210

Rayhaniyyat

الريحانيات

Genre-genre

لا يلمني القارئ إذا في تقديم العاطفة على البحث والبرهان، بل لا يلمني إذا جاءت كلمتي في روح اللغة أقرب إلى شواذ البحث منها إلى أصوله، فهي كلمة عاشق، هزني إليها صديق لي قديم سمعت حديثه أمس في دار الكتب العمومية، سمعته في نيويرك وهو في بيروت، وها أني أسرع إلى إزالة العجب: كنت مارا في شارع هذه المدينة الكبيرة، وكانت ساعة ليس لسواي حق بها، فدخلت المكتبة وسرت إلى الدائرة الشرقية منها فوقع نظري هناك على مجلة الهلال وفيها مقال ممتع للأستاذ جبر ضومط في اللغة العربية، فطالعته شيقا إلى استماع حديث هذا الصديق الفاضل في موضوع هو ابن بجدته - كما يقال - أو بالحري هو محيط محيطه، وقد راقني منه خصوصا تعداد محاسن اللغة العربية والمقارنة بين آدابها وآداب سواها من اللغات، ثم استشهاده حتى علماء الإفرنج في ما لا يحتاج عندي إلى غير برهانه أحسنت يا صديقي الأستاذ، أحسنت، ولكنك في ذكرك إياي وسؤالك استهويت واستزللت، فإني بين اللغتين مثلي بين معشوقتين لا أدري - والله - أيتهما أجمل ولا إلى أيتهما أنا أميل.

على أني قرأت صفحة في جمال الاثنتين، وألممت بما في الهامش من شرح الغامض ناهيك بغموض الشرح، فكان حظي من بعض الأسرار يسيرا، إلا أن من ذا اليسير ما يعد في عرف العارفين كثيرا، كيف لا «وبضدها تتبين الأشياء!» فالورد في الأحراج أجمل منه في البساتين، وحسنات آداب اللغة في الجاهلية - على قلتها - أبهى منها قياسا في حضارة هذا الزمان، وذلك لأن دائرة نورهم تلألأت في الظلام، ودوائر نورنا تكاد تختفي في الكبيرة البهية من الأنوار. ما العمل؟ ومن الملوم؟ إن لا فضل لنا إذا كنا نرضى أن نكون مثل من نظموا ونثروا في الجاهلية وفي صدر الإسلام، بل نحن الملومون إذا كان نورنا اليوم لا يشع بين أنوار الأمم المتمدنة فترنو إليه الأبصار مدهوشة مستهدية. •••

من جميل ما قلت يا صديقي الفاضل: إن رقي اللغة في رقي أبنائها المشتغلين بها. هذه حقيقة كبيرة أستأذنك بتقديم أختها الصغيرة، وهي: إن رقي اللغة لفي الخروج على السمج العقيم من مألوفها مع المحافظة على روحها. ولكن الخارجين من الكتاب اليوم - على المألوف وعلى الروح معا - كثيرون، فيخيل إليك وأنت تطالع ما ينشرون أنك تقرأ لغة أجنبية في ألفاظ عربية، ولكني أفضل هذا الإنشاء - وفيه من غرابة وركاكة ما فيه - على إنشاء عربي لا غبار على «سيبوياته» وقد أخذت معانيه كلها ومبانيه من «الفرائد الدرية» وغيره من «المحنطات» اللغوية.

وعندي أن ضرر مثل هذه الكتب أشد من ضرر لغات الأجانب في من لا يحسنون من الكتاب حتى الترجمة، بل لا يحسنون حتى التقليد، وأننا إذا علمنا التلميذ أن يقول كتابة «تمشى الأمير» مثلا فيكتب «تحركت ركابه» أو «أخفق المرء سعيا» فيكتب «عاد بخفي حنين»، أو «نكث عهده» فيدهشنا ببلاغة «قلب له ظهر المجن» وغيرها من ثمار البيان الشبيهة بثمار صدوم، فإننا نعلمه حديثا لا يفهمه أبناء زمانه، وإن فهموه فلا يهمهم، ولا يفيد. إن في مثل هذا القديم بل هذا التقليد جمود اللغة وعقمها، وكلنا نعلم ما يتبع الجمود والعقم.

أجل أستاذي، إن رقي اللغة في نموها الدائم، والنمو في الحياة، والحياة في ما نألف اليوم ونكتشف غدا، والاكتشاف في الفكرة والنظرة والإرادة، والفكر والنظر والإرادة لا تدوم عاملة بغير الحكمة، والحكمة في أن نخبر المألوف فنتجاوزه إلى سواه،

2

من الحسن، أن ألم بشيء من شوارد اللغة، وأحسن من ذلك أن أفهم إذا استطعت

3

أصول الشوارد، فأنتفع بالأسباب إذا كانت شاملة، وقد أتخذ من القوالب ما ترتاح إليه وفيه، أفكاري، ولعمري إن أوضاع اللغة، لا أساليب أرباب الإنشاء فيها، خير ما يتعلم التلميذ ويقتبس الكاتب العصري، ولا بد له - إذا ذاك - إذا تفرد في ذكائه، أن يتفرد في أسلوبه فينبذ السمج والعقيم من مألوف الأوضاع، ويعود إلى لوح الوجود وإلى حاضر الأمة في حياتها الجارية فيتخذ من الاثنين مادة لبيانه، إنه ليجد في الاثنين غذاء طيبا جديدا لأسلوبه ولأفكاره، لمجازه أيضا وخياله.

على رأسي امرؤ القيس والمتنبي، على رأسي ابن خلدون والغزالي، ولكن في رأسي عينين تريانني أرضا رحبة إلى جانبي الطريق التي سلكوها، ومن الحكمة إذا سرت في الحقول مستكشفا مستوحيا، أو متنزها، أن أراقب من حين إلى حين منعطفات الطريق فلا أهجرها تماما، ولا أسلكها عماوة، وهذا ما أعنيه في نبذ المألوف والمحافظة على روح اللغة. •••

Halaman tidak diketahui