكره الخضري في حاشيته ٢/ ١٢٣، والصبان في حاشيته ٤/ ٩.
(٢) في «تفسيره» ٢/ ١٨١.
(٣) ومن هذا ومثله يعلم أن الشرع إذا منع من شيء وحرمه لسبب من الأسباب فإنه يبيح ويحل أضعاف أضعافه، ولهذا فإن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ سورة البقرة، آية: ٢٩.
أي: أباحه لكم، لأن اللام في قوله «لكم» للإباحة.
فإذا انغلق باب، فتح الله ألف باب وكما قيل:
وإذا رأيت الرزق ضاق ببلدة ... وخشيت فيها أن يضيق المذهب
فارحل فأرض الله واسعة الفضا ... طولًا وعرضًا شرقها والمغرب
وحاشا للشرع الحكيم، الذي وضع الله به عن هذه الأمة الآصار والأغلال أن يغلق الباب على المكلف، فيكون كما قال الحلاج في ديوانه ص ١٤٥:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
وصدق الله العظيم ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ سورة الحج الآية (٧٨).
(٤) سيأتي في الفوائد والأحكام زيادة بيان لهذا إن شاء الله.
1 / 17
خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾ (١).
ويطلق على الوطء، وعلى التزوج (٢)، وهو شرعًا: عقد الزوجية الصحيح.
قوله ﴿مَا طَابَ لَكُم﴾ «ما» موصولة، وإنما جاء التعبير بها وهي لغير العاقل أولغير العالم على الأصح (٣)، لأنه أريد بها الوصف لأن اختيار الرجل للمرأة لما قام بها من صفات طيبة، والصفات ليست من فصيلة العقلاء،: انكحوا الطيبات من النساء.
قال الزجاج (٤): «ما طاب» لم يقل «من طاب» والوجه في الآدميين أن يقال: «من» وفي الصفات لأسماء الأجناس أن يقال: «ما» فالمعنى فانكحوا الطيب الحلال .. لأنه ليس كل النساء طيبًا».
وقيل: إن «ما» ليست على معناها، وإنما هي بمعنى «من» التي للعالم، لأنهما يتعاقبان، كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أربع﴾ (٥) والذي يمشي على أربع ليس بعالم. وقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾ (٦) (٧).
فـ «ما» في قوله (وما بناها) (وما طحاها) بمعنى «من»، أي: والسماء ومن بناها
_________
(١) سورة الفرقان، آية:٥٤.
(٢) انظر «اللسان» مادة «نكح».
(٣) الأصح أن يقال «ما» لغير العاقل و«من» للعالم، كما قال ابن هشام، انظر «أوضح المسالك» ١/ ١٣٤ وانظر «ضياء السالك» ١/ ٤٢. واختار بعض النحاه هذا، لأن الله تعالى وصف نفسه بالعلم و«من» يستعمل في الدلاله عليه سبحانه في مثل قوله تعالى: ﴿ءأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ سورة الملك الآيتان (١٦، ١٧) وصفات الله توقيفيه. كما أن «ما» جاءت للدلالة عليه سبحانه في عدة مواضع، وذلك على سبيل التبادل مع «من» كما في قوله تعالى ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ سورة الليل، الآية (٣) أي والذي خلق الذكر والانثى. وانظر «دليل السالك» للفوزان ١/ ١٢٩.
(٤) في «معاني القرآن وإعرابه» ٢/ ٥٠٤، وانظر «الكاشف» ١/ ٢٤٤، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٥، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٢، «مدارك التنزيل» ١/ ٢٨٩.
(٥) سورة النور، آية:٤٥.
(٦) سورة الشمس، الآيتان: ٥ - ٦.
(٧) انظر «التفسير الكبير» ٩/ ١٤١، «فتح القدير» ١/ ٤٢٠.
1 / 18
والأرض ومن طحاها، وهو الله ﷾ العليم بكل شيء.
قالوا: وإنما قلنا بأن «ما» في قوله: (ما طاب) «بمعنى من».
«لقوله» بعد ذلك «من النساء» مبينًا لمبهم، والنساء من فصيله العقلاء (١).
وقال الفراء (٢): قوله (ماطاب) ولم يقل «من طاب»، وذلك لأنه ذهب إلى الفعل» وبنحو من هذا قال الطبري حيث قال (٣): معناه: انكحوا نكاحًا طيبًا .. فالمعنيُّ بقوله (ما طاب) الفعل دون أعيان النساء وأشخاصهن، فلذلك قيل «ما» ولم يقل «من». والصحيح القول الأول «ما» هنا على معناها لغير العاقل، لأنه أريد بذلك الوصف.
وليست في هذا الموضع (٤)، بمعنى «من» ولا بمعنى «الفعل».
قوله (طاب): قرأ حمزة «طاب» بالإمالة (٥).
قوله: (من النساء): «من» بيانية (٦)، فيها بيان للاسم الموصول «ما» و(من النساء) متعلق بقوله (ما طاب لكم) والتقدير: انكحوا ما يطيب لكم من النساء.
أو متعلق بقوله (فانكحوا)، أي: انكحوا من النساء ما طاب لكم.
والنساء والنسوه: جمع لا واحد له من لفظه، ولكن يقال: امرأة (٧).
والمعنى: فانكحوا ما طابت به نفوسكم ورغيتم فيه مما أحل الله لكم (٨). من
_________
(١) انظر «معالم التنزيل» ١/ ٣٩١، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٢.
