وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام . (2) هنا وهناك وهنالك
3
أيها السادة والسيدات
دعي مرة أديب للخطابة في حفلة مثل هذه فلبى الدعوة فرحا مسرورا؛ لأنها كانت أول ما جاءه من القوم وكان الخطاب باكورة عمله، فسود الأوراق وبيضها واستعد لخطابه استعدادا يليق بوقفته الأولى على المنبر، ولكن لما وقف أمام القوم خانته الحافظة وجمحت القريحة فاعتذر قائلا: لما دخلت هذا المنتدى لم يكن أحد يعرف من خطابي شيئا سوى الله والداعي، وأما الآن فبأسف أخبركم أن لا أحد يعرفه سوى الله، فاستحسن الحاضرون النكتة وعفوه من الخطابة، ولا تظنوا - رعاكم الله - أن الكلام الذي أعددته أنا لهذه الحفلة لم يطلع عليه قبل هذه الساعة سوى العالم بذات الصدور، كلا، فقد اضطرني أصدقائي إلى مراعاة اصطلاحات البلاد وقالوا: ابعث ابنك هذا إلى المستشفى بلا عناد، فبعثته بعد أن دسمته من العين، وقرأت عليه المعوذتين، وهناك استلمه مولانا الطبيب، وكفى بذلك تلميحا للبيت، وعاد إلي بعد أيام حسبتها سنين، وعلى بدنه آثار المبضع والمشرط والسكين، فتصافحنا وكلانا يقول: الحمد لله رب العالمين.
ويجب أن أقف عند هذا الحد في التسجيع والكنايات خوفا من أن تحسبوني أتلو عليكم شيئا من سجع الكهان، أو مقامة من مقامات بديع الزمان، وقد يتبادر لذهنكم أني أوردت القصة ليكون حظي منكم حظ ذاك الخطيب من قومه ولكنني لا أطلب كل هذا، أنا أدفع الآن نصف ما علي من الدين لهذه الجمعية بشرط أن تعفوني من النصف الآخر، ولكنني أعدكم بدفعه مع الفائدة متى تحسنت الأحوال على أنني أود لو كنت مطلق الحرية لأدفع كل ما علي الآن، إن قوتي - يا سادتي - في حريتي لا في شعري، أود لو كانت وقفتي هذه الأولى أمام قومي في وطني غير مقيدة بقيود التقية والأحوال، ولكن لسان الحال أفصح من لسان البيان، وقد تكون الكلمة المحفوظة في الصدر أشد تأثيرا في النفس من الكلمة المقولة.
لقيت على شاطئ البحر وأنا قادم ذات يوم إلى المدينة شيئا ذكرني بما يليق أن أفتتح به هذه الكلمات القليلة التي تحوم حوما حول موضوع يتعوذ من ذكره الناس، ذكرني ما لقيته على ساحل هذه البلاد السورية وسأخبركم عما لقيته بعدئذ أو لكم أن تنبهوني إذا فاتني ذلك، ذكرني بمدينة في البلاد الأميركية قضيت فيها خمس عشرة سنة متراوحا بين قومي والأعجام فلم أمل كل الميل إلى أولئك الأميركيين ولم أهجر كل الهجر إخواني السوريين، لم يكن جفاء قومي ليقربني من الأعجام ولا إكرام الأعجام ليبعدني عن قومي، ولقد سمعت من أصدقائي الشعراء الأميركيين من الكلام ما يضعف الشعائر الوطنية لو كان في لمثل هذا الضعف استعداد.
وقد قال لي أحدهم مرة بعد أن قرأ في إحدى الجرائد الأميركية خبر قيام النزالة السورية علي بسبب كتابي الأخير دع ذكر الوطن والأمة والزم الشعر، الشاعر الحقيقي هو ابن العالم على الإطلاق وكل وطن صالح هو وطنه، فرنت هذه الكلمات في أذني ولا سيما الناصح شيخ في السن وفي صناعته، وهجرت - إذ ذاك - قومي إلى حين ونفضت عن أوراقي ودفاتري غبار لغتنا هذه الشريفة وأخذت أنظم في اللغة الإنكليزية وأنقل إلى الأعجام ما عثرت عليه من كنوز العربية، وثبت عندي - إذ ذاك - أن الشاعر الحقيقي يخلص الخدمة لوطنه أولا ومن ثم يتدرج إلى خدمة الإنسانية، أو يخدم الوطن والإنسانية معا إذا كان من النوابغ الحقيقيين النادرين في كل أمة وبلاد.
وبعد أن فكرت في أمري هذا وسمعت المباحثة التي جرت بين ذاتي السوري وذاتي الأميركي حكمت للأول على الثاني ورضيت أن أكون من الطبقة الأولى في الوطنية ولو جعلني ذلك في الطبقة الوسطى من الشعر، وهكذا عدت إلى الكتابة من اليمين إلى الشمال ولكنني حفظت في قلبي زاوية للغة التي اكتسبتها في العالم الجديد، ولو أصيخ إلى قول صديقي الشاعر الأميركي لما كنت حظيت بمشاهدتكم هذه الليلة ولكم أن تعكسوا، نعم إن ولعي بلغتي وبوطني لقوي شديد ولو سألتموني إيراد الأسباب التي توجب هذا الولع لقلت لكم أحب لغتي لأنني أحب نفسي وأحب وطني لأنني أحب قومي، وقد يحملني هذا الولع والحب إلى الغلو أحيانا، فقد قرأت مرة أن غالينوس كان يقول: أجود هواء في الدنيا هواء بلاد اليونان.
وقال ابن رشد: إن أجود هواء لهواء قرطبة (بلده ) وقال ملتن: إن الهواء النقي المنعش لا يهجر قط لندره، وأقول أنا - وأظنكم كلكم تقولون معي: إن هواء لبنان لهو نفس الآلهة بالذات، وكلنا لا شك مصيبون، وما غلوي أنا إلا جزء من غلو أولئك الفلاسفة الكرام، هذه الثمرة من تلك الشجرة، ولكن حبذا هواء لبنان وبئس المتنشقون، حبذا ماء الجبل وبئس الشاربون، لا والله هذا كثير، لا يجب أن ألوم اللبنانيين ولا أن أؤاخذهم بما هم عليه من الخمول والانحطاط والاستكانة والضعة.
فالإكليروس وشيوخ القرى راضون عن مثل هذا الانحطاط والخمول ويجب أن يرضى المقلقون بما يرضي شيوخ القرى والإكليروس، يجب أن نرضى ونسكت، ولكن إذا نحن سكتنا فالمهاجرون لا يسكتون، إذا نحن رضينا فالمهاجرون المقلقون لا يرضون، نعم لا بد أن تشرق علينا شمس العلم والترقي من المغرب كما تشرق علينا شمس الله من وراء جبل صنين، لا بد أن يشرق على سوريا قمر الإصلاح من وراء البحار مثلما يشرق عليها قمر السماء من وراء جبل الشيخ، لا بد من التقاء الشمسين واجتماع القمرين وقد تأخر قمر المغرب إلى الهزيع الأخير من الليل، فلتنم الأمة مطمئنة إذا، ولكن اذكروا كلامي، لا بد من أن تعاينه ذات ليلة من ليالي تموز وهو شهر جليل الذكر عند أعظم جمهوريتين في العالم.
Halaman tidak diketahui