Rawae'a Al-Bayan Tafsir Ayat Al-Ahkam
روائع البيان تفسير آيات الأحكام
Penerbit
مكتبة الغزالي - دمشق
Nombor Edisi
الثالثة
Tahun Penerbitan
١٤٠٠ هـ - ١٩٨٠ م
Lokasi Penerbit
مؤسسة مناهل العرفان - بيروت
Genre-genre
سورة الفاتحة
التحليل اللفظي
﴿الحمد للَّهِ﴾: الحمد هو الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل.
قال القرطبي: الحمد في كلام العرب معناه: الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس، فهو - سبحانه - يستحق الحمد بأجمعه، والثناء المطلق. والحمد نقيض الذم. وهو أعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد، تقول: حمدت الرجل على شجاعته، وعلى علمه، وتقول: شكرته على إحسانه. والحمد يكون باللسان، وأمّا الشكر فيكون بالقلب، واللسان، والجوارح. قال الشاعر:
أفادتكم النعماء منّي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبّا
وذهب الطبري: إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، لأنك تقول: الحمد لله شكرًا.
قال القرطبي: وما ذهب إليه الطبري ليس بمرضي، لأن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكرُ ثناءٌ على الممدوح بما أولى من الإحسان، وعلى هذا يكون ﴿الحمد﴾ أعمّ من الشكر.
﴿رَبِّ العالمين﴾: الربّ في اللغة: مصد بمعنى التربية، وهي إصلاح شؤون الغير، ورعاية أمره، قال الهروي: يقال لمن أقام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربّه، ومنه سميّ (الربانيون) لقيامهم بالكتب.
1 / 23
وفي «الصحّاح»: ربّ فلانٌ ولده يربّه تربية أي ربّاه، والمربون: جمع المربّي.
والرّب: مشتقٌ من التربية، فهو ﷾ مدبّر لخلقه ومربيّهم، ويطلق الربّ على معان وهي: (المَالك، والمصلح، والمعبود، والسيّد المطاع) تقول: هذا ربّ الإبل، وربّ الدار، أي مالكها، ولا يقال في غير الله إلا بالإضافة، ففي الحديث الشريف: «لا يقل أحدُكم: أطعمْ ربّك، وضّيْء ربّك، ولا يقل أحدكم ربيّ، وليقل سيّديّ ومولاي» .
والربّ: المعبود، ومنه قول الشاعر:
أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
والربّ: السيّد المطاع، ومنه قوله تعالى: ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ [يوسف: ٤١] أي سيّده.
والربّ: المصلح، ومنه قول الشاعر:
يربّ الذي يأتي من الخير إنّه ... إذا سئل المعروف زاد وتممًّا
﴿العالمين﴾: جمع عالَم، والعالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط والأنام.
قال أبو السعود: العالَم: اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع ﵎ من المصنوعات.
قال ابن الجوزي: العالم عند أهل العربية: اسم للخلق من مبدئهم إلى
1 / 24
منتهاهم، فأمّا أهل النظر، فالعالَم عندهم: اسمٌ يقع على الكون الكلّي المُحْدَث من فلَك، وسماءٍ، وأرضٍ وما بين ذلك وفي اشتقاق العالَم قولان:
أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوّي قول أهل اللغة.
والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوّي قول أهل النظر.
فكلُ ما في هذا الكون دالّ على وجود الصانع، المدبّر، الحكيم كما قال الشاعر:
فيا عجبًا كيف يُعْصى الإله ... أم كيف يَجْحده الجاحد؟
ولله في كل تحريكة ... وتسكينةٍ أبدًا شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد
قال ابن عباس: (ربّ العالمين أي ربّ الإنس، والجنّ، والملائكة) .
وقال الفرّاء وأبو عبيدة: العالَمُ عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: (الإنس، والجنّ، والملائكة، والشياطين) ولا يقال للبهائم: عالَم لأن هذا الجمع جمع من يعقل خاصةً، قال الأعشى: (ما إن سمعت بمثلهم في العالمين) .