(٢) في «معاني القرآن» ١/ ٢٥٣ - ٢٥٤.
(٣) في «تفسيره» ٧/ ٥٤٢، وانظر «مشكل إعراب القرآن» ١/ ١٨٩.
(٤) لأنها قد تأتي بمعنى «من» لكن في غير هذا الموضع.
(٥) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٥.
(٦) انظر «البحر المحيط» ٣/ ١٦٢.
(٧) انظر «اللسان» مادة «نسا» «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٥.
(٨) انظر «جامع البيان» ٧/ ٥٤٢، «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج٢/ ٤ - ٥، «معالم التنزيل» ١/ ٣٩١، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٥.
1 / 19
ذوات الصفات الطيبه من النساء، كالدين والخلق والجمال ونحو ذلك.
قال ﷺ: «تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (١).
قوله تعالى: ﴿مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾.
هذه الألفاظ نكرات (٢) في محل نصب على الحال من النساء. أي حال كونهن مثنى وثلاث ورباع (٣)، وهي ممنوعة من الصرف لعلتين (٤) الوصفيه، لأنها بمعنى الوصف للنساء، أي: نساء مثنى وثلاث ورباع.
والعلة الثانية العدل. ف «مثنى» معدولة من: اثنتين: و«ثلاث» معدولة من ثلاث و«رباع» معدولة من أربع (٥).
وهذه الألفاظ مما يستوى فيه المذكر والمؤنث.
فمن المؤنث هذه الآية، ومن المذكر قوله تعالى: ﴿أولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ فالجناح مذكر (٦).
_________
(١) سيأتي تخريجه ص ٣٥.
(٢) انظر «معنى القرآن وإعرابه» للزجاج٢/ ٥، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٥.وقال الطبرى٧/ ٥٤٣: «اسم للعدد معرفة ولو كان نكره لدخلته الألف واللام وأضيف: وهو لا تدخله الألف واللام ولا يضاف».
(٣) انظر «إملاء ما من به الرحمن» للعكبري ١/ ١٦٦.
وقيل هي في موضع نصب على الحال من فاعل «طاب» أو من مرجعه «ما» انظر مشكل إعراب القرآن» ١/ ١٨٩ «المحرر الوجيز» ٤/ ١٥، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٥ - ١٦، «البحر المحيط» ٣/ ١٦٣.
(٤) انظر «جامع البيان» ٧/ ٥٤٣، «معالم التنزيل١/ ٣٩١، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٥، «الجامع لأحكام القران وإعرابه» للزجاج ٢/ ٥.
(٥) انظر مشكل إعراب القرآن» ١/ ١٨٩، «البيان في غريب إعراب القران» ١/ ٢٤١.
(٦) انظر «جامع البيان» ٦/ ٥٤٣.
1 / 20
وهي تدل على تكرار العدد مما عدلت منه بلا حصر، أي: إلى غاية المعدود (١).
فيقال: جاء الرجال مثنى أي: اثنين اثنين، وجاءت النساء مثنى، أي: اثنتين اثنتين-وهكذا «ثلاث» و«رباع».
وقوله (مثنى وثلاث ورباع) أسلوب تنويع وتقسيم.
أي: انكحوا على اثنتين اثنتين، وعلى ثلاث ثلاث، وعلى أربع أربع، وفيه معنى التخيير (٢) أي: منكم من ينكح اثنتين ومنكم من ينكح ثلاث، ومنكم من ينكح أربعًا. قال تعالى في وصف الملائكة: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ (٣) أي منهم له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة (٤).
وقد زعم بعضهم (٥) أن المعنى: انكحوا اثنتين وثلاثًا وأربعًا، أي: تسعًا؛ مجموع اثنتين وثلاث وأربع تسع، وأباحوا الجمع بين تسع زوجات. استدلالًا بالآية. قالوا: لأن الواو للجمع (٦).
وهذا ليس بصحيح من حيث اللغة العربية التي نزل بها القرآن
_________
(١) انظر «الصحاح» للجوهري مادة «ثنى، ثلث، ربع» «مشكل إعراب القرآن» ١/ ١٨٩، «المحرر الوجيز» ٤/ ١٥، «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٨.
(٢) انظر المعجم الوجيز» ١/ ٣٩١.
(٣) سورة فاطر، آية:١.
(٤) انظر «تفسير ابن كثير» ٢/ ١٨٢ قال ابن كثير بعد هذا: «ولا ينفى ما عدا ذلك بالنسبة للملائكة لدلالة الدليل عليه» يشير ﵀ إلى ما ثبت في الصحيح: «أن النبي ﷺ رأى جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح» أخرجه البخاري في التفسير٤٨٥٦، ومسلم في الايمان١٧٤ والترمذي في التفسير٣٢٧٧ من حديث ابن مسعود ﵁.
(٥) وهم الرافضة وبعض الظاهرية.
(٦) بل ذهب بعضم إلى جواز الجمع بين ثمان عشرة زوجة، بناء على أن معنى «مثنى» اثنتين اثنتين أي أربع «وثلاث» ثلاث ثلاث، أي ست، و«رباع» أربع أربع، أي: ثمان. فأربع وست وثمان: ثمان عشرة، بل قال بعضهم بجواز التعدد بلا حد. انظر «الجامع لأحكام القرآن» ٥/ ١٦ - ١٨ «البحر المحيط» ٣/ ١٦٣.
1 / 21