ومن الأمور التي تستدعي الفكر وتستوقف البصيرة والبصر هو أن القدر يجعل عنايته بهذه المخلوقات النحيفة بالنسبة إلى ما هو محدق بها من الأخطار والمخاوف، فكم من الأزاهير البرية تنبت بين دواليب العربات وبين دوس الخيل والماشية! وقبل أن أختم هذه المقالة أعرف القارئ بالأقحوانة الناسكة، فقد استوقف نظري ذات يوم أقحوانة واحدة بيضاء زاهرة بين حجرين موضوعين في نصف الطريق على شكل الأثافي وعليهما حجر آخر جاء بوضعه سقفا للبيت، والأقحوانة تحته زاهرة زاهية راضية بحالها غافلة عن الأخطار المحدقة بها، تعيش هذه الأقحوانة بعيدة عن أترابها ولكنها ليست كنساك البشر بعيدة عن الناس، فالطبيعة والتقادير بنت لها الصومعة في نصف الطريق بين أرجل المواشي التي تجيء وتروح عن شمال صومعة الأقحوانة الناسكة وعن يمينها دون أن تمسها بشيء، وكم مرة مرت فوقها وبجانبها العربات دون أن تحرك حجرا من حجارة الصومعة أو أن تؤذي صاحبتها! تباركت الأقدار! هكذا تترك بنيها، وهكذا تصونهم من الأخطار.
الكتاب
يقال إن الكتاب صنفان صنف يكتب ليعيش وصنف يعيش ليكتب، وقد فات من قال هذا القول أن هناك كاتبا آخر يستحق أن يرفع فوق الاثنين ألا وهو الكاتب الذي يعيش ويكتب، والفرق بينه وبين كتاب تينك الطبقتين طفيف في الظاهر. هو قائم بحرف العطف الصغير ولكنه في الواقع عظيم وجدير بالاعتبار.
ولا بأس من التفصيل وإن أدى ذلك إلى التطويل، لا حاجة للقول إن من يكتب ليعيش لا يكتب شيئا يذكر فيؤثر، هو كاتب مأجور يحرك اليراعة كيفما شاء السيد، هو حوذي الأدب يعلق على عربة علمه تعريفة الحكومة ويسوق القلم كيفما شاء الراكب وإلى حيث يشاء، وقد تقرر عند الإفرنج مقام هؤلاء المسودين المبيضين فلا يعدون عندهم من طبقة المؤلفين وأرباب الأدب، وأكثرهم ممن ينشئون الجرائد ويراسلونها فيمارسون صناعة الكتابة زمنا طويلا دون أن يتعدى اسم الواحد منهم إدارة الجريدة المستخدم فيها، وإذا تكلم الناس هنالك في الصحافي مثلا يتكلمون فيه كما يتكلمون في التاجر أو الإسكافي أو الفلاح أو الصراف، فيحصرون الحديث في الأرباح والخسارة، في عدد المشتركين والمعلنين وقلما يذكرون الكاتب أو المدير أو المراسل.
وقد ينشأ من هذه الفصيلة الكبيرة فصيلة أخرى ممتازة باسمها الجليل ومعروفة على الأقل بين المؤلفين إن لم تكن مكرمة عندهم ومحبوبة ألا وهي فصيلة الجهابذة الناقدين، أولئك الذين ينظرون بالكتب الجديدة التي تصدرها المطابع دون انقطاع فينتقدون ويماحكون ويغالطون. وهم قلما يقرظون ويمدحون، نعم الناقد كاتب مجهول يقصر عن التصنيف فيقضي حياته الكتابية في انتقاد التآليف الجديدة، وقلما يشتهر فرد من أفراد هذه القبيلة الغازية الضاربة على تخوم الآداب خيامها، وقلما يكون لها قائد أو شيخ أو أمير، فكلهم في الميدان سواء «كل إذا عد الرجال مقدم» ولكن مع كل ما يحدثونه من القرقعة والجلبة، ومع ما يجيء في طعنهم الشديد من النقد السديد لا يعدون من طبقة الكتاب والمصنفين، هم ممن يكتبون ليعيشوا، هم ممن يعلقون على باب مكتبهم التعريفة الرسمية.
