ولا تجعل سحاة كتبك غليظة إلا في العهود والسجلات، التي تحتاج إلى خواتمها وطوابعها؛ فإن محمد بن عيسى الكاتب كاتب آل طاهر، أخبر عنهم: أن عبد الله بن طاهر كتب إلى العراق في أشخاص كاتب كان كتب إليه، فكتب وغلظ سحاة كتابه فرد الكتاب إليه؛ فقدم عليه راجيا لبره وجائزته. فقال عبد الله بن طاهر: إن كان معك مسحاة فاقطع خزم كتابك وانصرف وراءك، وكذلك لا تعظم الطينة؛ ففي المثل من عظم الطينة، فإنه مظلوم، ولا تطبعها إلا بعد عنواناتها؛ فإن ذلك مراد بهم وقد يجب عليك علم إلصاق القراطيس ومحوها، ولم أر شيئا في إلصاقها ألطف من أن ينقع الصمغ العربي في الماء ساعة حتى يذوب، ثم يلصق به، وكذلك ماء الكثير أو النشاستج، ثم تطويه طيا رقيقا وتجعله في منديل نظيف ويرفع تحت وسادة حتى يجف، وأما محوها فعلى قدر لطف الكاتب وتأنيه، غير أنه ينبغي له ألا يلقط السواد من القرطاس إلا بمثل الشمع المسخن واللبان الممضوغ وما أشبههما، ثم يكون لقطه رويدا رويدا كلما لقط جانبا حوله إلى الجانب الآخر.
وأما قراءة الكتب المختومة والتلطف لنقض خواتيمها فمما لا نذكره خوفا من سفيه.
وأما تضمين الأسرار حتى لا يقرأها غير المكتوب إليه ففيه أدب، وقد تعلقت العامة بالقمي والأصبهاني، فيجب أن يبدل الحروف تبديلا يخفى، وألطف من ذلك أن تأخذ لبنا طيبا فتكتب به في قرطاس، فيذر المكتوب إليه عليه رمادا حارا من رماد القراطيس فإنه يظهر، وإن كتب بماء الزاج وذر عليه العفص المدقوق بجاز أو بماء العفص وذر عليه شيء من الزاج، أو تنقع شيئا من وشق، ثم تكتب به ثم نثرت عليه الرماد؛ فإنه يظهر وإن أحببته لا يقرأ بالنهار ويقرأ بالليل، فاكتبه بمرارة السلحفاة، وإن حاولت صنعة رسالة أو إنشاء كتاب فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، والكلمة بعياره إذا سنحت، فربما مر بك موضع يكون مخرج الكلام إذا حسب، أنا فاعل أحسن من أنا أفعل، واستفعلت أحلى من فعلت.
وأدر الألفاظ في أماكنها واعرضها على معانيها، وقلبها على جميع وجوهها، حتى تقع موقعها، ولا تجعلها قلقة نافرة؛ فمتى صارت كذلك هجنت الموضع الذي أردت تحسينه، واعلم أن الألفاظ في أماكنها كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رقاعه تغير حسنه، قال الشاعر:
إن الجديد إذا ما زيد في خلق
تبين الناس أن الثوب مرقوع
وارتصد لكتابك فراغ قلبك وساعة نشاطك، فتجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلف؛ لأن سماحة النفس بمكنونها، وجود الأذهان بمخزونها ؛ إنما هو مع الشهوة المفرطة في الشر والمحبة الغالبة فيه أو الغضب الباعث منه ذلك، قيل لبعضهم: لم لا تقول الشعر، قال: كيف أقوله وأنا لا أغضب ولا أطرب، وهذا كله إن جريت من البلاغة على عرق، وظهرت منها على حظ، فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك، ولا واقعة شهوتك عليها، فلا تنض مطيتك في التماسها، ولا تتعب بدنك في ابتغائها، واصرف عنانك عنها، ولا تطمع فيها باستعاراتك ألفاظ الناس وكلامهم؛ فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك، ومن كان مرجعه فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدم والاستضاءة بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم يكن معه أداة تولد له من بنات قلبه ونتائج ذهنه الكلام الحر والمعنى الجزل، فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير.
على أن كلام العظماء المطبوعين ودرس رسائل المتقدمين على كل حال، مما يفتق اللسان ويوسع المنطق ويشحذ الطبع ويستثير كوامنه إن كانت فيه سجية.
قال العتابي: ما رأينا فيما تصرفنا فيه من فنون العلم، وجرينا فيه من صنوف الآداب شيئا أصعب مراما ولا أوعر مسلكا، ولا أدل على نقص الرجال ورجاحتهم، وأصالة الرأي وحسن التمييز منه، واختياره من الصناعة التي خطبتها، والمعنى الذي طلبته وليس شيء أصعب من اختيار الألفاظ وقصدك بها إلى موضعها؛ لأن اللفظة تكون أخت اللفظة وقسيمتها في الفصاحة والحسن ولا يحسن في مكان غيرها، وبتمييز هذه المعاني ومناسبة طبائع جهابذتها ومشاكلة أرواحهم، جعلوا الكتابة نسبا وقرابة، وأوجبوا على أهلها حفظها.
سهل بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان مفترقة، ومن لم يعرف فضلها وجهل أهلها وتعدى بهم رتبتهم، التي وصفهم الله بها، فإنه ليس من الإنسانية في شيء.
Halaman tidak diketahui