وقال بعض العلماء: كلّ صنف من أصناف الخلائق عالمٌ، فالإنس عالم، والجنّ عالم، والملائكة عالم، والطير عالم، والنبات عالم، والجماد عالم. . الخ فقيل: ربّ العالمين ليشمل جميع هذه الأصناف من العوالم.
﴿الرحمن الرحيم﴾: اسمان من أسمائه تعالى مشتقان من الرحمة، ومعنى
1 / 25
﴿الرحمن﴾: المنعم بجلائل النعم، ومعنى ﴿الرحيم﴾: المنعم بدقائقها.
ولفظ ﴿الرحمن﴾ مبنيّ على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها، لأن بناء (فعلان) في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشبَع: شبعان.
قال الخطّابي: ف ﴿الرحمن﴾ ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمّت المؤمن والكافر.
و﴿الرحيم﴾ خاص للمؤمنين كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣] .
ولا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على غير الله تعالى لأنه مختص به جلّ وعلا، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضًا قال تعالى: ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] قال القرطبي: «وأكثرُ العلماء على أن الرحمن مختصّ بالله ﷿، لا يجوز أن يسمّى به غيره، ألا تراه قال: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾ [الإسراء: ١١٠] فعادَل الاسم الذي لا يَشْركه فيه غيره: ﴿أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥] فأخبر الرحمن هو المستحق للعبادة جلّ وعزّ، وقد تجاسر (مسيلمة الكذاب) لعنه الله فتسمى ب (رحمان اليمامة) ولم يتسمّ به حتى قرع مسامَعه نعت الكذّاب، فألزمه الله ذلك حتى صار هذا الوصف لمسيلمة عَلَمًا يُعرف به» .
﴿يَوْمِ الدين﴾: يوم الجزاء والحساب، أي أنه سبحانه المتصرّف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، والدينُ في اللغة: الجزاءُ، ومنه قوله ﵇: «إفعل ما شئت كما تدين تدان» أي كما تفعل تجزى.
قال في «اللسان»: والدينُ: الجزاء والمكافأة، ويومُ الدين: يوم الجزاء،
1 / 26
وقوله تعالى: ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ [الصافات: ٥٣] أي مجزيّون محاسبون، ومنه الديّان في صفة الله ﷿ قال لبيد:
حصادك يومًا ما زرعت وإنما ... يُدان الفتى يومًا كما هو دائن
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: نعبدُ: نذلّ ونخشع ونستكين، لأن العبودية معناها: الذلّة والاستعانة، مأخوذ من قولهم: طريق معبّد أي مذلّل وطئته الأقدام، وذلّلته بكثرة الوطء، حتى أصبح ممهدًا.
قال الزمخشري: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه ثوبٌ ذو عَبَدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج، ولذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم. فكان حقيقًا بأقصى غاية الخضوع.
والمعنى: لك اللهمّ نذل ونخضع ونخصك بالعبادة لأنك المستحق لكل تعظيم وإجلال، ولا نعبد أحدًا سواك.
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: الاستعانة: طلب العون، قال الفراء: أعنتهُ إعانةً، واستعنتهُ واستعنت به، وفي الدعاء: ربّ أعنّي ولا تُعِنْ عليّ، ورجل معوان: كثير الإعانة للناس، وفي حديث ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)
والمعنى: إيّاك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك في أمورنا كلها، فلا يملك القدرة على عوننا أحد سواك، وإذا كان من يكفر بك يستعين بسواك، فنحن لا نستعين إلا بك.
1 / 27
﴿اهدنا﴾: فعل دعاء ومعناه: دلّنا على الصراط المستقيم، وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنْسك وقُربك.
والهداية في اللغة: تأتي بمعنى الدلالة كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧] وتأتي بمعنى الإرشاد وتمكين الإيمان في القلب كما قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ...﴾ [القصص: ٥٦] .
