اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا: زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة في المعاش والمعاد، فلا تفرطن في اكتسابهم وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم .
اعلم أنك واجد رغبتك من الإخاء عند أقوام، قد حالت بينك وبينهم بعض الأبهة التي قد تعتري أهل المروات، فتحجز منهم كثيرا ممن يرغب في أمثالهم، فإذا رأيت أحدا من أولئك قد عثر به الزمان فأقله.
إذا عرفت نفسك من الوالي بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثرن من الدعاء له في كل كلمة؛ فإن ذلك شبيه بالوحشة والغربة إلا أن تكلمه على رءوس الناس، فلا تأل عما عظمه ووقره.
إن استطعت ألا تصحب من صحبت من الولاة إلا على شعبة من قرابة أو مودة فافعل؛ فإن أخطأك ذلك فاعلم أنك تعمل على عمل السخرة، وإن استطعت أن تجعل صحبتك لمن قد عرفك منهم بصالح مروءتك قبل ولايته فافعل.
إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه، غير أن الأرذال والأنذال هم أشد لذلك تصنعا، وعليه مكابرة وفيه تمحلا، فلا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطى عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التمحل والتصنع.
لا يعرفنك الولاة بالهوى في بلدة من البلدان، ولا قبيلة من القبائل فيوشك أن تحتاج فيها إلى حكاية أو مشاهدة فتتهم في ذلك، وإذا أردت أن يقبل قولك فصحح رأيك ولا تشوبنه بشيء من الهوى؛ فإن الرأي يقبله منك العدو، والهوى يرده عليك الولي، وأحق من احترست من أن يظن بك خلط الرأي بالهوى الولاة؛ فإنها خديعة وخيانة وكفر.
إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعية، فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس بينهما خيار، إما ميلك مع الوالي على الرعية، وهذا هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك إلا بالموت أو الهرب، واعلم أنه لا ينبغي لك وإن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحبله إلا المحافظة عليه، إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلا.
تبصر ما في الوالي من الأخلاق التي تحب والتي تكره، وما هو عليه من الرأي الذي يرضى له والذي لا يرضى، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحب ويكره إلى ما تحب وتكره؛ فإن هذه رياضة صعبة تحمل على التنائي والقلى.
اعلم أنك قلما تقدر على رد رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة والمناقضة، وإن لم يجمح عن السلطة، ولكنك تقدر أن تعينه على أحسن رأيه، وتسبب له منه وتقويه فيه، فإذا قويت منه المحاسن كانت هي التي تكنه عن المساوي، وإذا استحكمت منه ناحية من الصواب، كان ذلك هو الذي يبصره الخطأ بألطف من تبصيرك، وأعدل من حكمك في نفسه؛ فإن الصواب يريد بعضه بعضا ويدعو بعضه إلى بعض، فإذا كانت له مكانة اقتلع الخطأ فاحفظ هذا الباب وأحكمه، ولا يكونن طلبك ما عند الوالي بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما قبله بالاستحقاق له واستأن وإن طالت الأناة؛ فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له.
لا تخبرن الوالي أن لك عليه حقا، وأنك تعتد عليه ببلاء، وإن استطعت أن ينسى حقك وبلاءك فافعل، وليكن ما تذكره من ذلك تجديدك له النصيحة والاجتهاد، وألا يزال ينظر منك إلى آخر يذكره أول بلائك.
Halaman tidak diketahui