ولو سألت المستر شاو هذا السؤال لقال لي: «إذا كان القائل العامل بالحب المطلق ذكيا يشتري للأسرة، التي يهمه أمرها، سيارة من سيارات الحرب، وإذا كان قويا ينصب لها - بدون مقدمات - المشنقة.»
غني عن البيان أن نتيجة مبدأ المستر ولز الحاضر تضر بصالح الفرد وتحول دون نشوئه النفسي والعقلي، بل هي تناقض تعاليمه الأساسية في الاجتماع، وهو يدرك ذلك ولا يعتذر عنه، قال الشيطان للرب: «إني أحرك في العالم من أجلك ولخيرك»، وفي بستان المستر ولز الأعشاب السامة، والنباتات الطبية والزهور كذلك والثمار، وهو يفتح لك الباب قائلا: أهلا وسهلا، ولكنه لا يرافقك دليلا، ولا يعترض إذا اقتديت بشيطانه وكنت في البستان صاحب حركة فتخلط الأعشاب بالزهور، لعلك تهتدي إلى حقيقة جديدة من حقائق الوجود، ولعل السم في هذا العشب مثلا يزيل المرض في تلك الشجرة.
وهناك مبادئ أخرى أساسية في النشوء والعمران، منها مثلا: أن الإنسان لا يزال مصعدا ولم يصل إلى آخر درجة من سلم النشوء والارتقاء، وأن الأوروبي - فردا لا اجتماعا - لا يزال خاضعا للناموس الطبيعي القائل ببقاء الأنسب وصالحا للعمل به، ولم يصل - كما يظن بعض العلماء - إلى القنة التي يختنق عندها إذا لم ينكس راجعا، فالمرء والمدنية من هذا القبيل جسمان مستقلان.
قال المستر ولز: «إننا في بداية أمرنا في الاكتشاف والعلم، ولا نزال قيد الأوليات في استخدامنا المبادئ العلمية في الحياة وعلى الأخص في أساليب البحث والجدل، ومن الحقائق التي لا تحتاج إلى برهان أن كل ما كان من ارتقائنا في الماضي ليس هو اليوم كما كان، حكوماتنا، وعلومنا، وطرائق الحرب، تغيرت كلها، فهل يعقل أنها ستبقى على ما هي اليوم بعد خمسماية سنة؟ أما إذا قلت: وألا تتغير من الحسن إلى السيئ أو من السيئ إلى الأسوأ؟ أجيبك: كلا؛ وذلك لأن نشوء الإنسان هو من السافلات إلى العاليات ومن السيئ إلى الحسن دائما.»
وهو يرتئي كذلك أن مبدأ النشوء والارتقاء الذي ظهر وتعزز في الشعب السكسوني سيؤهل هذا الشعب أيضا للعمل الأكبر في تكييف مصير العالم ومستقبله، وما هو بالغريب أن تحاول أمة تسود العالم بواسطة مبدأ علمي اكتشفه علماؤها، ولكننا نخشى - ويحق لنا أن نخشى - مثل هذه السيادة إذا كانت غير مدعومة بمبادئ اجتماعية شريفة، وتعاليم روحية سامية. «أقول - وعسى ألا تظن قولي غرورا: إن أميركا وانكلترا تتقدمان الأمم في سبيل الارتقاء، وتهديانها إلى حكومة العالم المستقبلة، الحكومة الأممية.»
لذلك دعيت المستر ولز «الأممي البريطاني» وهو بشر مثلي ومثلك لم ينتصر بعد على عوامل الوراثة فيه، ولن تتنصر روحه في الجيل الثاني أو الثالث من ذريته على نواميس هي في سيرها ونشوئها وزوالها بطيئة جدا، والبرهان على ذلك، خذه من مبادئ المستر ولز ذاتها، بل من التعاليم الدروينية، وهو يحاربك بها، ولكنه يعتقد أن الحرب حتى بين حقائق الوجود تجلي الحقيقة الكبرى في المثل الأعلى وتقربها من الناس، «فإذا كنا غير مستعدين اليوم للمثل الأعلى في الحكومات فينبغي لنا أن نقبل المثل الذي يدنو منه وهو الحكم الإنكليزي، وهذا مثال من المجون الذي يحسنه المستر ولز.»
لكنه لا يريد بالحكم الإنكليزي - كما يتبادر للذهن - الاستعمار أو الانتداب، بل يريد التشبه، الاقتداء، الاقتباس، «إذا كنا أحسنا أمرا فلكم الثمرة ولنا، إذا كان دستورنا مثال العدل والحكمة فخذوه دستورا لكم. إن في الشرق الأقصى اليوم نهضة نحن مديونون بها لأميركا، فقد خطونا في مؤتمر واشنطون خطوة كبيرة نحو الحقيقة الكبرى في الاجتماع وفي السياسة، أجل، إن الفضل لأميركا في طرح المسألة الصينية على بساط البحث وحمل الدول على اتفاق أساسي بخصوص الصين، وجوهر هذا الاتفاق - كما تعلم - هو أن المساعدة لا تكون في أن تدخل الدول الأوربية إلى الصين حاملة الإنجيل بيد وبرنامج التجارة باليد الأخرى، بل المساعدة هي أن نخرج من تلك البلاد، ليس إلا، وقد تم في مؤتمر واشنطون ما كانت الدول تخشاه، فقد أقرت الدول أن تخرج تدريجيا من الصين، كل بلاد لأهلها.»