فالرسول ﷺ َ هادٍ بمعنى أنه دالّ على الله ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] ولكنه لا يضع الإيمان في قلب الإنسان. وفعل هدى يتعدى ب (إلى) وب (اللام) كقوله تعالى: ﴿فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم﴾ [الصافات: ٢٣] وقوله: ﴿الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا﴾ [الأعراف: ٤٣] وقد يتعدّى بنفسه كما هنا ﴿اهدنا الصراط﴾ .
﴿الصراط المستقيم﴾: الصّراط: الطريقُ، وأصله بالسين (السّراط) من الاستراط بمعنى الابتلاع، سميّ بذلك لأنّ الطريق كأنه يبتلع السالك.
قال «الجوهري»: الصّراط، والسّراط، والزّراط: الطريق قال الشاعر:
وأحملهم على وَضِح الصّراط ... أي على وضح الطريق.
قال القرطبي: أصلُ الصراط في كلام العرب: الطريق، قال الشاعر:
شحنّا أرضهم بالخيل حتّى ... تركناهم أذلّ من الصراط
والعرب تستعير (الصراط) لكل قولٍ أو عملٍ وصف باستقامةٍ أو اعوجاج، والمراد به هنا ملّة الإسلام.
﴿المستقيم﴾: الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ
1 / 28
هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه ...﴾ [الأنعام: ١٥٣] وكلّ ما ليس فيه اعوجاج يسمّى مستقيمًا.
ومعنى الآية: ثبّتنا يا ألله على الإيمان، ووفقنا لصالح الأعمال، واجعلنا ممن سلك طريق الإسلام، الموصل إلى جنّات النعيم.
﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: النعمةُ: لينُ العيش ورغده، تقولُ: أنعمتُ عينَه أي سررتها، وأنعمتُ عليه بالغتُ في التفضيل عليه، والأصل فيه أن يتعدّى بنفسه، تقول: (أنعمتُه) أي جعلته صاحب نعمة، إلاّ أنه لمّا ضمنِ معنى التفضل عليه عدّي بعلى ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ .
قال ابن عباس: هم النبيّون، والصدّيقون، والشهداء، والصالحون، وإلى هذا ذهب جمهور المفسّرين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩] .
﴿المغضوب عَلَيْهِم﴾: هم اليهود لقوله تعالى فيهم: ﴿وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ [آل عمران: ١١٢] وقوله تعالى: ﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير ...﴾ [المائدة: ٦٠] .
﴿الضآلين﴾: الضلاّل في كلام العرب هو الذهاب عن سَنَن القصد، وطريق الحق، والانحراف عن النهج القويم، ومنه قولهم: ضلّ اللبن في الماء أي غاب، قال تعالى: ﴿وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ...﴾ [السجدة: ١٠] أي غبنا بالموت فيها وصرنا ترابًا، وقال الشاعر:
ألم تسأل فتخبرْك الدّيارُ ... عن الحيّ المضلّل أين ساروا
والمراد بالضالين (النّصارى) لقوله تعالى فيهم: ﴿قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ
1 / 29
وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ [المائدة: ٧٧] .
وقال بعض المفسّرين: الأولى أن يُحمل ﴿المغضوب عَلَيْهِم﴾ على كلّ من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفُساق، ويُحمل ﴿الضالّون﴾ على كل من أخطأ في الاعتقاد، لأنّ اللفظ عامٌ، والتقييد خلاف الأصل، والمنكرون للصانع والمشركون أخبثُ دينًا من اليهود والنّصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، وهذا اختيار الإمام الفخر.
وقد ردّه الألوسي لأن تفسير المغضوب عليهم والضالين ب (اليهود والنصارى) جاء في الحديث الصحيح المأثور فلا يُعتد بخلافه.
وقال القرطبي: «جمهور المفسّرين أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسّرًا عن النبي ﷺ َ في حديث (عديّ بن حاتم) وقصة إسلامه» .
وقال أبو حيان: وإذا صحّ هذا عن رسول الله ﷺ َ وجب المصير إليه.
أقول: ما ذكره الفخر الرازي ليس فيه ردّ للمأثور، بل إنّه عمّم الحكم فجعله شاملًا لليهود والنصارى ولجميع من انحراف عن دين الله، وضلّ عن شرعه القويم، حيث يدخل في اللفظ جميع الكفّار والمنافقين، وإليك نصّ كلام الإمام «الفخر» .
