والذي ظهر لي مما أنشدنيه صديقي ابن سهل هو أن في ديوانه قد يتبع الربيع الشتاء، وقد لا يكون فيه من الصيف غير الهجير، فقد زرع المسكين ولكنه لم يحصد؛ ولذلك كانت كأسه مرة للغاية، ولكن المر هذا يستحيل في نفس الشاعر شرابا لطيفا يلذ طعمه ويسكر شذاه، وخريره بين حصى الأشجان يطرب الولهان، ولا يفوتنك أن الشاعر هو الداء والدواء والمداوي، فإذا شرب كأس الصبابة والشوق والصد وهام على وجهه بضعة أيام يمزج لنفسه بعدئذ كأسا أخرى من شعره فيشربه مسرورا فيزيل مذاق الكأس الأولى، وما أشقى العاشق وأجمله وقد استلقى على مضجعه نشوان من هذه الكأس الأخيرة التي مزجتها له يد الخيال لتداوي جروحات حبه، وعند قراءتي ابن سهل خيل لي أن جروحاته لم تزل تدمي في قصائده.
لنعد إلى رحلتنا، فلما وصلنا إلى الرابية الظليلة في أصيل النهار رميت بنفسي إلى الأرض البنية الناعمة تحت صنوبرة شامخة ووقف صديقي الكئيب بين يدي، ولكن جمال الطبيعة أمامنا وطيب عرف الصنوبر الغض حولنا والهواء الشرقي الذي جاء من السهول مارا فوق صنين، والسنونو الذي كان يغرد في بستان من الزيتون قريب منا والجنادب التي ملأت الغاب بصريرها؛ كل هذه - وهي أبيات قليلة من القصيدة التي ينظمها الله - أنستني في البدء صديقي، صرفت نظري وسمعي عما كان ينشده بشر مثلي.
ولكنني بعد أن استلقيت على الأرض مستريحا ومستروحا واستنشقت الهواء الذي يمر في البساتين والأحراج فيجني من طيب شذاها مثلما يجني النحل من الأزهار، وبكلمة أخرى: بعد أن قرأت بضعة أبيات من قصيدة الله الجميلة عدت فقرأت قصيدة من ديوان ابن سهل، نعم إن بين شعر الأول - عز وجل - وشعر الثاني مراحل كبيرة، ولكنه يستحق أن يقرأ هذا بعد ذاك ولو ذهبت الموازنة بكثير من حسناته.
فبعد أن ترى إذن كيف أغصان الصنوبر تخفق حين يمر عليها النسيم وكيف تتصاعد منها الزفرات حين يلاعبها الهواء اقرأ هذه الأبيات:
يعارض قلبي بالخفوق وشاحه
ويحكي امتدادا زفرتي ليل صده •••
وجاء لتوديعي فقلت اتئد فقد
مشت لك نفسي في الزفير المصعد •••
روض حرمت ثماره وقصائدي
من ورقه والآس نبت عذاره
Halaman tidak diketahui