وها أني وصلت إلى الحد الذي ينبغي أن نعرف عنده الحياة لنعرف كيف نقيس قيمتها. مما تقدم يتضح لكم أن الحياة أصلا إنما هي: قوات عقلية روحية مادية، تظهر في الناس بمقادير متباينة ناقصة ولكنها كامنة بالقوة وغير محدودة في كل نفس بشرية.
قلت «إنها كامنة بالقوة» والعبارة فلسفية وضعية لا أحب أن أرددها وأكثر من مثلها. على أنني أورد الفكر بعبارة بسيطة، أن في كل منا قوى غير محدودة من هذه الينابيع الثلاثة، تظهر فينا أو في نسلنا بمظاهر شتى طوعا لأحوال نعقلها إذا اعتبرنا ولأسرار لا نستطيع اليوم إدراكها، هذي هي الحياة نظريا، مبدئيا.
وأما عملا - آه لو كانت حياتنا الدنيا ابتسامة دائمة تبتدئ بالسرور وتنتهي بالابتهاج، آه لو كانت حلما من أحلام الشعراء أو لحنا مطربا مفرحا من ألحان الموسيقيين! ولكن الحياة في نظر أحد القديسين إنما هي: عقاب الإنسان في هذا العالم. وفي نظر الفيلسوف هي: سلسلة من حديد المصائب فيها حلقات قليلة من ذهب العزاء والهناء. وفي نظر الشاعر هي: هيئات هيولية محزنة لأسرار سامية غامضة، هي خيال زائل لحقيقة أزلية دائمة. وفي رأي سيدنا سليمان: كل شيء باطل، وقبض الريح. وفي رأي جمهور الناس: إنما الأرض وادي الدموع.
فالقديس إذا والفيلسوف والشاعر والحكيم والناس كلهم؛ مجمعون على أن حياتنا الدنيا لا تساوي العناء الذي نقاسيه من أجلها، بل لا تساوي العرق الذي يتصبب من جباهنا في سبيلها. ولكني أرفع على هذه الآراء كلها رأيا آخر أود لو سمعتموه وحفظتموه وتمثلتم به في كل موقف وفي كل آن: ألا إن الحياة صالحة إذا كان المرء صالحا، وجميلة إذا كانت نفس المرء جميلة، والإنسان لا يكون صالحا ونفسه لا تكون جميلة إذا كان لا يربي ويرقي فيه قواه الروحية والعقلية والمادية كلها على السواء. ومن النادر أن نجد في العالم اليوم حياة تامة الأجزاء ارتقاء ونشاطا وإدراكا في شخص واحد، فإذا كانت القوة العقلية عظيمة في أحد الناس راقية تكون القوة الروحية أو الجسدية فيه منحطة.
والعكس بالعكس، ودفعا لما قد يكون في كلامي من الإبهام أزيدكم إيضاحا بما أريده بالحياة التامة الأجزاء ارتقاء وفهما ونشاطا، فالقوة الحيوانية التي ينبغي للإنسان أن يراها ويتعهدها بالتربية تظهر نتائجها في صحته وصحة نسله، والقوة الروحية تظهر في شعوره الراقي وحبه، والقوة العقلية في إدراكه ونباهته وحكمته. واعلموا أن العالم مثلا يكون غالبا قوي الإدراك ضعيف الشعور، والشاعر شديد الشعور ضعيف الإدراك، والفلاح أو البدوي يكون غالبا شديد الجسم ضعيف الشعور قليل الإدراك. أما قيمة الحياة في كل من هؤلاء وإن كانت ناقصة فتختلف بالنسبة إلى من يأتون به من الصالحات الباقيات، فقد تكون قيمة حياة البدوي في نسله أعظم منها في نسل العالم، وقد تكون في الشاعر أعظم منها في العالم العلامة والحبر الفهامة.
قد لا ينتبه أرقى الشعوب - حتى في هذا العصر - إلى ما في الوجود من دواعي الارتقاء كلها والصحة والسعادة. ففي الشرق نظن الوسخ عرضا والخمول نعمة والخبل مصدرا للتجليات الروحية، وعن هذه الأوهام ينشأ التقشف والزهد وما يصحبهما من إذلال الجسد وإماتته. وفي الغرب بدأنا نرفع من أسباب النظافة والصحة إلى حد لا تعلوه أقصى الغايات. وقد قال الفلاسفة هناك: إن واجبات الإنسان الأولية أن يكون حيوانا نشيطا قويا، ولكن إذا نحن أهملنا ترويض الأجسام فهناك بدءوا يهملون ترويض الأرواح، وفي الأمرين نقص ظاهر، على الإنسان أن يعتني على السواء في تربية وترقية قواه العقلية والجسدية والروحية كلها.
سأضرب لكم مثلا من هذا النقص في التربية حتى في مشاهير الرجال، في الفيلسوف سبنسر كانت قوة الإدراك راقية إلى حد نادر المثال عجيب، وأما قوة الإحساس والانعطاف - أي القوة الروحية - فكانت فيه أضعف مما قد تكون في أحد سكان أواسط إفريقيا. وفي الشاعر دنته نجد القوة الروحية عظيمة في شعره كما كانت في حياته، وأما القوة العقلية إلى - قوة الإدراك - فما هي كذلك. ومثل هذه الموازنة تصح بين ابن الفارض وابن رشد، أو بين البهاء زهير وأبي العلاء. وعندي أن في رجل المستقبل العظيم يتجسد الفيلسوف سبنسر والشاعر دنته أو العالم باستور والقديس أوغسطينوس أو ابن الفارض وابن رشد، سيجبل الله إنسانا جديدا كاملا من الطينتين، من النصفين، وهو على كل شيء قدير.
من هذا يتضح لكم رأيي في ماهية الحياة وأقصى غاياتها، أجل إن الحياة الحقة هي التي تجمع بين محاسن فلسفة الروحيين وفلسفة الماديين، هي التي يشارك صاحبها أبيكوروس في لذاته وأفلاطون في روحياته وسقراط في إدراكه وحكمته، هي التي تعظم فيها قوة الجسد وقوة العقل وقوة الروح. التي تؤلف بين أول درجات سلم الحياة وآخرها، بين الحيوان مصدرها والملاك محجتها، مقل هذه الحياة كنز من كنوز الدنيا وقيمتها لا تقدر ولا تحد.
أما حياتنا اليوم - حياة عالمنا أو تاجرنا أو كاهننا أو فلاحنا - فهي ناقصة ضيقة خاسئة فاسدة وكذلك نتائجها، فكم من عمل فيه إخلاص وما فيه شيء من العقل، من عمل فيه عقل وما فيه شيء من الإخلاص، ومن عمل فيه إقدام وشجاعة بل قحة وسلاطة وما فيه ذرة من العقل والإخلاص.
ومع ذلك نستطيع أن نجعل حياتنا اليوم ذات قيمة تذكر إذا سرنا إلى غرضنا بحزم وعزم ونشاط وثبات واقتطفنا من الأعمال الناقصة، ما هو صحيح ناضج من ثمارها، إذا كنا حقا أحرارا، إذا كنا صادقين مخلصين محبين مدركين فنعرف أين تنتهي حريتنا وأين تبتدئ حرية جارنا. نمهد بشيء من العلم والسلاح سبيل الحياة الحقة التي وصفتها.
Halaman tidak diketahui