قال ﵀: «ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفّار، والضّالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آياتٍ من أوّل البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار، ثمّ أتبعه بذكر
1 / 30
المنافقين، فكذا هنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ثم أعقبه بذكر الكفار وهو قوله ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ ثمّ أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: ﴿وَلاَ الضآلين﴾ .
آمين: كلمة دعاء وليست من القرآن الكريم إجماعًا، بدليل أنها لا تكتب في المصحف الشريف، ومعناها: استجب دعاءنا يا رب.
قال الألوسي: ويُسنّ بعد الختام أن يقول القارئ (آمين) لحديث أبي ميسرة» أنّ جبريل أقرأ النبي ﷺ َ فاتحة الكتاب، فلما قال: ﴿وَلاَ الضآلين﴾ قال له: قل: آمين فقال آمين «.
قال ابن الأنباري: وأمّا (آمين) فدعاء، وليس من القرآن، وهو اسم من أسماء الأفعال ومعناه: اللهمّ استجب، وفيه لغتان: القصرُ (أمين) والمدّ (آمين) فالأول على وزن (فعيل) والثاني على وزن (فاعِل) .
قال الشاعر:
يا ربّ لا تسلُبَنّي حبها أبدًَا ... ويرحمُ اللهُ عبدًا قال آمينًا
وقال ابن زيدون:
غيظ العِدَى من تساقينا الهَوَى فَدَعَوْا ... بأن نَغَصَّ فقال الدهر: آمِنا
1 / 31
المعنى الإجمالي
علّمنا الله - تقدّست أسماؤه - كيف ينبغي أن نحمده ونقدّسه، ونثني عليه بما هو أهله، فقال ما معناه: يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي فقولوا: الحمد لله رب العالمين، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإيجاد، ربّ الإنس والجن والملائكة، وربّ السماوات والأرضين، وأنا الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمّ فضله جميع الأنام، فالثناء والشكر لله رب العالمين، دون ما يعبد من دونه، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح، وهداية الخلق إلى سعادة الدنيا والآخرة، فهو السّيّد الذي لا يبلغ سؤدده أحد، والمصلح أمر عباده بما أودع في هذا العالم من نظام، يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الإنسان والنبات والحيوان، فمن شمسٍ لولاها ما وجدت حياة ولا موت، ومن غذاءٍ به قوام البشر، ومياه بها حياة النبات والحيوان، وأنا المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، فخصوني بالعبادة دون سواي، وقولوا لك اللهمّ نذلّ ونخضع، ونستكين ونخشع، ونخصّك بالعبادة، ولا نعبد أحدًا سواك، وإيّاك ربّنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإنك المستحقّ لكل إجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك.
فثبتنا يا ألله على الإسلام دينك الحق، الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، وثبتنا على الإيمان، واجعلنا ممّن سلك طريق المقربين، طريق النبيّين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ولا تجعلنا يا ألله من الحائرين عن قصد السبيل، السالكين غير المنهج القويم، من الذين ضلّوا عن شريعتك القدسية، وكفروا بآياتك ورسلك وأنبيائك، فاستحقوا اللعنة والغضب إلى يوم الدين. . اللهمّ آمين.
1 / 32
معاني الفاتحة في «ظلال القرآن»
يقول سيد قطب ﵀ في تفسيره «الظلال» ما نصه:
(يردّد المسلم هذه السورة القصيرة، ذات الأيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن، ولا تصح صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة.
تبدأ السورة ب (بسم الله الرحمن الرحيم) والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيّه ﷺ َ في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى: ﴿اقرأ باسم رَبِّكَ﴾ [العلق: ١] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أنّ الله (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن) فهو سبحانه الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجودٍ وجودَه، ويبدأ منه كل مبدوءٍ بدأه، فباسمه إذن يكون كل ابتداء، وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.
