الرسالة الخامسة والعشرون
حول الأفكار لمسيو بسكال
أبعث إليكم بما وضعت - منذ زمن طويل - من ملاحظات في نقد «الأفكار» لمسيو بسكال، وأرجو منكم ألا تشبهوني هنا بحزقيا، الذي أراد إحراق جميع كتب سليمان؛ فأنا أقدر عبقرية بسكال وبلاغته، ولكنني كلما قدرتها قنعت بأنه كان لا بد من تصحيحه كثيرا من هذه «الأفكار» التي ألقاها على الورق اتفاقا كيما يدقق فيها بعدئذ؛ أي إنني إذ أعجب بعبقريته أناهض بعض أفكاره.
وعلى العموم يبدو لي أن الروح التي كتب بها بسكال «أفكاره» هي إظهار الإنسان من ناحيته الممقوتة، فهو ينهمك في وصفه لنا جميع الأشرار والأشقياء، وهو يكتب ضد الطبيعة البشرية، كما كان يكتب ضد اليسوعيين، وهو يعزو إلى جوهر طبيعتنا ما لا يرد إلا إلى بعض الناس، وهو يصب الشتائم على الجنس البشري ببلاغة؛ ولذا فإنني أتعصب للبشرية، مجترئا، على هذا المبغض الأعلى للإنسان؛ ولذا فإنني أجرؤ على توكيدي أننا لسنا أشرارا ولا أشقياء بمقدار ما يقول، ثم إنني كثير الاقتناع بأنه لو اتبع في الكتاب الذي كان يتأمله ما لاح في «أفكاره» من مقصد لوضع كتابا زاخرا بالقياسات البليغة الفاسدة وبالأباطيل التي استنبطت على وجه عجيب، ومما أعتقد أيضا أن جميع هذه الكتب التي وضعت منذ زمن قريب لإثبات الدين النصراني أقدر على الإهانة مما على الإفادة، وهل يزعم هؤلاء الكتاب أنهم يعرفون أكثر مما يعرف يسوع والرسل؟ هذا عزم على دعم بلوطة بإحاطتها بقصب، فيمكن إقصاء هذا القصب غير النافع من غير أن يخشى الإضرار بالبلوطة.
وقد اخترت بعض الأفكار من بسكال مع الاحتراز، فأضع الأجوبة في أدناها، ولكم أن تحكموا في وجود الحق بجانبي أو لا: (1)
يبلغ سمو الإنسان وخبثه من الوضوح ما يجب أن يعلمنا الدين الصحيح معه بحكم الضرورة؛ وجود أصل كبير للسمو فيه، ووجود أصل كبير للخبث فيه؛ وذلك لأنه لا بد للدين الصحيح من معرفة طبيعتنا معرفة أساسية؛ أي أن يعرف كل ما هو رفيع، وكل ما هو خبيث فيها وسبب هذا وذاك، ومما يجب أيضا أن يبين لنا أسباب ما يلتقي فيها من متناقضات عجبية.
يظهر أن هذا الأسلوب في البرهنة فاسد خطر؛ وذلك لأن أسطورة بروميته وبندور وخنثى أفلاطون وعقائد السياميين تبين أيضا أسباب هذه المتناقضات الظاهرة، ولا يكون الدين النصراني أقل صحة مما هو عليه إذا لم تستنبط منه هذه النتائج اللبقة التي لا يمكن أن تكون صالحة لغير تألق الذهن.
ولا تعلم النصرانية غير البساطة والإنسانية والمحبة، فرد النصرانية إلى ما بعد الطبيعة يجعل منها منبع ضلالات. (2)
ليبحث حول هذا في جميع أديان العالم، ولير هل يوجد غير النصرانية دين يشفي الغلة في ذلك، وهل هذا ما كان قد علمه الفلاسفة الذين عرضوا علينا أن ما هو خير فينا هو كل الخير؟ وهل هذا هو الخير الحقيقي؟ وهل وجدوا دواء بلايانا؟ وهل شفاء الإنسان من زهوه في مساواته بالرب؟ وهل أتانا بدواء لميلنا إلى الملاذ الحسية أولئك الذين ساوونا بالبهائم، فحبونا بلذات الدنيا على أنها الخير كله؟
لم يعلم الفلاسفة دينا، وليست فلسفتهم ما يجب أن تناهض، ولا تجد فيلسوفا ادعى أنه موحى إليه من الله؛ وذلك لأنه يعود بهذا غير فيلسوف، فيبدو نبيا، ولا يدور الأمر حول وجوب تفضيل يسوع على أرسطو، بل حول إقامة الدليل على أن دين يسوع هو الصحيح، وكون الإسلام والمجوسية وغيرهما من الأديان فاسدة. (3)
Halaman tidak diketahui