وبين أن الواجب الوجود بذاته لا يكون وجوده. إلى ما لا نهاية له، والواجب الوجود بغيره لا يوجد.. بذاته فمتى رفع الغير الذي هو به وجوده كان ممتنع الوجود بذاته. فإذن متى أخذ وجوده بغيره وجب وجوده، ومتى أخذ وجوده بذاته كان ممكن الوجود، وإما أن يوجد وإما أن لا يوجد. لأنه بالإضافة إلى غيره يوجد ويرفع هذه الإضافة لا يوجد، وهو بحسب ذاته معرض لأحد الوجهين إلى وجود وإلى أن لا وجود، وهذا هو من طبيعة الممكن.
والممكن الوجود حادث عن محدث. والمحدث منه محدث بحسب ذاته وفي زمان يعم طرفيه، ومنه محدث بحسب ذاته لا في زمان، وهو الواجب الوجود بغيره أبدًا، فيكون محدثًا عن غيره أي مستفيد الوجود عن غيره. فقد كان بحسب ذاته لا موجودًا إذ كان مستفيدًا للوجود وحادث الوجود عن غير وذلك في غير زمان.
فتكون العقول الإلهية مع الدهر لا مع الزمان، والأجرام السماوية مع الزمان لا في زمان. وكذلك تقوم الأجرام لأنها المحدثة للزمان، وما في الكون والفساد هو بحسب الزمان لأنه في الزمان والزمان محيط له به، فيه أول وآخر.
والواجب الوجود بذاته لا يكون وجوده بغيره، فليس له سبب عنه كان وجوده ولا فاعل له ولا صورة في مادة ولا غاية ولا له أجزاء كان عنها وجوده، فهو واجب الوجود بذاته من كل الجهات، فهو واجب الوجود بذاته، وسبب الوجود لكل ما سواه. وكل ما سواه واجب الوجود به، فهو السبب الأول والواحد بذاته، البريء من إنحاء النقص الكامل الوجود، وليس وجود لسواه، وليس يمكن أن يكون وجوده إلا له، فقد انفرد به.
والخير هو وجود ذات، أو وجود ما هو صلاح ذات، والشر مقابله، وهو عدم ذات أو عدم صلاح ذات. ولما كان الأول وجوده وجود محض خالص من كل نقص، كان هو خيرًا محضًا خالصًا من كل نقص. ولما كان هو واهب كل وجود كان واهبًا لكل خير وكل صلاح. ولما كان كل ما في الكون والفساد بطبيعته وجودًا، أو عدم لوجود، كان الوجود في الكون خيرًا وعدم الوجود شرًا. غلا أنه لما. الوجود هنا أبدًا عن عدم صار العدم، وهو شر، سببًا لوجود الخير. ومن هذه الجهة قيل في الشر الذي هو عدم أنه خير بالعرض.
ومن قوله أيضًا
في الفاعل القريب والفاعل البعيد
وخلود العقل
انظر إلى قول الغزالي في آخر كتاب المشكاة فإنه يعتقد أن الأول فطر جميع الفاعلين أن يفعلوا والمنفعلين أن ينفعلوا.
وانظر إلى قول أب ينصر في عيون المسائل يقول: إن نسبة جميع الأشياء ليه من حيث أنه مبدعها أو هو الذي ليس بينه وبين مبدعها واسطة وإلى.. نسبة واحدة.
والبرهان في ذلك بين في السماع أن الفاعل الأول هو الفاعل على الحقيقة، وأن الفاعل القريب لا فعل له. فالأول هو أن الذي جعل القريب أن يفعل والمنفعل أن ينفعل عن الفاعل. والقريب في المشهور عند الجمهور هو الفاعل في المادة من حيث يأخذون الأمور في المواد. وإنما يحمد أو يذم الفاعل الأول، مثل الملك العادل إليه تنسب العدالة ولو بعد في الرتبة عمن تحته من الفاعلين، منه وكذلك الجائر. ومن ينسب فعل الحركات إلى القريب كان كالكلب يعض على الحجر الذي يرمى به غيظًا على الفاعل لا يدري أنه فعل هو في ذلك مصيب. وفي هذا صعوبة، ولا سيما إذا بعد ولم توجد الأمور في المواد الطبيعية.
والعقل الفعال بمعونة الأجرام السماوية هو الفاعل القريب في جزئيات الكون والفساد، والذي فطرهما على ذلك هو الفاعل أبدًا بالحقيقة، وهو الشيء الذي يستحق الحمد، وليس واحد منهما يجهل.
والخير وجود والشر عدم. ولولا العدم لم يكن وجود العقل الإنساني غلا مرة واحدة. وهو لا نهاية لوجوده لمن يطلب زوال وجود لا يزال ولا فساد له، فمنه الخير والشر منه، من جهة أن الشر خير لكنه بالعرض. وما أعظم منفعة الشر في الوجود، بل لا شر على الحقيقة وعلى الإطلاق في الترتيب الإلهي إذا لم يستمر توالي وجود ما في المادة. إلا أنه بل هو تمام الحكمة وإنما لعدم ما يعود بالنوع في المادة لزيادة عقل لا يفنى بل يبقى ببقاء موجود واحد بالعدد، وكل ما يوجد في المادة من غير نوعه، فمن أجل ذلك العقل وجوده وهو الغاية منه.
وقد خلق الوجود المستمر على نظام واحد في البقاء من أول أمره، وكان هذا الوجود الآخر عن ذلك من كمال الحكمة والقدرة والفضل. تبار الله أحسن الخالقين.
1 / 33