وهذه من المبادئ التي لا يستطيع المستر ولز اليوم إلا نصرها، لهو وإن كان أمميا يدرك أن لا بد من حكومات في الشرق تتقدم الحكومة الأممية التي يبشر بها ويدعو إليها، الوجود قبل العدم. فيجب أن تظهر الحكومة الوطنية في الشرق قبل أن تزول، وستكون الصين أول الأمم الشرقية الكبرى المتمتعة بحكومة وطنية، فهل تكون أول الأمم الشرقية التي تنبذها؟ يقول المستر ولز: لا أدري، ولكنه متأكد أن الوطنيات ستعم الشرق كله، فتنتقل من الصين إلى الهند ومن الهند إلى بلاد العرب. - «وستكون سوريا آخر مراحل الوطنية في سياحتها الغربية؟» - «كلا، على السوريين أن يبدءوا بالجهاد، فالنهضة إذا بوشر بها في طرفي الشرق - الأدنى والأقصى معا - تكون أسرع في سيرها ونجاحها.» - «وما قولك بمصر؟» - «إني من أنصار المصريين في الاستقلال إذا استثنينا منه ترعة السويس، فلا يجب أن تستولي على الترعة دولة واحدة من الدول؛ لأنها ممر عمومي في طريق التجارة والأسفار التي تصل الشرق بالغرب، ويجب أن تكون - والحال هذه - في يد حكومة أممية، أو حكومة مؤلفة من دول العالم الكبرى. حكومة تكفل حياد الترعة وشيوعيتها وتحميها، أما الدول الصغيرة فلا تنفع إذا اشتركت بهذا الحكم، وقد تضر، فهي غالبا تبيع أصواتها في تقرير الأمور، نعم، يحق لمصر أن تكون من الدول المسيطرة على الترعة، وما خلا ذلك فأنا قلبا وقالبا نصير استقلالها التام.» - «أولا تظن أن في استطاعة مصر أن تحمي الترعة؟» - «ليست المسألة في نظري مسألة حماية فقط، أنت تعلم أني أنصر المبدأ الذي يقول بالاستيلاء العام على طرق التجارة والأسفار العمومية في العالم بأسره، وما نفع المبادئ إذا ظلت إلى الأبد في العقل والخيال، ينبغي أن توضع موضع العمل، ولا بد لكل عمل من بداية.» - «وهل تطلب العمل بذا المبدأ في ترعة باناما أيضا؟ وكيف يمكنك أن تنفذه؟» - «نعم، إن النظريات والمبادئ خاضعة مثل كل أمر من أمور الحياة لناموس النشوء والارتقاء، فإذا بدأنا في مصر ننتهي في أميركا.» - «ولكن لمصر - كما لسائر الأمم - الحق الأول، الحق المطلق، في أرضها.» - «لا يحق لأمة من الأمم أن تملك أرضا لا تستثمرها ولا تدع غيرها أن يستثمرها، وعلى هذا القياس أقول أيضا لا يحق لأمة من الأمم أن تستولي وحدها على طريق عامة من طرق العالم وتقفلها يوم تشاء دون من تشاء من الأمم، زد على ذلك أنها لا تستطيع - وهذا أشد ضررا - أن تحميها في زمن الحرب.»
ولا يختلف رأي المستر ولز في الأمم الشرقية، إذا جردناه من المبدأ الاشتراكي، عن رأي بعض الأحرار من السياسيين الأوروبيين، فهم رغم عطفهم على الشرقيين، لا يثقون بهم حتى الآن الثقة التامة، «ليكن لهم الاستقلال السياسي»، يقول السياسيون والمستر ولز أيضا: «ليتمتعوا بالحكم الوطني، وليتعلموا أثناء ذلك العلوم التقنية والميكانيكية والاقتصادية، وإذا كانوا لا يجيئون إلى أوروبا لهذا الغرض، ليكن لنا حق التعليم في بلادهم.» قلت: «وهل تظن أن هذه العلوم تكفي لتقدم الشرقيين ورقيهم؟»
فأجاب على هذا السؤال وهو يذكرني بكلمة قلتها في واشنطون إذ سألني أحد المراسلين الشرقيين: ما هو دينك؟ فقلت: لا دين لي اسما ورسما، ولكني أعتقد بالله أبينا أجمعين، وأعتقد كذلك بالإخاء البشري.
Halaman tidak diketahui