وإذا كان البدء باسم الله، وما ينطوي عليه من توحيد لله، وأدبٍ معه، يمثّل الكلّية الأولى في التصور الإسلامي، فإن استغراق معاني الرحمة في صفتي (الرحمن الرحيم) يمثّل الكليّة الثانية في هذا التصور، ويقرّر حقيقة العلاقة بين الله والعباد وعقب البدء ب ﴿بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾ يجيء
1 / 33
التوجه إلى الله بالحمد، ووصفُه بالربوبية المطلقة، يمثّل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله، والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن، فإن وجوده ابتداءً ليس إلا فيضًا من فيوضات النعمة الإلهية، وفي كل لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله، وتغمر الخلائق كلها، وبخاصة هذا الإنسان.
والربوبية المطلقة: هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغَبَش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة، وشمولُ هذه الربوبية للعالمين جميعًا، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة، لتتّجه العوالم كلها إلى ربّ واحد، تقرّ له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة.
وتبدوا العقيدة الإسلامية: في كمالها وتناسقها رحمة. . رحمةً حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقربٍ وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.
ثم تأتي هذه الصفة ﴿الرحمن الرَّحِيمِ﴾ التي تستغرق كلّ معاني الرحمة، وحالاتها ومجالاتها، تتكرر هنا في صلب السورة في آية مستقلة لتؤكد تلك الربوبية الشاملة، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الربّ ومربوبيه، وبين الخالق ومخلوقاته. . إنها صلة الرحمة والرعاية، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة النديّة.
والتعبير بقوله: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ يمثّل الكليّة الضخمة، العميقة التأثير، كلية الاعتقاد بالآخرة. والاعتقادُ بيوم الدين كلية من كليّات العقيدة الإسلامية ذات قيمة هامة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالَم آخر، وهو مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا، والصور المشوّهة المنحرفة التي لم يُقدّر لها الكمال، وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع، ما لم تتحقّق هذه الكلية في تصور البشر، وما لم يثق الفرد المحدود بأنّ له
1 / 34
حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها وأن يضحّي في سبيلها. وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعورٍ، ولا خُلُق، ولا سلوك، ولا عمل، فهما صنفان مختلفان من الخَلْق، وطبيعتان متميّزتان، لا تلتقيان في الأرض في عمل، ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء. . وهذا هو مفرق الطريق.
وقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة، فلا عبادة إلاّ لله، ولا استعان إلاّ بالله.
وهنا كذلك مفرق طريق. . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد، وهي تعلن ميلاد التحرر البشري، الكامل الشامل.
ولقد درج (الغربيون) على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: «قهر الطبيعة» ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية، المقطوعة الصلة بالله، وبروح الكون المستجيب لله، فأمّا المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبّحة لله رب العالمين، فيؤمن بأن هناك علاقة أخرى، غير علاقة القهر والجفوة، إنه يعتقد بأن الله هو مبدع هذه القُوى جميعًاِ، خلقها كلها وفق ناموس واحد، وسخّرها للإنسان ابتداءً، ويسّر له كشف أسرارها، ومعرفة قوانينها، وأنّ على الإنسان أن يشكر الله كلّما هيأ لَه أن يظفر بمعونة من إحداها، فالله هو الذي يسخّرها وليس هو الذي يقهرها
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: ١٣] .
وبعد تقرير تلك الكليّات الأساسية في التصور الإسلامي، يبدأ في التطبيق العملي ﴿اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته، وهو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين، وهذا
1 / 35
الأمر أعظم ما يطلبه المؤمن من ربه، فالهداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله، الذي ينسّق بين حركة الإنسان، وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب الله عليهم. . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين.
ولعلَّ ذلك يكشف لنا عن سرّ من أسرار اختيار السورة ليردّدها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصلاة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم﴾ [النحل: ٩٨] .
قال جعفر الصادق: «إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة، والنميمة، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهرًا، فيقرأ بلسان طاهر، كلامًا أنزل من رب طيب طاهر» .
