نعم أنا على يقين أن الفكر لا يموت والنفس لا تفنى، والبذرة التي تقع من يد الزارع على الصخر تساعدني أن أقدم ولو برهانا ضعيفا على اعتقاد قوي، فهل تظن - أيها القارئ - أن البذرة هذه تموت؟ زرها في العام المقبل وانظر كيف خدمتها الرياح وكيف أنعشها الشتاء وكيف عنيت بها الأعاصير. فقد جرفت لها التراب من أعلى الجبال واستدرت لها الماء من الغيوم، وانظر الآن كيف ترفع رأسها من شق الصخر لتشكر للشمس كرمها وللغيم فضله.
مناهج الحياة
أليس في وسع المرء أن يعيش في هذا العالم دون أن تطبع روحه بطابع الملة وتصبغ بصبغة الطائفة، ألا يقدر أن يكتسب ثقة إخوانه البشر دون أن يعلن تشيعه ويفاخر بتعصبه ويكابر بغيرته الدينية مثلا أو السياسية، ألا يقدر أن يحب فئة من الناس دون أن يبغض سواها، ألا يقدر أن يكون شريف الروح نزيهها عفيف النفس أبيها دون أن يحفر على صفحات قلبه أو على جبينه بأحرف كبيرة: «أنا يهودي» أو «أنا مسلم» أو «أنا مسيحي» أليس في وسعه أن يكون سعيدا محبا لامرأته وأولاده وأهله وبني جنسه دون أن يعلق في ذيل ردائه أجراس الشيعة وجلاجل الملة كيما تبشر بقدومه حيثما توجه وتبدد بقرقعتها كلما تحرك ذرات السكينة والسلام، أليس له أن يحب ربه دون أن يبغض أخاه في الإنسانية، ألا يستطيع أن يرفأ ثوبه دون ن يمزق ثوب جاره، أليس في مكنته أن يصلي دون أن يسب ويلعن ويتمنى لمن لا يصلي مثله الاصطلاء بنار الأبدية، هل تقوم محبة الله بغير محبة الإنسان، هل يستحق أن يكون في ظل الأبوة الإلهية من لا يساعد على تعزيز الإخاء البشري في الأرض؟
كم مرة رددت نفسي هذه الأسئلة؟ رددتها متأملة وهي واقفة في طريق الحياة الواسعة، ومن ورائها الماضي وجدرانه وآثاره وغباره ومن أمامها تمتد شعب ضيقة عديدة لطريق الحياة الأصلية الواحدة، شعب تحير المسافر وتزعجه وتدهش المتبصر وتوقفه، فها قد وصلت مع عقلي وروحي إلى حيث يصعب الحكم في الأمر، أنظل سائرين في طريق الحياة الرحبة التي لا يتخذها إلا العدد القليل من البشر أو ندخل إحدى الشعب الممتدة أمامنا لنكمل سياحة حياتنا الدنيا؟ وإذا عدلنا عن طريق الحياة الأصلية أي شعبة نأخذ، أي شعبة أسهل وأوسع وأجمل، أي شعبة أقصر وأقرب إلى الدار التي نقصدها؟
وإذا نظرنا حولنا نرى على كل رتاج من الشعب المختلفة حراسا وأدلاء، هذا يصيح قائلا: طريقي طريق الخلاص. وذاك يصرخ مناديا: إلي إلي إن طريقي سهلة رحبة. شعب عديدة وحراس وأدلاء كثيرون، كل يمجد طريقه ويسهلها في وجهنا، كل يدعي العصمة ويشنع بالأدلاء الآخرين وبطرقهم. فنقف حائرين ناصتين، ونسمع الضوضاء مضطرين، فهذا يقول: إن طريق جاري مسدودة. وذاك يقول إن طريق ذاك الدليل وعرة كثيرة المخاطر.
إن درب هذا الحارس شديدة المتاعب كثيرة العثرات والأحافير والهوات. إن طريق ذلك الدليل الشرقية تؤدي بك إلى هاوية مظلمة. إن طريق هذا الغربية تفضي بك إلى واد مرعب مخوف. طريقي طريق الخلاص والراحة. طريقي توصلك إلى جنة السماء. طريقي أنا رحبة وطريق سواي ضيقة. طريقك ... طريقي ... طريقه ... فيا أيها الإله الحليم العظيم سكت هؤلاء الحراس والأدلاء، أطف بروحك الطاهرة الهادئة هذه الجلبة والضوضاء لكيما نفكر قليلا ونتبصر: أي منهم يا رب مصيب وأي طريق أقرب إليك؟
وبينما هم في فوضى الكلام وأنا غائص في بحر مضطرب من الأحلام وصل جمهور من المسافرين فاتخذ كل منهم طريقا من الطرق العديدة دون سؤال وتردد.
من منهم أتبع وأيا منهم أرافق؟ كل منهم عرف طريقه فسار فيها أما أنا فترددت وسألت وبحثت وقابلت؛ فوجدت أن طريق الحياة الأصلية واسعة منيرة رحبة جميلة وشعبها العديدة ضيقة وعرة مخوفة مظلمة. فحدت عنها كلها غير مكترث لتهديد الأدلاء ووعيد الحراس وتنديد المسافرين وظللت سائرا في الطريق التي أوجدتني بها العناية الربانية من البدء، فلا يعترض أحد مسيري ولا أحتاج فيها إلى حارس يحرسني أو قائد يقودني أو دليل يدلني، هي طريقي تهديني فيها عين الله التي تنير العالم وترافقني روحه التي تزيل من فؤادي الخوف والرعب ومن الطبيعة حولي الهول والأخطار. هي طريق لا لصوص فيها فيسلبوك حريتك، ولا أدلاء فيضغطوا على إرادتك، ولا حراس فيفسدوا استقلالك ويتحكموا فيك.
أي أحسن؟ أن يبقي المرء عقله ونفسه مطلقي الحرية والإرادة أو يقيدهما بقيود الملل والشيع والطوائف، ويشوههما بصبغة التحزب الأعمى؟ أي أحسن؟ أن تبقي هذه النفس ذخيرة لك أو أن تخاطر بها على طريق من الطرق العديدة التي يجب أن تسير فيها صامتا مطيعا؟ العاقل لا يخاطر باستقلاله، الحر لا يتاجر بروحه، الحكيم لا يرهن عقله لشيعة ما ولا يتقيد بسلاسل التقليد.
لا يا صديقي، ليست هذه النفس قطعة أرض أو سلعة لترهنها أو تبيعها، ليس هذا العقل برميلا من التفاح تتاجر به. سر في طريق الحياة الأصلية الرحبة، واترك - إن استطعت - الشعب المتعددة لأدلائها. انزع عنك العلامات الصناعية، ارفع عن رأسك الإعلانات الطائفية، امح عن صفحات قلبك ما خطه أجدادك من كلام الغيرة والتعصب، نظف - يا أخي - لوح النفس، نظفه جيدا، وكن أنت الكاتب عليه لا سواك انقش عليه هذه الكلمات الجميلة العذبة: الحرية، الحقيقة، المحبة، الاستقلال؛ كن إنسانا صرفا، كن للإنسانية على الإطلاق، وإذا كنت ممن يحبون العلامات فكن كالحرف في النحو، أي: فلتكن علامتك عدم العلامة، وقد قال أحمد الشدياق:
Halaman tidak diketahui