============================================================
وجدت العبرة اسرع إلى القلب بالأشكال والأمثال والأصحاب ممن سواهم بأن يذكر العبد مصارعهم تحت التراب ويتوهم صورهم في حياتهم ومقاماتهم وكيف محى التراب حسن صورهم، وكيف بلوا في قبورهم، وكيف آرملوا نساءهم وايتموا اولادهم، وخلت منهم مجالسهم ومسناجدهم، وانقطعت منهم انارهم، فيذكرهم رجلا رجلا، فيتوهم صورته، ويذكر نشاطه وتردده واكتسابه وإنفاقه وأمله للعيش والبقاء، ونسيانه للموت أو ذكره له، ومؤانسته إياه معه، وفرحه وضحكه، وكيف وقعت تلك الأسنان وتقطعت تلك المفاصل، وذهبت تلك القوة فيعترضهم رجلا رجلا، فإذا اجتمع في القلب معرفة فجأة الموت وكربه والنظر أى صورة الملائكة لقبض روحه، وعظم خطر إحدى البشريين، وارتقاب قلبه لاحدى البشريين، وذكر الاخوان وأحوالهم، وكيف فنوا وبلوا وخلفوه ومضوا ، وأنه لاحق بهم لا محالة.
فما هو عند نفسه إلا كأحدهم وأن الموت نازل به كما نزل بهم، كما قال أبو الدرداء: إن ذكر الموتى فعد نفسك كأحدهم وقال النبي لعبد الله بن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك في الموتى" (1) .
فعند ذلك بعون الله عز وجل يقصر امله ، ويرتفب أجله، ويستعد بالتوبة للقاء ار به عز وجل، ويعظم الحمد والشكر في قلبه لربه عز وجل ألا يكون قدمه ولم يمهل ه بعد إخوانه، فيحال بينه وبين الاتعاظ بهم (2) ، والعبرة والاستعداد لمثل ما نزل بهم، فتعظم النعمة عنده أن لايكون هو المتخطف، ويحمد الله تعالى، إذ آخره للعبرة والاتعاظ، ثم يرجو ان يكون ذلك من سعادة سبقت له من ربه تعالى.
(1) آخرجه: البخاري في صحيحه، الباب الثالث من كتاب الرقاق. والترمذي في سننه ، الباب 35 من كتاب الزهد ، وإبن ماجه في سننه الباب الثالث من كتاب الزهد . والإمام أحمد بن حنبل في مسنده 24/2، 41، 131. وإبن المبارك في الزهد5 .
(2) يعني: بتمد العبد ربه لأنه أجل موته حتى فني إخوانه وتمكن من الاتعاظ بهم، حتى يدارك ما فاتد، ولأنه لم يجعله هو عظة لغيره. فالسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من وعظ به غيره.
149
Halaman 148