اللطيفة الثانية: المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل:
1 / 36
(بسم الله الرحمن الرحيم)، وقد اشتهر هذا في الشعر والنثر، قال الشاعر:
لقد بسملَتْ ليلَى غداةَ لقيتُها ... فيها حبّذَا ذاك الحبيبُ المبسملُ
وفي افتتاح القرآن الكريم بهذه الآية إرشادٌ لنا أن نستفتح بها كلّ أفعالنا وأقوالنا، وقد جاء في الحديث الشريف: «كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» أي ناقص.
فإن قيل: لماذا نقول بسم الله، ولا نقول بالله؟
فالجواب كما قال العلامة أبو السعود: هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك، فقول القائل: بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك. فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى، ويقطع احتمال إرادة القسم.
اللطيفة الثالثة: يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى، فقول القائل: (بسم الله) كقوله: (بالله) وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة:
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر
أي ثمّ السلام عليكما، وقد ردّ هذا شيخ المفسرين ابن الطبري.
قال ابن جرير الطبري: لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول
1 / 37
لجاز أن يُقال: رأيت اسم زيد، وأكلتُ اسم الطعام، وشربت اسم الدواء، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله، ويقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يُقال: أكلتُ اسم العسل، يعني أكلتُ العسل؟
أقول: الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك.
قال العلامة أبو السعود: وإنما قال (بسم الله) ولم يقل (بالله) وذلك للتفريق بين اليمين والتيمن، يعني (التبرك)، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة، فذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمّى، ويتعيّن حمل الباء على الاستعانة أو التبرك.
اللطيفة الرابعة: الفرق بين لفظ (الله) ولفظ (الإله) أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره، ومعناه المعبود بحق، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره، وهو مشتق من (ألَهَ) ومعناه المعبود، سواءً كان بحق أو غير حق، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى (آلهة) جمع (إله) لأنها عُبدت بباطل من دون الله، وما كان أحد يسمى الصنم (الله) بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل: من خلقك؟ أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول: الله، وفيهم يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ...﴾ [لقمان: ٢٥] .
اللطيفة الخامسة: في قولنا (بسم الله الرحمن الرحيم) فوائد جليلة، منها التبرك بذكر اسم الله تعالى، والتعظيم لله ﷿، وطرد للشيطان لأنه يهرب من ذكر اسم الله، وفيها إظهار لمخالفة المشركين، الذين يفتتحون
1 / 38
أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى، وفيها إقرار بالألوهية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله تعالى، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما (الله) و(الرحمن) .
اللطيفة السادسة: الألف واللام في (الحمد) لاستغراق الجنس، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل، والحمد التام الوافي، إلاّ الله ربّ العالمين، فهو الإله المنعوت بصفات الكمال، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس، والصيغة وردت معرّفة (الحمدُ لله) للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر، لا حادث متجدّد، فتدبره فإنه دقيق.
اللطيفة السابعة: فائدةٌ ذكر ﴿الرحمن الرَّحِيمِ﴾: عقب لفظ ﴿رَبِّ العالمين﴾ هي أن لفظ (الربّ) ينبئ عن معنى الكبرياء، والسيادة، والقهر، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع، واليأس، والقنوط، لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب - جلّ وعلا - رحمن رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء.
قال أبو حيّان: بدأ أولًا بالوصف بالربوبيّة، فإن كان الرب بمعنى السيّد، أو بمعنى المالك، أو بمعنى المعبود، كان صفة فعل للموصوف، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية، لينبسط أمل العبد في العفو إن زلّ، ويقوى رجاؤه إن هفا.
قال ابن القيم: «وأما الجميع بين (الرحمن الرحيم) ففيه معنى بديع، وهو أنّ (الرحمن) دالّ على الصفة القائمة به سبحانه، و(الرحيم) دالّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنّ الأول الوصفُ، والثاني الفعلُ، فالأول: دالّ على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه، والثاني: دال على أنه يرحم
1 / 39
خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه، فإذا أردتّ فهم هذا فتأمل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣] ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٧] ولم يجيء قط رحمن بهم فعلمت أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته» .
