أما بعد: فإن أهل الفضل في اللب، والوفاء في الود، والكرم في الخلق، لهم من الثناء الحسن في الناس لسان صدق يشيد بفضلهم، ويخبر عن صحة ودهم، وثقة مؤاخاتهم، فيتخير إليهم رغبة الإخوان، ويصطفي لهم سلامة صدورهم، ويجتبي لهم ثمرة قلوبهم، فلا مثني أفضل تقريظا، ولا مخبر أصدق أحدوثة منه، وقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك وبين الناس طريقة محمودة نسبت إلى مزيتها في الفضل، وجمل بها ثناؤك في الذكر، وشهد لك بها لسان الصدق، فعرفت بمناقبها ووسمت بمحاسنها، فأسرع إليك الإخوان برغبتهم مستبقين يبتدرون ودك، ويصلون حبلك ابتدار أهل التنافس في حظ رغيب، نصبت لهم غاية يجري إليها الطالبون، ويفوز بها السابقون، فمن أثبت الله عندك بموضع الحرز والثقة، وملأ بك يده من أخي وفاء ووصلة، واستنام منك إلى شعب مأمون وعهد محفوظ، وصار مغمورا بفضلك عليه في الود يتعاطى من مكافأتك ما لا يستطيع، ويطلب من أثرك في ذلك غاية بلوغها شديد، فلو كنت لا تؤاخي من الإخوان إلا من كافأ بودك ، وبلغ من الغايات حدك؛ ما آخيت أحدا ولصرت من الإخوان صفرا، ولكن إخوانك يقرون لك بالفضل، وتقبل أنت ميسورهم من الود، ولا تجشمهم كلف مكافأتك، ولا بلوغ فضلك فيما بينك وبينهم؛ فإنما مثلك في ذلك ومثلهم، كما قال الأول:
ومن ينازع سعيد الخير في حسب
ينزع طليحا ويقصر قيده الصعد
ولم أرد بهذا الثناء عليك تزكيتك، ليكون ذلك قربة عندك وآخية لي لديك، ولكن تحريت فيما وصفت من ذلك الحق والصدق وتنكبت الإثم والباطل؛ فإن القليل من الصدق البريء من الكذب، أفضل من كثير الصدق المشوب بالباطل، ولقد وصفت من مناقبك ومحاسن أمورك، وإني لأخاف الفتنة عليك، حين تسمع بتزكية نفسك وذكري ما ذكرت من فضلك؛ لأن المدح مفسدة للقلب مبعثة للعجب، ثم رجوت لك المنعة والعصمة؛ لأني لم أذكر إلا حقا، والحق ينفي من اللبيب العجب وخيلاء الكبر، ويحمله على الاقتصاد والتواضع، وقد رأيت إذ كنت في الفضل والوفاء على ما وصفت منك أن آخذ بنصيبي من ودك، وأصل وثيقة حبلي بحبلك فيجري بيننا من الإخاء أواصر الأسباب التي بها يستحكم الود ويدوم العهد، وعلمت أن تركي ذلك غبن وإضاعتي إياه جهل؛ لأن التارك للحظ داخل في الغبن، والعائد عن الرشد مرجف إلى الغي، فارغب من ودي فيما رغبت فيه من ودك؛ فإني لم أدع شيئا أستتلي به منك الرغبة، وأجتر به منك المودة إلا وقد اقتدت إليك ذريعته، وأعملت نحوك مطيته لترى حرصي على مودتك، ورغبتي في مؤاخاتك، والسلام.
جواب من يحيى بن زياد في صفة الإخاء:
أما بعد: فإنا لما رأينا موضع الإخاء، ممن يحتمله في تأنيسه من الوحشة وتقريبه لذي البعدة، ومشاركته بين ذوي الأرحام في القربة؛ لم نرض بمعرفة عينه دون معرفة نسبته، فنسبنا الإخاء فوجدناه في نسبته لا يستحق اسم الإخاء إلا بالوفاء، فلما انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى الصبر، فوجدناه محتويا على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنجابة والزكانة، وسائر ما لا يأتي عليه العدد من المحامد ، ثم انحدرنا فيما أصعدنا فيه من هذا النسب، فعدنا إلى الإخاء فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلها أخلاقه.
ولما استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها، رأينا أن نتخير له المواضع في صواب التوزير وإحكام التقدير، وعلمنا أن الاحتباس به أحسن من الندم بعد بذله، واستوجب إذ كان جماع المحامد أن نتخير له محامله التي كان يحمل عليها، فكان الناس فيما احتبسنا به عنهم من الإخاء على صنفين: فصنف عذرونا بالتحبس للتخير، إذ كان التخير من شأنهم، وصنف هم ذوو سرعة إلى الإخاء وسرعة في الانتهاء، فقدموا اللائمة واستعجلوا بالمودة وتركوا باب التروية، واستحلوا عاجل المحبة ولهوا عن آجل الثقة، فكانوا بذلك أهل لائمة، ولم يجد المعذرون إلا الصبر على تلك، والاستعمال للرأي والاستعداد بالعذر عند المحاجة.
وقد فهمت كتابك إلي بالمودة واستحثاثك إياي في الأخوة وما دنوت به من حرمة المحبة، فنازعت إليك نفسي بمثل الذي نازعت به إلي نفسك، فواثبتني عادة الاستعمال للتروية في الخبرة، والتخير للمغبة فجلت عن كتابك جولة غير نافرة، ثم راجعت مقاربتك، فقلت ألقي إلي أسباب المودة قبل كشف الغطاء بالخبرة، فخشيت أن تعذر نفسك بالتقدم، وتحدث الزهادة للتعسف بالجهالة عند الخبرة، فجلت عن هذا جولة كالجولة الأولى، ثم عاودت إسعافك وطاعة التشوق ومعصية التخير، ثم قلت: ما حال من جعل الظن دون اليقين والتقدم قبل الوثيقة، فلما كان الرأي لي خصما تنكبت الوقوع في خلافه، فلم أجد إلا الإدبار عن إقبالك سبيلا، ولا مع ذلك في طاعة التشوق حجة، فتغيبت السبيل بين ذلك إلى إعطائك طرف حبل الإخاء في غير الخروج من سبيل التخير.
وكرهت أن تستعبدني بالإخاء، قبل أن أعرفك بحسن الملكة، وأن تستظهر بي على الأعداء قبل أن أعرفك بعدل السيرة، وأن تستضيء بي في ظلم الجهل قبل أن أعرفك بعقد اللب، وأن تستمكن بي في المطالب قبل أن أعرفك بقصد الهمة، فقدمت إليك الترحيب والعدة وأحسنت عنك المفاوضة والثقة، وتنظرت أن تثمر لي فأذوق جناك، فأعرفك بالمذاقة في الطعم ، إما لافظا وإما مستبلغا ، فإن كان اللفظ لم أكن من الرأي في قلبه، وإن كان الاستبلاغ ذوقتك ما تشوقت إليه، مما ادعيت مني به الخبرة، وأول ما أنا معتبر به منك المواظبة على استنجاح ما سألت أو السآمة له؛ فإن كانت المواظبة فأحد الشهود المعدلين، وإن كانت السآمة فأنت عن حمل ما تعطي أضعف منك عن جميل ما تطلب، طالعني بكتبك فإنك قد حللت قبلي عقدا من التحفظ، وعقدت عقدا من التقرب، والسلام.
القسم الثاني
Halaman tidak diketahui