وأما الطبقة الثانية من الكتاب - أولئك الذين يعيشون ليكتبوا - فقد تكبر الفائدة في تآليفهم وتصغر بقدر ما يعيش الواحد منهم قريبا من الحياة البشرية المتحركة والحياة الطبيعية الساكنة، فالذي يعيش في مكتبه أبدا ويؤلف بين الكتب والأوراق والمحابر بعيدا عن حركة الحياة ومظاهرها يصنف لا شك كثيرا ولكنه لا يعيش حقا، وقد يسقط في كثرة تآليفه سقطة الكاتب الأول في مقالاته المأجورة. الذكاء شيء نادر يا صديقي، ومتى وهبت منه الطبيعة أحد بنيها فبالدرهم والقيراط، وأكثر المؤلفين المشهورين أفرغوا كل ما أتوه من الذكاء بكتاب أو كتابين من كتبهم العديدة وما سوى ذلك يعد من طبقة الكتابة التي يكتبها ذوو التعريفة الرسمية.
عندك من الكتاب الأميركان من يضطر أن يؤلف كل سنة رواية أو روايتين حتى يظل اسمه في أفواه الشعب يردد وفي أنظارهم يتمثل، فلا ينساه إذ ذاك القراء ولا تخسر الشركة في طبع تآليفه، فالكاتب الذي يضطر أن يؤلف على التوالي بلا انقطاع ليظل مذكورا معروفا لا يجيء غالبا إلا بسقط المتاع وإذا كتب شيئا نفيسا فبالاتفاق وكبيضة الديك، كتابا واحدا من بين تآليفه كلها التي تعد بالعشرات.
وبين مثل هذا المؤلف الذي يعيش ليكتب وذاك الذي يسود المقالات ليعيش شيء من النسبة والقرابة، فكلاهما يكتب ما ينسى بعد القراءة الأولى وكلاهما أسير قلم، يمارس الكتابة والتأليف كما يمارس التاجر تجارته والدباغ صناعته والفلاح الحراثة، فمن من هؤلاء كلهم يتفرغ مثلا للذات العقلية والتأملات الروحية أو الرياضات الجسدية، من منهم يخرج من دائرة مهنته الضيقة إلى حقول الحياة ورياضها ولو مرة في الأسبوع أو في الشهر ، من منهم يخرج إلى الطبيعة ليقرأ في كتابها النفيس الفريد ولو صفحة كل يوم أو صفحتين؟
من يكتب ليعيش إذا يعيش ولا يكتب، ومن يعيش ليكتب يكتب ولا يعيش. وأما الثالث فيقسم وقته تقسيما حكيما ويفرد منه للطبيعة وللحياة وللأدب، الثالث يعيش حياة عقلية وروحية وجسدية معا في حين يعيش الاثنان الأولان عيشة ناقصة ناشفة الواحد منهما عقلي والثاني مادي والاثنان بعيدان عن العنصر الروحي العلمي الذي يجب أن يسود في كل ما نكتبه اليوم.
الكاتب الثالث: الكاتب الذي يعيش ويكتب لا يصنف تصانيف فكتور هوغو أو فلتر ولا يعيش عيشة ڤرلاين أو أديب إسحاق، وهو لا يكتب إلا في ساعة الإلهام والوحي، خذ لك مثلا قريبا يشرح رأيي هذا شرحا جليا، تعال نقابل أيها الأديب بين فلتر وروسو أو بين هوغو وهيني، فكم صنف فلتر وكم ألف، وكم سود من المقالات ونظم من القصائد وكتب من الرسائل، وإذ إنه لم يخرج قط في حياته الخاصة عن الرسميات والتكلف جاء ما كتبه في الموضوعات الاجتماعية ناقصا ففلتر الكثير التآليف لم يختبر العالم مثل روسو والقليل الذي كتبه هذا يوازي الكثير الذي صنفه ذاك.
Halaman tidak diketahui