ثم قال ﵀: وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب.
ومجمل القول: أنَّ معنى (الرحمن) المنعم بجلائل النعم، ومعنى (الرحيم) المنعم بدقائقها.
وقيل: إنهما بمعنى واحد، والثاني لتأكيد الأول وهو رأي الصبّان والجلال، وهو ضعيف فقد قال ابن جرير الطبري: لا توجد في القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود.
والراجح: ما ذهب إليه ابن القيم وهو أن الوصف الأول دال على الرحمة الثابتة له سبحانه، والثاني يدل على تجدّد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة والله أعلم.
اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التفنن في الكلام، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس، واستجلاب القلوب، وهذا (الإلتفات) ضرب من ضروب البلاغة، ولو جرى الكلام على الأصل لقال (إيّاه نعبد) فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة (الإلتفات) ومثله قوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١] ثم قال: ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ [الإنسان: ٢٢] وقد يكون الإلتفات من (الخطاب) إلى (الغيبة) كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] فقد كان الكلام مع المخاطبين، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات.
قال أبو حيان في «البحر»: «ونظير هذا أن تذكر شخصًا متصفًا بأوصاف جليلة، مخبرًا عنه إخبار الغائب، ويكونذلك الشخص حاضرًا معك، فتقول له: إيّاك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ
1 / 40
المقصود، ما لا يكون في لفظ (إيّاه)» .
اللطيفة التاسعة: وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين ﴿نَعْبُدُ﴾ و﴿نَسْتَعِينُ﴾ ولم يقل: (إياّاك أعبد وإيّاك أستعين) وذلك لنكتةٍ لطيفة، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا، وطلبه الاستعانة والهداية مفردًا دون سائر العرب، فكأنه يقول: يا رب أنا عبد حقير، ذليل، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين، وأدعوك معهم، فتقبّل دعائي معهم، فنحن جميعًا نعبدك ونستعين بك.
وتقديم المفعول على الفعل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ و﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يفيد القصر والتخصيص كما في قوله: ﴿وإياي فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] كما يفيد التعظيم والاهتمام به.
قال ابن عباس ﵄: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك.
قال القرطبي: إن قيل: لم قدَّم المفعول ﴿إِيَّاكَ﴾ على الفعل ﴿نَعْبُدُ﴾؟ قيل له: اهتمامًا، وشأنُ العرب تقديم الأهم، يُذكر أنْ أعرابيًا سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ: إيّاك عني، فقال له الآخر: وعنك أُعرض، فقدّما الأهم، وأيضًا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز نعبدك، ونستعين، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك، وإنما يتبع لفظ القرآن، قال العجّاج:
إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي ... واغفر خطايايَ وكثّر ورقي
1 / 41
وكرّر الاسم لئلا يتوهم إيّاك نعبد ونستعين غيرك.
اللطيفة العاشرة: نسبَ النعمة إلى الله ﷿ ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل: (غضبت عليهم) وأضللتهم، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله ﷿، حيث لا ينسب الشرّ إليه (أدبًا) وإن كان منه (تقديرًا) كما قال بعضهم: الخير كله بيديك، والشرّ ليس إليك.
فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم ﵇: ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨ - ٨٠] فلم يقل: (وإذا أمرضني) أدبًا. وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن: ﴿وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠] فلم يقولوا: أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق.
الدقائق البيانية في سورة الفاتحة
قال أبو حيان في تفسيره «البحر المحيط»: «وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب، وكان عالمًا بافتتان الكلام، قادراص على إنشاء النثار البديع والنظام، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:
النوع الأول: حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع، وناهيك حسنًا أن يكون مطلعها مفتتحًا باسم الله، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة.
النوع الثاني: المبالغة في الثناء وذلك العموم (أل) في الحمد المفيد للاستغراق.
النوع الثالث: تلوين الخطاب في قوله: ﴿الحمد للَّهِ﴾ إذ صيغته الخبر
1 / 42